الفاتيكان
21 كانون الأول 2021, 14:30

في رسالته لليوم العالميّ للسّلام، البابا فرنسيس يقترح ثلاث طرق لبناء سلام دائم، ما هي؟

تيلي لوميار/ نورسات
في رسالته لليوم العالميّ الخامس والخمسين للسّلام 2022 والّتي صدرت ظهرًا، اقترح البابا فرنسيس ثلاث طرق لبناء سلام دائم: الحوار بين الأجيال، التّربية والعمل"، فكتب بحسب "فاتيكان نيوز":

"ما أجمل على الجبال قدمي المبشّر، المخبر بالسّلام" تعبّر كلمات النّبيّ أشعيا عن التّعزية، وتنفُّس الصّعداء لشعب منفيّ، أنهكه العنف والاستغلال، وكان عُرضة لعدم الاستحقاق والموت. وحوله تساءل النّبيّ باروك: "لماذا أنت في أرض الأعداء، قد ذبلت في أرض الغربة وتنجَّستَ بالأموات وحُسِبت مع الّذين هم في الجحيم". بالنّسبة لهؤلاء الأشخاص، كان مجيء رسول السّلام يعني الرّجاء في ولادة جديدة من تحت حطام التّاريخ، بداية لمستقبل منير.

واليوم أيضًا تبقى للأسف مسيرة السّلام، الّتي أطلق عليها القدّيس بولس السّادس الاسم الجديد للتّنمية المتكاملة، بعيدةً عن الحياة الحقيقيّة للعديد من الرّجال والنّساء، وبالتّالي للعائلة البشريّة، الّتي أصبحت مترابطة بشكل كامل. على الرّغم من الجهود المتعدّدة الهادفة إلى حوار بنّاء بين الأمم، يتوسّع ضجيج الحروب والنّزاعات الّذي يصمّ الآذان، بينما تتطوّر الأمراض ذات الأبعاد الوبائيّة، وتزداد آثار تغيّر المناخ والتّدهور البيئيّ سوءًا، وتصبح أكثر خطورة مأساة الجوع والعطش ويستمرّ في السّيطرة على المجتمع نموذج اقتصاديّ يقوم على الفرديّة أكثر من المشاركة التّضامنيّة. وكما في زمن الأنبياء القدماء، اليوم أيضًا، لا تتوقّف صرخة الفقراء والأرض عن الارتفاع لكي تطلب العدالة والسّلام. إنَّ السّلام، في كلِّ عصر، هو عطيّة من العُلى وثمرة التزام مشترك. هناك، في الواقع، "هندسة" للسّلام، حيث تتدخّل مؤسّسات المجتمع المختلفة، وهناك "حرفيّة" للسّلام تشمل كلّ وفرد منّا بطريقة شخصيّة. يمكن للجميع أن يعملوا معًا من أجل بناء عالم أكثر سلامًا: بدءًا من قلوبهم وعلاقاتهم في العائلة والمجتمع والبيئة، وصولاً إلى العلاقات بين الشّعوب والدّول.

وبالتّالي أريد هنا أن أقترح ثلاث طرق لبناء سلام دائم. أوّلاً، الحوار بين الأجيال كأساس لتحقيق المشاريع المشتركة. ثانيًا: التّربية كعامل حرّيّة ومسؤوليّة وتنمية. وأخيرًا، العمل من أجل التّحقيق الكامل للكرامة البشريّة. إنّها ثلاثة عناصر أساسيّة "لإعطاء الحياة لميثاق اجتماعيّ"، والّذي بدونه يظهر كلّ مشروع سلام متناقض وغير منسجم.

1. حوار بين الأجيال من أجل بناء السّلام

في عالم لا يزال في قبضة الوباء، والّذي تسبّب في الكثير من المشاكل، يحاول البعض أن يهربوا من الواقع باللّجوء إلى عوالم خاصّة والبعض الآخر يواجهونه بعنف مُدمِّر، ولكن بين اللّامبالاة الأنانيّة والاحتجاج العنيف هناك دائمًا خيار ممكن: الحوار. الحوار بين الأجيال. إنّ أيّ حوار صادق، رغم أنّه لا يخلو من جدليّة صحيحة وإيجابيّة، يتطلّب على الدّوام ثقة أساسيّة بين المتحاورين. وبالتّالي علينا أن نستعيد هذه الثّقة المتبادلة! إنّ الأزمة الصّحّيّة الحاليّة قد ضاعفت لدى الجميع الشّعور بالوحدة والانغلاق على الذّات. إنَّ عزلة المسنّين تترافق لدى الشّباب بالشّعور بالعجز وغياب فكرة مشتركة عن المستقبل. إنَّ هذه الأزمة مؤلمة بالتّأكيد. ومع ذلك، يمكن للأشخاص فيها أن يعبّروا عن أفضل ما هم عليه. في الواقع، وخلال الوباء بالتّحديد رأينا في مختلف أنحاء العالم، شهادات سخيّة للشّفقة والمشاركة والتّضامن.

إنّ الحوار يعني الإصغاء إلى بعضنا البعض والمناقشة والاتّفاق والسّير معًا. وتعزيز جميع هذه الأمور بين الأجيال يعني أن نحرث التّربة الصّلبة العقيمة للنّزاع والإقصاء لكي نزرع بذور السّلام الدّائم والمشترك. وفي حين أنّ التّطوّر التّكنولوجيّ والاقتصاديّ قد أدّى في كثير من الأحيان إلى تقسيم الأجيال، إلّا أنَّ الأزمات المعاصرة تُظهر مدى الحاجة الملحّة لتحالفها. فمن ناحية، يحتاج الشّباب إلى الخبرة الوجوديّة والحكميّة والرّوحيّة للمسنّين؛ ومن ناحية أخرى، يحتاج المسنّون إلى دعم الشّباب ومحبّتهم وإبداعهم وديناميكيّتهم. لا يمكن للتّحدّيات الاجتماعيّة الكبيرة والعمليّات السّلميّة أن تستغني عن الحوار بين حرّاس الذّاكرة- المسنّون- والّذين يسيرون قدمًا بالتّاريخ- الشّباب-؛ ولا عن استعداد كلّ منهم في إفساح المجال للآخر، وعدم الادّعاء بالسّيطرة على الوضع بأكمله من خلال السّعي وراء مصالحه المباشرة كما ولو لم يكن هناك ماضٍ أو مستقبل. إنّ الأزمة العالميّة الّتي نعيشها تدُلّنا في اللّقاء والحوار بين الأجيال على القوّة الدّافعة لسياسة سليمة، والّتي لا تكتفي بإدارة الموجود "بالرُّقَعِ أو بالحلول السّريعة"، ولكنّها تقدّم نفسها كشكل بارز من أشكال محبّة الآخر في البحث عن مشاريع مشتركة ومستدامة.

إذا عرفنا، في الصّعوبات، كيف نمارس هذا الحوار بين الأجيال فسنكون متجذّرين بشكل جيّد في الحاضر، ومن هذا الموقع، سنرعى الماضي والمستقبل: سنحافظ على الماضي لكي نتعلّم من التّاريخ ونشفي الجراح الّتي تؤثِّر علينا أحيانًا؛ وسننكبُّ على المستقبل، لكي نُغذِّي الحماس، ونجعل الأحلام تنبت، ونولِّد النّبوءات، ونجعل الرّجاء يُزهر. وبهذه الطّريقة إذ نكون متّحدين يمكننا أن نتعلّم من بعضنا البعض. لأنّه بدون الجذور، كيف يمكن للأشجار أن تنمو وتعطي الثّمار؟ يكفي أن نفكّر في موضوع العناية ببيتنا المشترك. إنَّ البيئة نفسها، في الواقع، هي قرض يحصل عليه كلّ جيل وعليه أن ينقله إلى الجيل التّالي. لذلك، ينبغي علينا أن نقدّر ونشجّع العديد من الشّباب الّذين يلتزمون من أجل عالم أكثر عدالة وتنبُّهًا لحماية الخليقة، وقد أوكِل إلى عنايتنا. إنّهم يقومون بذلك بقلق وحماس، ولاسيّما بحسِّ مسؤوليّة إزاء تغيير المسار المُلحّ، الّذي تفرضه علينا الصّعوبات الّتي نشأت بسبب الأزمة الأخلاقيّة والاجتماعيّة والبيئيّة اليوم. من ناحية أخرى، لا يمكن لفرصة بناء مسارات سلام معًا أن تتجاهل التّربية والعمل، والأماكن والسّياقات المُتميِّزة للحوار بين الأجيال. إنّ التّربية هي الّتي توفّر قواعد الحوار بين الأجيال، وفي خبرة العمل، يجد الرّجال والنّساء من مختلف الأجيال أنفسهم يتعاونون، ويتبادلون المعارف والخبرات والمهارات من أجل الخير العامّ.

2. التّربية والتّعليم كمحرِّكَين للسّلام

خلال السّنوات الأخيرة، انخفضت على صعيد عالميّ ميزانيّة التّربية والتّعليم، باعتبارهما نفقات وليس استثمارًا. ومع ذلك، فهما يمثّلان القوّتين الموجِّهتين الأساسيّتين للتّنمية البشريّة المتكاملة: إذ تجعلان الشّخص حرًّا ومسؤولاً وهما أساسيّتان للدّفاع عن السّلام وتعزيزه. بمعنى آخر تشكّل، التّربية والتّعليم أساسات مجتمع مدنيّ متماسك وقادر على خلق الرّجاء والغنى والتّقدّم. من ناحية أخرى، زادت النّفقات العسكريّة، وتخطّت المستوى المسجّل في نهاية "الحرب الباردة"، ويبدو أنّه قد قُدِّر لها أن تنمو بشكل مفرط. لذلك من الملائم والملحّ أن يقوم الّذين يشغلون مسؤوليّات حكوميّة بوضع سياسات اقتصاديّة توفّر انعكاسًا للعلاقة بين الاستثمار العامّ في التّربية والأموال المخصّصة للتّسلّح. من ناحية أخرى، لا يمكن للسّعي لتحقيق عمليّة حقيقيّة لنزع السّلاح الدّوليّ إلّا أن يعود بفوائد كبيرة على تنمية الشّعوب والأمم، ويُحرّر الموارد الماليّة من أجل استخدامها بطريقة أكثر ملاءمة للصّحّة، والمدارس، والبنى التّحتيّة، والعناية بالأرض. وما إلى ذلك.

آمل أن يترافق الاستثمار في التّربية بالتزام أكبر من أجل تعزيز ثقافة العناية. لأنّها إزاء انقسامات المجتمع وجمود المؤسّسات، يمكنها أن تصبح اللّغة المشتركة الّتي تكسر الحواجز وتبني الجسور. ينمو البلد عندما تتحاور ثرواته الثّقافيّة المختلفة بشكل بناء: الثّقافة الشّعبيّة، والثّقافة الجامعيّة، وثقافة الشّباب، والثّقافة الفنّيّة، والثّقافة التّكنولوجيّة، والثّقافة الاقتصاديّة، وثقافة العائلة، وثقافة الإعلام. لذلك من الضّروريّ أن نصوغ نموذجًا ثقافيًّا جديدًا، من خلال ميثاق تربويّ عالميّ للأجيال الشّابّة ومعها، يُلزم العائلات والجماعات والمدارس والجامعات والمؤسّسات والأديان والحكّام والبشريّة جمعاء في تنشئة أشخاص شعب ناضجين. ميثاق يعزّز التّربية على الإيكولوجيا المتكاملة، بحسب نموذج ثقافيّ للسّلام والتّنمية والاستدامة، يتمحور حول الأخوّة والعهد بين الكائن البشريّ والبيئة. إنَّ الاستثمار في تربية وتعليم الأجيال الشّابّة هو الدّرب الرّئيسيّ الّذي يقودها، من خلال تحضير خاصّ، لكي تحتلّ بربح مكانًا صحيحًا في عالم العمل.

3. تعزيز العمل وتأمينه يبني السّلام

العمل هو عامل لا غنى عنه في بناء السّلام والحفاظ عليه. إنّه تعبير عن الذّات وعن العطايا الشّخصيّة، ولكنّه أيضًا التزام، وجهد، وتعاون مع الآخرين، لأنّ المرء يعمل على الدّوام مع شخص ما أو من أجل شخص ما. من هذا المنظور الاجتماعيّ الملحوظ، يُشكّل العمل المكان الّذي نتعلّم فيه أن نقدِّم إسهامنا من أجل عالم أكثر ملاءمة للعيش وجميل. إنَّ وباء فيروس الكورونا قد أدّى إلى تفاقم الوضع في عالم العمل، الّذي كان يواجه تحدّيات متعدّدة. ملايين النّشاطات الاقتصاديّة والإنتاجيّة قد فشلت؛ والعمّال غير المستقرّين قد أصبحوا أكثر هشاشة؛ وكثيرون من الّذين يؤدّون الخدمات الأساسيّة أصبحوا أكثر خفاء بالنّسبة للوعي العامّ والسّياسيّ؛ وتسبّب التّعليم عن بعد في كثير من الحالات في حدوث تراجع في التّعلّم وفي المسارات المدرسيّة. كذلك، يواجه الشّباب الّذين يدخلون السّوق المهنيّة والبالغون الّذين سقطوا في البطالة اليوم آفاقًا مأساويّة.

لقد كان تأثير الأزمة على الاقتصاد غير الرّسميّ، الّذي غالبًا ما يشمل العمّال المهاجرين، مدمّرًا. فكثيرون منهم لا تعترف بهم القوانين الوطنيّة، وبالتّالي فكأنّهم غير موجودون؛ ويعيشون في ظروف محفوفة بالمخاطر لهم ولعائلاتهم، ويتعرّضون لمختلف أشكال العبوديّة ويُحرمون من نظام رعاية يحميهم. ويُضاف إلى ذلك، أنَّ ثلث سكّان العالم ممّن هم في سنّ العمل حاليًّا يتمتّعون بنظام حماية اجتماعيّة، أو يمكنهم أن يستفيدوا منه فقط في أشكال محدودة. وفي العديد من البلدان، يتزايد العنف والجريمة المنظّمة، ويخنقان حرّيّة الأشخاص وكرامتهم، ويسمّمون الاقتصاد ويمنعون الخير العامّ من التّطوّر. وبالتّالي لا يمكن للإجابة على هذا الوضع إلّا أن تمُرَّ من خلال توسيع لفرص عمل كريم.

إنّ العمل في الواقع، هو الأساس الّذي يُبنى عليه العدل والتّضامن في كلّ جماعة. ولهذا السّبب، لا يجب أن نسعى على الدّوام لاستبدال العمل البشريّ بالتّقدّم التّكنولوجيّ: لأنّه وبهذه الطّريقة ستؤذي البشريّة نفسها. إنَّ العمل هو ضرورة، إنّه جزء من معنى الحياة على هذه الأرض، ودرب للنّضج، والنّموّ البشريّ، والتّحقيق الشّخصيّ. وبالتّالي علينا أن نوحِّد الأفكار والجهود لكي نخلق الظّروف ونبتكر الحلول، لكي يكون لكلّ إنسان في سنّ العمل إمكانيّة، ليساهم من خلال عمله في حياة العائلة والمجتمع. لقد أصبح من الملحّ اليوم أكثر من أيّ وقت مضى أن نُعزّز في جميع أنحاء العالم ظروف عمل لائقة وكريمة، موجّهة نحو الخير العامّ والحفاظ على الخليقة. من الضّروريّ أيضًا أن نضمن ونعضد حرّيّة المبادرات الرّياديّة، وأن ننمّي في الوقت عينه مسؤوليّة اجتماعيّة متجدّدة، لكي لا يكون الرّبح هو المعيار التّوجيهيّ الوحيد. وفي هذا المنظور، علينا أن نحفِّز ونقبل وندعم المبادرات الّتي تحثّ الشّركات، على جميع المستويات، على احترام حقوق الإنسان الأساسيّة للعمّال والعاملات ونزيد الوعي بهذا المعنى، ليس لدى المؤسّسات وحسب، وإنّما لدى المستهلكين والمجتمع المدنيّ والواقع الرّياديّ أيضًا. لأنّه كلّما زاد وعي هذه الوقائع بدورها الاجتماعيّ، أصبحت أكثر فأكثر أماكن تمُارَس فيها الكرامة البشريّة، وبالتّالي تشارك هي أيضًا بدورها في بناء السّلام. وفي هذا الجانب، تُدعى السّياسة لكي تلعب دورًا فعّالاً وتُعزِّزَ التّوازن العادل بين الحرّيّة الاقتصاديّة والعدالة الاجتماعيّة. ويمكن لجميع الّذين يعملون في هذا المجال، بدءًا من العمال ورجال الأعمال الكاثوليك، أن يجدوا إرشادات أكيدة في العقيدة الاجتماعيّة للكنيسة.

أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء! فيما نسعى لتوحيد الجهود لكي نخرج من الوباء، أريد أن أجدّد شكري إلى الّذين التزموا وما زالوا يكرّسون أنفسهم بسخاء ومسؤوليّة من أجل ضمان التّعليم والسّلامة وحماية الحقوق، من أجل تأمين الرّعاية الطّبّيّة، وتسهيل اللّقاء بين أفراد الأسرة والمرضى، وضمان الدّعم الاقتصاديّ للمحتاجين أو الّذين فقدوا وظائفهم. وأؤكّد صلاتي لجميع الضّحايا وعائلاتهم. إلى الحكّام وجميع الّذين يشغلون مسؤوليّات سياسيّة واجتماعيّة، وإلى رعاة ومُنشِّطي الجماعات الكنسيّة، وكذلك لجميع الرّجال والنّساء ذوي الإرادة الصّالحة، أناشدكم لكي نسير معًا على هذه الدّروب الثّلاثة: الحوار بين الأجيال، والتّربية والعمل. بشجاعة وإبداع. ولكي يكون هناك على الدّوام المزيد من الأشخاص الّذين، وبدون أن يحدثوا أيّة ضوضاء، يصبحون بتواضع ومثابرة يومًا بعد يوم صنّاع سلام. ولتسبقهم ولترافقهم على الدّوام بركة إله السّلام!".