في إطلالة البابا فرنسيس الأخيرة في أحد الفصح... رسالة وبركة
وقبل البركة، حيّا الأب الأقدس المؤمنين المحتشدين في ساحة القدّيس بطرس وطلب من أحد معاونيه أن يقرأ نصّ الرّسالة الّتي تردّد في سطورها دعوته إلى السّلام في العالم، خاصًّا بالذّكر غزّة ولبنان وسوريا وأوكرانيا... وجاء في نصّ الرّسالة بحسب "فاتيكان نيوز":
"المسيح قام، هلّلويا! أيّها الإخوة والأخوات، فصح مجيد!
اليوم، يتردّد مجدّدًا في الكنيسة صدى نشيد الـ"هللويا"، يتردّد من فم إلى فم، ومن قلب إلى قلب، ويجعل شعب الله في كلّ أنحاء العالم يذرف دموع الفرح. من القبر الفارغ في أورشليم يصل إلينا إعلان لم يُسمع مثله من قبل: يسوع المصلوب "ليس ههنا، بل قام". إنّه ليس في القبر، بل هو الحيّ! إنَّ المحبّة قد انتصرت على الكراهيّة. والنّور قد غلب الظّلمة. والحقّ قد تغلّب على الكذب. وفازت المغفرة على الانتقام. إنَّ الشّرّ لم يُمحَ من تاريخنا، وسيبقى إلى النّهاية، لكنّه لم يعُد لديه سُلطة، ولم يعُد له سلطان على من يقبل نعمة هذا اليوم.
أيّتها الأخوات، أيّها الإخوة، ولاسيّما أنتم الّذين في الألم والحزن، إنّ صرختكم الصّامتة قد سُمعت، ودموعكم قد جُمعت، ولم تذهب واحدة منها سُدى! ففي آلام يسوع وموته، أخذ الله على عاتقه كلّ الشّرِّ في العالم، وغلبه برحمته اللّامتناهية: اقتلع الكبرياء الشّيطانيّ الّذي يسمِّم قلب الإنسان، ويزرع العنف والفساد في كلّ مكان. إنَّ حمل الله قد انتصر! لذلك نهتف اليوم قائلين: "قام المسيح، رجائي!". نعم، إنَّ قيامة يسوع هي أساس الرّجاء: وانطلاقًا من هذا الحدث لم يعُد الرّجاء وهمًا أو خيالًا. لا، بل بفضل المسيح المصلوب والقائم من بين الأموات، الرّجاء لا يُخيِّب! " Spes non confundit". وهو ليس رجاءً مراوغًا، بل مُلزمًا. وليس رجاءً يبعث على التّراخي، بل على المسؤوليّة. إنَّ الّذين يرجون في الله يضعون أيديهم الضّعيفة في يده الكبيرة والقويّة، ويسمحون له أن ينهضهم، فينطلقون في مسيرة: مع يسوع القائم من الموت يصبحون حجّاجًا للرّجاء، وشهودًا لانتصار الحبّ، وقوّة الحياة الّتي لا تحتاج إلى السّلاح.
المسيح قام! في هذا الإعلان يكمن معنى وجودنا كلّه، الّذي لم يُخلق للموت، بل للحياة. الفصح هو عيد الحياة! والله قد خلقنا للحياة، ويريد للبشريّة أن تقوم من جديد! في عينيه، كلّ حياة هي ثمينة: حياة الجنين في رحم أمّه، وحياة المسنّ والمريض، الّذين يُعتبرون في عدد متزايد من الدّول أشخاصًا يمكن الاستغناء عنهم. كم من الإرادة للموت نراها كلّ يوم في النّزاعات الّتي تعصف بعدّة مناطق من العالم! وكم من العنف نشهده أحيانًا حتّى داخل العائلات، ضدّ النّساء أو الأطفال! وكم من الاحتقار يُمارس أحيانًا بحقّ الأشخاص الأشدَّ ضعفًا والمهمّشين والمهاجرين!
في هذا اليوم، أتمنّى أن نستعيد الرّجاء والثّقة بالآخرين، حتّى الّذين ليسوا قريبين منّا أو يأتون من أراضٍ بعيدة، بثقافات وأفكار وعادات تختلف عن تلك الّتي نعرفها، لأنّنا جميعًا أبناء لله! أودّ أن نستعيد الرّجاء في أنّ السّلام ممكن! من القبر المقدّس، كنيسة القيامة، حيث يحتفل هذا العام الكاثوليك والأرثوذكس بعيد الفصح في اليوم نفسه، ليُشعّ نور السّلام على الأرض المقدّسة كلّها وعلى العالم أجمع. أنا قريب من آلام المسيحيّين في فلسطين وإسرائيل، كما أننّي قريب من الشّعبين: الإسرائيليّ والفلسطينيّ. إنّ تزايد مناخ معاداة السّاميّة الّذي ينتشر في أرجاء العالم يبعث على القلق الشّديد. وفي الوقت عينه، يتوجّه فكري إلى شعب غزّة، ولاسيّما إلى الجماعة المسيحيّة فيها، حيث ما يزال النّزاع الرّهيب يولِّد الموت والدّمار، ويسبّب وضعًا إنسانيًّا مروّعًا ومشينًا. أُوجّه نداءً إلى جميع أطراف النّزاع: أوقفوا إطلاق النّار! وليتمَّ الإفراج عن الرّهائن! ولتُقدّم المساعدة للشّعب الّذي يتضوّر جوعًا ويتوق إلى مستقبل يسوده السّلام!
لنصلِّ من أجل الجماعات المسيحيّة في لبنان وسوريا الّتي تتوق إلى الاستقرار والمشاركة في مصير بلادها، فيما تمرّ سوريا بمرحلة دقيقة من تاريخها. أحثّ الكنيسة جمعاء على أن تُحيط مسيحيّي الشّرق الأوسط الحبيب بالعناية والصّلاة. كما أتوجّه بفكر خاصّ إلى شعب اليمن الّذي يعيش إحدى أسوأ الأزمات الإنسانيّة المستمرّة في العالم بسبب الحرب، وأدعو الجميع إلى إيجاد حلول من خلال حوار بنّاء.
ليفض المسيح القائم من الموت عطيّة السّلام الفصحيّ على أوكرانيا المعذّبة، وليشجّع جميع الأطراف المعنيّة على مواصلة الجهود لتحقيق سلام عادل ودائم. في يوم العيد هذا، لنوجّه أنظارنا إلى جنوب القوقاز ولنصلِّ لكي يتم التّوصّل سريعًا إلى توقيع وتنفيذ اتّفاق سلام نهائيّ بين أرمينيا وأذربيجان، يؤدّي إلى المصالحة المنشودة في هذه المنطقة. ليُلهم نور الفصح نوايا التّآلف في غرب البلقان، وليعضد الجهود السّياسيّة الرّامية إلى تجنّب تصاعد التّوتّرات والأزمات، وليحفّز شركاء المنطقة على رفض السّلوكيّات الخطيرة والمزعزعة للاستقرار.
ليمنح المسيح القائم، رجاؤنا، السّلام والعزاء للشّعوب الإفريقيّة ضحايا العنف والنّزاعات، لاسيّما في جمهوريّة الكونغو الدّيمقراطيّة، وفي السّودان وجنوب السّودان، وليعضد الّذين يتألّمون بسبب التّوتّرات في منطقة السّاحل والقرن الإفريقيّ ومنطقة البحيرات الكبرى، وكذلك المسيحيّين الّذين لا يستطيعون في أماكن كثيرة أن يمارسوا إيمانهم بحرّيّة. لا يمكن أن يتحقّق السّلام حيث لا توجد حرّيّة دينيّة، أو حيث تُقمع حرّيّة الفكر والتّعبير، ويُفتقد احترام آراء الآخرين. ولا يمكن أن يتحقّق السّلام بدون نزع السّلاح الحقيقيّ! لا يمكن لحاجة كلّ شعب للدّفاع عن نفسه أن تتحوّل إلى سباق عالميّ نحو التّسلّح. إنّ نور الفصح يدفعنا إلى هدم الجدران الّتي تخلق الانقسامات، والّتي تخلّف عواقب سياسيّة واقتصاديّة وخيمة. ويدعونا إلى العناية ببعضنا البعض، وإلى تعزيز التّضامن المتبادل، والعمل على التّنمية المتكاملة لكلِّ إنسان.
ولا تغيبنَّ في هذا الزّمن، مساعدتنا لشعب ميانمار، الّذي يتألّم منذ سنوات بسبب الصّراع المسلّح، والّذي يواجه بشجاعة وصبر آثار الزّلزال المدمّر في منطقة ساغاينغ، والّذي تسبّب في مقتل الآلاف ومعاناة عدد كبير من النّاجين، ومن بينهم أيتام ومسنّون. لنصلِّ من أجل الضّحايا وعائلاتهم، ولنشكر جميع المتطوّعين الأسخياء الّذين يقومون بأعمال الإغاثة. إنّ إعلان وقف إطلاق النّار من قبل بعض الجهات في البلاد هو علامة رجاء لكلّ ميانمار.
أُوجّه نداءً إلى جميع المسؤولين السّياسيّين في العالم لكي لا يستسلموا لمنطق الخوف الّذي يُغلق القلوب، وإنّما لكي يستخدموا الموارد المتاحة لمساعدة المحتاجين، ومكافحة الجوع، وتعزيز المبادرات الّتي تُسهم في التّنمية. هذه هي "أسلحة" السّلام: الأسلحة الّتي تبني المستقبل، بدلًا من أن تزرع الموت! لا يغيبنَّ أبدًا مبدأ الإنسانيّة كأساس لتصرّفاتنا اليوميّة. وأمام قسوة الحروب الّتي تطال المدنيّين العُزَّل، وتستهدف المدارس والمستشفيات والعاملين في المجال الإنسانيّ، لا يمكننا أن ننسى أنّ الأهداف الّتي تتعرّض للقصف ليست أهدافًا وإنّما أشخاصًا يملكون روحًا وكرامة. وفي هذه السّنة اليوبيليّة، ليكن عيد الفصح مناسبة أيضًا لإطلاق سراح أسرى الحرب والمعتقلين السّياسيّين!
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في فصح الرّبّ، تواجه الموت والحياة في معركة عجيبة، ولكن الرّبّ الآن يحيا إلى الأبد ويبعث فينا اليقين بأنّنا أيضًا مدعوّون للمشاركة في الحياة الّتي لا تعرف الغروب والّتي لن يُسمع فيها بعد الآن قعقعة السّلاح وأصداء الموت. فلنسلّم أنفسنا إلى الّذي وحده يمكنه أن يجعل كلّ شيء جديدًا. فصح مجيد للجميع!".