الفاتيكان
22 كانون الأول 2023, 14:50

في تامّل زمن المجيء الثّاني، كانتالاميسا يضيء على شخصيّة مريم العذراء

تيلي لوميار/ نورسات
شخصيّة مريم العذراء كان محور التأمّل الثّاني لزمن المجيء الّذي ألقاه واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح اليوم في قاعة بولس السّادس بالفاتيكان بحضور البابا فرنسيس.

وتحت عنوان: "طوبى لِمَن آمَنَت"، قال كانتالاميسا بحسب "فاتيكان نيوز": "بعد السّابق يوحنّا المعمدان، نسمح اليوم لأمّ يسوع أن تمسكنا بيدنا "لكي ندخل" في سرّ الميلاد. في إنجيل الأحد الماضي، الرّابع من زمن المجيء، سمعنا قصّة البشارة. هي تذكّرنا كيف حبلت مريم وولدت المسيح، وكيف يمكننا أن نحبل به ونلده نحن أيضًا، بالإيمان! وبالإشارة إلى هذه اللّحظة، ستهتف أليصابات: "طوبى لمَن آمنت" (لو ١، ٤٥).

ولكن للأسف ما حدث مع شخص يسوع تكرّر فيما يتعلّق بإيمان مريم، إذ كان من المسلّم به أنّها تمّمت فعل إيمانها عند لحظة البشارة وبقيت فيه ثابتة طوال حياتها، كمن وبصوته بلغ بسرعة إلى أعلى نغمة ثمّ حافظ عليها واستمرّ لبقيّة الأغنية. لكن العطيّة الّتي قدّمها الرّوح القدس للكنيسة، مع تجديد اللّاهوت المريميّ، كانت اكتشاف بُعد جديد لإيمان مريم. إنّ أمّ الله – يؤكّد المجمع الفاتيكانيّ الثّاني– قد "تقدّمت في مسيرة الإيمان" (نور الأمم ٥٨). فهي لم تؤمن مرّة واحدة وبشكل نهائيّ، بل سارت في الإيمان وتقدّمت فيه. وقد تناول القدّيس يوحنّا بولس الثّاني هذه العبارة وجعلها أكثر وضوحًا في الرّسالة العامّة أمّ الفادي: إنّ كلمات أليصابات: "وطوبى لمن آمنت" لا تنطبق فقط على تلك اللّحظة المحدّدة من البشارة. من المؤكّد أنّها تمثّل ذروة إيمان مريم أثناء انتظارها للمسيح، ولكنّها أيضًا نقطة الانطلاق، الّتي منها تبدأ رحلتها بأكملها نحو الله، ومسيرة إيمانها كلّها. وفي هذه المسيرة، كتب البابا، بلغت مريم إلى "ليلة الإيمان". وكلمات القدّيس أوغسطينوس في هذا السّياق حول إيمان مريم هي معروفة جدًّا وغالبًا ما يتمّ تكرارها: لقد ولدت مريم العذراء بالإيمان ما حبلت به بالإيمان. وبعد أن تكلّم الملاك، أجابت، وهي مملوءة بالإيمان، وقد حبلت بالمسيح في قلبها أوّلاً وليس في بطنها: "ها أنا أمة الرّبّ، فليكن لي حسب قولك".

وبالتّالي علينا أن نكمل القائمة بما حدث بعد البشارة وعيد الميلاد: بالإيمان قدّمت مريم الطّفل إلى الهيكل، بالإيمان تبعته، وبقيت على حِدة، في حياته العامّة، بالإيمان وقفت تحت الصّليب، وبالإيمان انتظرت قيامته. لنتأمّل في بعض لحظات مسيرة إيمان أمّ الله، هي تحفظ كلّ شيء في قلبها وتتركه لكي يختمر في الانتظار. سوف تسمع نبوءة سمعان وسرعان ما ستدرك مدى صحّتها! كلّ التّقلّبات في حياة ابنها، كلّ سوء الفهم، والهروب التّدريجيّ من حوله، جميع هذه الأمور كان لها انعكاسات عميقة على قلبها كأُمّ. لقد بدأت تختبر ذلك بشكل مؤلم في ضياع يسوع في الهيكل: "فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنتمَا تَطلبَانِنِي؟ أَلَم تَعْلَمَا أَنَّه يَنبَغِي أَن أَكونَ فِي مَا لِأَبِي؟ فَلَمْ يَفهَمَا الكلام الذي قَالَهُ لَهُمَا". وأخيرًا هناك الصّليب. هي هناك، عاجزة أمام استشهاد ابنها، لكنّها توافق على الحبّ. وتقبل أن يُضحّى بابنها، وتسلّمه إلى الآب، بقلب مكسور، ولكنّها ثابتة، وقويّة في إيمانها الّذي لا يتزعزع. وهنا يصل صوت مريم إلى نغمته الأعلى. وبالتّالي ينبغي أن يقال عن مريم ما يقوله بولس الرّسول عن ابراهيم: فَهي عَلَى خِلَافِ الرَّجَاءِ، آمَنَت عَلَى الرَّجَاءِ، لِكَيْ تصير أُمًّا لِأُمَمٍ كَثِيرَةٍ. ونقرأ في الدّستور العقائديّ "نور الأمم": إذ حبلت بالمسيح، وولدته، وغذَّته، وقدّمته للآب في الهيكل، وتألّمت مع ابنها المائت على الصّليب، ساهمت بطريقة خاصّة جدًّا في عمل المخلّص، بالطّاعة والإيمان والرّجاء والمحبّة المتّقدة، لكي تعيد الحياة الفائقة للطّبيعة للنّفوس. ولهذا السّبب صارت لنا أمًّا في نظام النّعمة".

إنّ تجديد اللّاهوت المريميّ الّذي أحدثه المجمع الفاتيكانيّ الثّاني يدين بالكثير للقدّيس أوغسطينوس. وقد كتب القدّيس أوغسطينوس: قدّيسة هي مريم، طوباويّة هي مريم، لكن الكنيسة هي أهمّ من مريم العذراء. لماذا؟ لأنّ مريم هي جزء من الكنيسة، عضو مقدّس وممتاز، يفوق جميع الآخرين، ولكنّها مع ذلك عضو في الجسد كلّه. وإذا كانت عضوًا من أعضاء الجسد كلّه فلا شكّ أنّ الجسد هو أهمّ من العضو. والآن، القدّيس أوغسطينوس نفسه هو الّذي يقترح علينا القرار الّذي علينا اتّخاذه بعد أن استعدنا بصورة وجيزة مسيرة إيمان أمّ الله. وفي نهاية حديثه حول إيمان مريم، يوجّه القدّيس أوغسطينوس لسامعيه دعوة تصلح لنا نحن أيضًا: "إنّ مريم قد آمنت، وفيها تحقّق ما آمنت به. فلنؤمن نحن أيضًا، لكي يفيدنا نحن أيضًا ما تحقّق فيها".

إنّ الذّكرى المئويّة الرّابعة لميلاد بليز باسكال- الّتي أراد الأب الأقدس أن يذكّر بها الكنيسة من خلال رسالته الرّسوليّة الّتي تحمل تاريخ ١٩ حزيران يونيو- تساعدنا على أن نعطي مضمونًا آنيًّا للدّعوة: "لنؤمن نحن أيضًا". ومن أشهر "خواطر" باسكال نجد ما يلي: "للقلب أسبابه الّتي لا يعرفها العقل.... القلب، وليس العقل، هو الّذي يشعر بالله. هذا هو الإيمان: الله نشعر به بالقلب وليس بالعقل". إنّ هذا القول جريء، ولكنّه يملك أساسًا موثوقًا، وهو الكتاب المقدّس! إنّ الرّسول بولس يعرف ويستخدم غالبًا كلمة "نوس"، الّتي تتوافق مع المفهوم الحديث للعقل أو الذّكاء؛ ولكن عندما تحدّث عن الإيمان، لم يقل: الإيمان بالعقل؛ وإنّما الإيمان بالقلب.

نحن نشعر بالله في القلب وليس بالعقل، كما يقول باسكال، لسبب بسيط وهو أنّ "الله محبّة" والحبّ لا يُدرك بالعقل، وإنّما بالقلب. لكن لسوء الحظّ، لم تكن "أسباب القلب" عند باسكال هي الّتي صاغة التفكير العلمانيّ واللّاهوتيّ في القرون الثّلاثة الماضية، وإنّما الـ"أنا أفكّر، فإذن أنا موجود". وكانت النّتيجة أن سيطرت العقلانيّة وأملت القانون، قبل أن تصل إلى العدميّة الحاليّة. وبالتّالي فإنّ كلّ الخطب والمناظرات الّتي تقام، اليوم أيضًا، تركّز على "الإيمان والعقل"، ولكنّها لم تركّز أبدًا، على حدّ علميّ، على "الإيمان والقلب"، أو "الإيمان والإرادة". ومع ذلك، يقول باسكال نفسه، في إحدى أفكاره الأخرى، إنّ الإيمان واضح بما فيه الكفاية للّذين يريدون أن يؤمنوا، ومظلم بما فيه الكفاية للّذين لا يريدون أن يؤمنوا. وبعبارة أخرى، فهي مسألة إرادة، أكثر من كونها مسألة عقل وذكاء.

في هذه المرحلة، أودّ أن أذكر الدّرس الثّاني الّذي تركه لنا باسكال والّذي أبرزه الأب الأقدس بقوّة في رسالته الرّسوليّة: مركزيّة المسيح في الإيمان المسيحيّ: "نحن نعرف الله- يكتب الفيلسوف- فقط من خلال يسوع المسيح. وبدون هذا الوسيط يكون أيّ اتّصال مع الله مستبعدًا". غالبًا ما يتمّ اقتباس باسكال فيما يتعلّق بـ"المخاطرة المحسوبة" أو المراهنة المربحة. في حالة عدم اليقين، يكتب، أنت تراهن على وجود الله، لأنّك "إذا فزت فسوف تربح كلّ شيء، وإذا خسرت، فلن تخسر شيئًا". لكن خطر الإيمان الحقيقيّ– وهو يعرف ذلك أيضًا– هو خطر آخر: وهو أن نضع يسوع المسيح جانبًا. وبالتّالي يجب أن يكون هذا هو التزامنا الرّئيسيّ في جهود البشارة. إنّ العالم ووسائل الإعلام خاصّته يبذلون كلّ ما في وسعهم لكي يبقوا اسم المسيح منفصلاً أو صامتًا في جميع خطاباتهم عن الكنيسة. أمّا نحن فعلينا أن نفعل كلّ ما في وسعنا لكي نحافظ عليه بإصرار حاضرًا. لا لكي نختبئ خلفه ونسكت عن إخفاقاتنا، وإنّما لأنّه "نور الأمم"، "الاسم الّذي يفوق جميع الأسماء"، "حجر الزّاوية" في العالم والتّاريخ.

تصادف عيد الميلاد هذا العام الذّكرى المئويّة الثّامنة لإنشاء أوّل مغارة ميلاد في غريتشيو. وهي الأولى من بين المئويّات الفرنسيسكانيّة الثّلاثة، وستتبعها في عام ٢٠٢٤ ذكرى انطباع سمات المسيح في جسد القدّيس فرنسيس، وفي عام ٢٠٢٦، ذكرى وفاته. وبالتّالي يمكن لهذه المناسبة أن تساعدنا لكي نعود إلى القلب. وينقل إلينا كاتب سيرته الذّاتيّة الأوّل، توماسو دا تشيلانو، الكلمات الّتي شرح بها فقير أسيزي مبادرته: "أودّ، كما قال، أن أمثّل الطّفل المولود في بيت لحم، وأن أرى بطريقة ما بأعين الجسد المصاعب الّتي مرَّ بها لعدم توفّر الأشياء الضّروريّة للمولود الجديد، وكيف تمّ وضعه في مزود، وكيف كان يرقد بين الثّور والحمار". لكن ولسوء الحظّ، مع مرور الوقت، ابتعدت مغارة الميلاد عمّا كانت تمثّله بالنّسبة للقدّيس فرنسيس الأسيزيّ، وأصبحت في كثير من الأحيان شكلاً من أشكال الفنّ أو التّرفيه الّذي نتأمّل بجماله الخارجيّ أكثر ممّا نتأمّل بمعناه السّرّيّ والرّوحيّ. ولكن على الرّغم من ذلك، هي تؤدّي وظيفتها كعلامة وسيكون من الحماقة أن نتخلّى عنها.

المغارة إذن هي تقليد مفيد وجميل، ولكن لا يمكننا أن نكتفي بالمغارة الخارجيّة التّقليديّة؛ وإنّما علينا أن نقيم مغارة مختلفة ليسوع، مغارة القلب. بالقلب نؤمن، أنَّ المسيح يأتي ليقيم في قلوبكم بالإيمان يحثّنا قائلاً القدّيس بولس الرّسول. إنَّ مريم وخطّيبها لا يزالان يقرعان بشكل سرّيّ، على الأبواب، كما فعلا في تلك اللّيلة في بيت لحم. وفي سفر الرّؤيا يقول القائم من بين الأموات: "هاءنذا واقف على الباب أقرعه". لنفتح له أبواب قلوبنا. وليجعل كلّ واحد منّا من قلبه مهدًا للطّفل يسوع لكي يشعر، في برد هذا العالم، بدفء محبّتنا وامتناننا اللّامتناهي كمُخلَّصين! وهذا ليس ادّعاء ذهنيًّا جميلاً وشاعريًّا؛ وإنّما هو أصعب مهمّة في الحياة. في قلبنا هناك مكان لضيوف كثيرين، ولكن لسيّد واحد فقط. وأن نجعل يسوع يولد فيه يعني أن نميت الـ"أنا"، أو على الأقلّ أن نجدِّد القرار بعدم العيش لأنفسنا، بل للّذي ولد ومات وقام من أجلنا. تعلن الوجوديّة الملحِدة: "حيث يولد الله، يموت الإنسان"، وهذا صحيح! ولكن يموت الإنسان العتيق، الفاسد، المُعدُّ لكي ينتهي بالموت، ويولد الإنسان الجديد "الّذي خلق على صورة الله في البرّ وقداسة الحقّ" (أفسس ٤، ٢٤)، المُعَدُّ للحياة الأبديّة. إنّها مهمّة لن تنتهي مع عيد الميلاد، ولكن يمكنها أن تبدأ به. لتساعدنا أمُّ الله، الّتي "حبلت بالمسيح في قلبها قبل أن تحبل به في جسدها"، لكي نتمكّن من تحقيق هذا الهدف."