في المسيرة الخمسينيّة لمعهد القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ اللّاهوتيّ- البلمند، ماذا قال البطريرك يوحنّا العاشر؟
"في خريف العام 1970 انطلق المعهد اللّاهوتيّ في البلمند ليدمغ مسيرة كنيسة أنطاكية بناءً على ما سبق وكان واستكمالاً له في نهاية ألفيّتين ومطلع ثالثة.
"يعسر علينا جدًّا"، على حدّ قول ناظم التّسابيح، أن نحيط بمسيرة هذا الصّرح الّذي شاءته أنطاكية الأرثوذكسيّة مشتلاً للكلمة ولخدّام الكلمة. يعسر علينا جدًّا أن نحيط بمسيرة أنطاكية الّتي شاءت عبر هذا الصّرح استيلاد خدّامها في الكنف الأنطاكيّ وربطهم به وعبره بسائر صروح التّعليم اللّاهوتيّ في العالم. يعسر علينا جدًّا أن نصف أتعاب وجهود السّلف الصّالح وسائر المطوّبي الذّكر الّذين وضعوا مداميك العمل وأنبضوه في النّهاية معهدًا لاهوتيًّا يفترش التّلّة البلمنديّة مسكنًا ومربضًا ويتّخذ من عذرائها قائدةً ومحامية ويستظلّ بالدّمشقيّ يوحنّا شفيعًا حارًّا مملوءًا حكمة إلهيّةً وعالميّة.
ونحن في الذّكرى الخمسين، يطيب لي، لا بل يجب بالأحرى أن أذكّر بشيء من قصّة تلك الأيّام الّتي أفضت إلى ما نحن عليه. ممّا لا غرو فيه أنّ الأديار كانت أوّلاً وأخيرًا مشتل الفكر في سائر العصور وواحة التّفرّس في العلم الإلهيّ وفي بشرى البشائر، إنجيل المسيح. ودير البلمند كان واحدًا من أشهر أديار كنيسة أنطاكية. والقصّة بدأت مع أثناسيوس قصير الأرشمندريت الدّمشقيّ موكلاً من البطريرك الأنطاكيّ مثوديوس سنة 1832 ليؤسّس المدرسة الإكليريكيّة في البلمند والّتي استمرّت حتّى عام 1840. ولم تنطفئ شعلة أنطاكية في البلمند بل عادت في مطلع القرن العشرين مع افتتاح المدرسة الإكليريكيّة بعيد انتخاب ملاتيوس الدّومانيّ بطريركًا على أنطاكية سنة 1899. وعاد للمدرسة ألقها مع رجالٍ ألمعيّين مثل غطّاس قندلفت وجرجس همام وجرجي عطيّة وغيرهم كثيرون نبغوا في سائر المجالات الكنسيّة والعلميّة وكانت المدرسة موئلاً لعلم لاهوتي ولسائر العلوم الأساسية الأخرى وخرجت معظم رجالات الكنيسة في القرن العشرين.
وفي مرحلة ثالثة وبعد التّوقّف نتيجة للحربين الأولى والثّانية، جاءت المرحلة الثّالثة على عهد بطريركيّة ثيودوسيوس السّادس وذلك في ستينيّات القرن الماضي مع إيفاد الأسقف إغناطيوس هزيم لإدارة الدّير والمدرسة والعمل على تطويرها. وغنيّ عن الذّكر في هذه المرحلة بالذّات الدّور الرّائد للمثلّث الرّحمة المطران أنطونيوس بشير متروبوليت نيويورك وسائر أميركا الشّماليّة إبن بلدة دوما في تمكين كنيسته الأمّ من تأسيس مدرسةٍ عليا للّاهوت. وفي 15 آب 1966 وبهمّة البطريرك ثيودوسيوس السّادس وبمشاركة أعضاء المجمع، أُكملت المسيرة ووضع حجر الأساس للمعهد في البلمند بمشاركة وحضور مطران أميركا فيليبس صليبا الّذي أخذ على عاتقه إتمام مهمّة سلفه وإكمالها.
وفي خريف العام 1970 وجد الحلم طريقه إلى الواقع، وبغضّ النّظر عمّا إذا كانت مدرسة أنطاكية اللّاهوتيّة التّاريخيّة منهجًا نظريًّا أو مبنى ملموسًا، اعتُبِر المعهدُ المُنشأ حديثًا في البلمند خليفةً لتلك المدرسة وتجسيدًا لها بعد طول انقطاع. ومع شروق فجر السّابع من تشرين الثّاني للعام 1971 كان الافتتاح الرّسميّ للمعهد بحضورٍ رسميّ تقدّمه رئيس الجمهوريّة سليمان فرنجية. وجاءت كلمات البطريرك الياس الرّابع معوّض الخالدة لتختصر شيئًا من روح كنيسة أنطاكية يوم قال:
"أنطاكية العظيمة في تاريخ الدّعوة الجديدة، أنطاكية الّتي هي أوّل من تمتمت كلمة "مسيحيّين" وأرقصتها نغمًا على شفاه الأجيال، أنطاكية العقل والقلب ارتفعت بنجواها إلى كشوفات السّرّ ونقلت عمق السّرّ إلى كلمةٍ استوى فيها المثال والواقع... أنطاكية بولس الرّسول وبطرس وإغناطيوس وثيوفيلوس والذّهبيّ الفمّ وأفرام ورومانوس والدّمشقيّ... أنطاكية الصّوت الّذي لفّ الدّنيا وزنرها بحقيقة التّجسّد الإلهيّ... أنطاكية التّاريخ المهمل تدعونا لنزيح عن صدرها أثقال الزّمن المتراكم نسيانًا وننفخ الرّماد المتكدّس فوق شرارات روحها..."
وإذ نذكر اليوم تلك الأيّام وتلك المسيرة الخمسينيّة، يعزّ علينا أن نغفل أفضال أناسٍ استلموا دفّة هذا المعهد إلى يومنا الحاضر كعمداء. نذكر بعرفان كبير المثلّث الرّحمة المطران إغناطيوس هزيم بطريرك أنطاكية وسائر المشرق لاحقًا كأوّل قيمٍ على هذا المعهد. نذكر أيضًا المثلّث الرّحمة الأرشمندريت بندلايمون روذوبولوس مطران تيرولوي وسيرانديون لاحقًا من الكنيسة اليونانيّة وأستاذ الحقّ الكنسيّ الّذي عمل جاهدًا على تدعيم الأسس الأكاديميّة للصّرح الحديث العهد. نذكر هنا فضل الكنيسة اليونانيّة في تأمين استمراريّة المعهد يوم فرضت الحرب نفسها سنة 1976، يوم انتقل المعهد بإدارييه وأساتذته وطلّابه إلى اليونان لمتابعة الدّراسة. نذكر الشّمّاس ميشال كرياكوس المطران أفرام، متروبوليت طرابلس والكورة لاحقًا يوم أوكل إليه أن يكون مديرًا. ونذكر بالخير الأب ميشال نجم عميد المعهد من أوائل الثّمانينيّات إلى أواسطها. نذكر بفخر المثلّث الرّحمة المطران قسطنطين بابا ستيفانو متروبوليت بغداد والكويت والأسقف جورج أبو زخم متروبوليت حمص وتوابعها لاحقًا. نذكّر بشكل خاصّ العميد الأرشمندريت بولس يازجي متروبوليت حلب والاسكندرون لاحقًا والّذي حرمته وحرمتنا قسوة هذه الأيّام والخطف المرّ والتّعامي الدّوليّ أن يكون مشاركًا لنا في هذه الذّكرى. نذكر الدّكتور جورج نحّاس ونذكر أيضًا الأسقف غطّاس هزيم متروبوليت بغداد والكويت لاحقًا والأب بورفيريوس جورجي. وندعو أن يقوّي الله قدس الأب العميد الحاليّ الأرشمندريت جاك خليل. وإذ نذكر هذه المسيرة، نكتب وعلى ألواح قلوبنا وأمام الحمل الذّبيح من أجل خلاص العالم أسماء كلّ القامات الكبرى الّتي عرفها هذا المعهد مذ أنشئ. ونذكر في صلاة حارّة الأساتذة الكبار وسائر الهيئة التّعليميّة. نذكر الرّاقدين منهم والأحياء. نذكر كلّ موظّف وكلّ عامل إلى يومنا هذا ونثق أنّ أتعابهم مكتوبةٌ في سفر حياةٍ تنظره عينا الرّبّ القدّوس.
يشهد هذا المعهد على عراقة إيمان كنيسة أنطاكية كما ويشهد أيضًا ويدمغ بقوّةٍ أن التَّقَويّةَ والتّبحّر في العلوم اللّاهوتيّة هما الأساس. ومن هنا تشديده دومًا على الحياة الأكاديميّة وعلى الحياة الرّوحيّة لكلّ متقدّم. وهذه الثّنائيّة لا تعيش انفصامًا لا بل ترسّخًا وتشابكًا وتلاحمًا. من هنا تأتي خبرة الملموس المعاش في هذا المعهد وذلك تجسيدًا لنظرة كنيسة أنطاكية التّجسّديّة لدى تعاملها واللّاهوت. فإذا ما قوبلت الحياة الأكاديميّة بالرّوح قوبلت الخبرة المعيشيّة والحياتيّة للطّالب بالجسد. والإنسان ليس مجرّد روح فقط أو جسد فقط لا بل هو كيانٌ من اثنيهما. ولعلّ هذه الخبرة بما تمثّله تشكّل واحدةً من أندر الخبرات التّعليميّة اللّاهوتيّة المستمرّة إلى أيّامنا الّتي عمدت فيها كلّيّات ومعاهد اللّاهوت بمعظمها إلى ترجيح كفّة العلم النّظريّ على الخبرة الحياتيّة.
ولعلّ خبرة كنيسة أنطاكية المشرقيّة والوجوديّة هي الّتي أهّلتها وتؤهّلها دومًا لخوض رسالتها المشرقيّة الّتي لم تنحصر في العلم اللّاهوتيّ بل مدّته إلى سائر العلوم ومن هنا كان هذا المعهد قلب جامعة البلمند الّتي أنشئت في العام 1988. ومن هنا، يبقى هذا المعهد مِجَسًّا أوّلاً وأخيرًا لواقع الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة ونافذةً تطلّ من خلالها على سائر الصّروح اللّاهوتيّة والتّعليميّة. ويبقى أيضًا مشتل الكهنة والرّعاة غير المتغرّبين عن واقع ومرتجى العمل الرّعائي في الكنيسة. يبقى هذا المعهد واحةً للفكر اللّاهوتيّ النّظريّ ومعجنًا له مع واقع الحياة. يبقى هذا المعهد وكما أريد له فريدًا بتدريسه اللّاهوت والفكر المسيحيّ بلغة الضّادّ. ويبقى منصّةً حّية يتعرّف فيها الطّالب على الأديان الأخرى وخصوصًا الإسلام لا من مجرّد كتبٍ ومصادر لا بل من واقع معاش ومحسوس ومن احتكاك مباشر وقريب مع الآخر. يبقى هذا المعهد شهادةً حيّةً على أصالة هذا الوجود المسيحيّ في الشّرق. ويبقى أيضًا بوتقةً حيّة تصهر فيها كافّة الطّاقات الأنطاكيّة من سائر الأبرشيّات والبلدان لتؤدّي شهادة واحدة للمسيح يسوع في قلب هذا الشّرق التّاريخيّ، تخرج منه إلى مدى العالم أجمع.
Nulli Secundus قولٌ وشعارٌ لاتينيّ يعني "لسنا ثانين لأحد". نضعه دومًا نصب أعيننا ونضع أيضًا أنّ كنيسة أنطاكية كانت السّبّاقة تاريخيًّا، لا تبجُّحًا واعتراشًا لسدّةٍ، بل خدمةً وبشارةً، كي تضع المسيح يسوع حلاوةً في القلوب. ونحن إلى الآن نسعى وبكلّ طاقاتنا وبكلّ مؤسّساتنا الكنسيّة والتّعليميّة والبشاريّة والثّقافيّة أن نكون في مقدّمة ركب الخدمة وفي مقدّمة ركب الشّهادة لأصالةٍ مسيحيّة منفتحة تبني الوطن والمجتمع ببناء إنسانه الصّالح. "لسنا ثانين لأحد" نقولها وأمام ناظرنا تراث كنيسة أنطاكية وفخر تاريخها العظيم وهي الّتي أعطت للدّنيا لقب "مسيحيّين". نقولها وترتسم أمام أعيننا كنيسة الشّهداء والأبرار وصلوات الأديار والكنائس. نقولها دافنين غرورًا وتبجّحًا وناظرين أوّلاً وأخيرًا محبّة ربّ المجدِ المعلّق على صليبه المحيي.
نقولها ونفهمها ونستَبِيْنُها في أدبنا العربيّ مصاغةً بلغة الضّادّ العزيزة علينا وعلى هويّتنا وأصالتنا بقول الشّاعر:
ونحن أناسٌ لا توسّط عندنا لنا الصّدر دون العالمين أو القبر.
يبقى هذا المعهد مفخرة لخرّيجيه ويبقى دومًا لهم نبراس هدايةٍ ومحطّ حنينِ قلبهم مهما بعدت المسافات ويبقى لسان حالهم نشيد المعهد بكلام الأستاذ المرحوم جورجي عطيّة: "فستبقى ما بقينا مطمحَ القلب الثّمينا"
ويبقى المعهد مستظلّاً معونة العذراء في ديرها المقدّس ومتدثّرًا بإرث كنيسة أنطاكية وعراقة تاريخها. يبقى في جوار تلك القبّة الشّهيرة الّتي تعانق السّماء وتبسط علياءها على زرقة البحر. يبقى مشرقيًّا يحكي حكاية جاره، الأرز الخالد ويلثم يد خالقه. يبقى في جوار الصّنوبر درة صافية. ولعلّ خير ما يصفه في موقعه السّاحر وخير ما يحكي للأجيال عبق تاريخه وشذا محبّته الفائحة على جواره شعرٌ وجدانيّ للمثلّث الرّحمة بولس الخوري مطران صور وصيدا إذ يقول:
بلدٌ تفرد في مزايا جمّةٍ جبلٌ وسهلٌ في جوار الماءِ
والقبّة البيضاء رأس شامخٌ والتّلّ منبسطٌ إلى الميناءِ
هي صورةٌ عربيّةٌ شرقيّةٌ رُسمت بأيدي الخالق المعطاءِ
يا قوم إن هبّت على فيحائنا وعلى البلاد عواصف الأنواءِ
لن تستطيع النّيل من عليائنا فلقد جُبِلنا من ثرى العلياءِ
كل عامّ وأنتم بخير".