لبنان
03 شباط 2022, 06:55

غالاغير من جامعة الرّوح القدس: يمكن تخطّي الانقسامات والجمود عبر الحوار والوحدة والتّفاهم ووضع الخير العامّ في مصاف الأولويّات

تيلي لوميار/ نورسات
إفتتحت جامعة الرّوح القدس- الكسليك مؤتمرًا عن "البابا يوحنّا بولس الثّاني ولبنان الرّسالة"، لمناسبة مرور 25 عامًا على الزّيارة التّاريخيّة الّتي قام بها البابا القدّيس، بمشاركة أمين سرّ دولة الفاتيكان للعلاقات مع الدّول المطران بول ريتشارد غالاغير، والرّئيس العامّ للرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الأب نعمة الله الهاشم، وسفير لبنان لدى الكرسيّ الرّسوليّ الدّكتور فريد الخازن، ونخبة من أهمّ الخبراء والعلماء الدّينيّين والعلمانيّين "لمناقشة أهمّيّة لبنان المتنوّعة الأوجه في هذه المنطقة المتعدّدة".

وحضر الافتتاح: بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للسّريان الكاثوليك مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان، المطران مارون ناصر الجميّ ممثّلاً البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، المطران إدوار جاورجيوس ضاهر ممثّلاً بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق والإسكندريّة وأورشليم للرّوم الملكيّين الكاثوليك يوسف العبسيّ، المطران جورج أسادوريان ممثّلاً بطريرك كيليكيا للأرمن الكاثوليك الكاثوليكوس رافائيل بادروس، السّفير البابويّ المونسنيور جوزف سبيتيري، النّائب شوقي الدّكّاش وحشد من الأساقفة والرّئيسات العامّات والمدبّرين العامّين وعدد من الوزراء والنّوّاب السّابقين والنّقباء والمديرين العامّين، وقائمقام كسروان بيار كسّاب، ورئيس اتّحاد بلديّات كسروان- الفتوح جوان حبيش، وفاعليّات ديبلوماسيّة وبلديّة ومصرفيّة وعسكريّة وروحيّة وجامعيّة واجتماعيّة وثقافيّة ومدنيّة وإعلاميّة.  

بعد النّشيدين الفاتيكانيّ والوطنيّ اللّبنانيّ، وكلمة التّقديم وفيلم وثائقيّ قصير عن البابا يوحنّا بولس الثّاني ولبنان، كانت كلمة للأب العامّ الهاشم أشار فيها إلى أنّ "عقد هذا المؤتمر في رحاب جامعة الرّوح القدس- الكسليك، الّذي ينطبع اسمها في الوجدان اللّبنانيّ عمومًا والوجدان المسيحيّ خصوصًا، ما هو إلّا تأكيد لهويّة جامعة رهبانيّتنا اللّبنانيّة المارونيّة، الّتي تعتنق لبنان إسمًا وهويّة ورسالة، وإصرار على الدّور الّذي لعبته رهبانيّتنا عبر تاريخها وجامعتنا منذ التّأسيس، تحت جناح البطريركيّة المارونيّة، في إظهار هويّة لبنان الفريد والمتنوّع، وفي الدّفاع عن رسالته وطنًا للإنسان، حيث الحرّيّة قدس أقداس، وحيث تتجلى القيم الرّوحيّة وقيم العيش المشترك والاحترام المتبادل والنّموّ في أبهى مظاهرها".

وأضاف: "نجتمع اليوم، في رحاب هذه الجامعة العريقة، في قاعة البابا يوحنّا بولس الثّاني، وقد سمّيت كذلك في مناسبة زيارته للبنان عام 1997. نجتمع لنحتفل بالذّكرى الخامسة والعشرين لهذه الزّيارة التّاريخيّة، الّتي وقع البابا القدّيس خلالها الإرشاد الرّسوليّ "رجاء جديد للبنان" (10 أيّار 1997)، ولإطلاق فعاليّات السّنة الخامسة والعشرين لهذا الإرشاد الّذي أراده قداسة البابا تفسيرًا وتطبيقًا لما أعلنه في 7 أيلول 1989 من أنّ "لبنان هو أكثر من بلد، إنّه رسالة".

وتابع: "جاء الإرشاد الرّسوليّ "رجاء جديد للبنان" تثبيتًا وتفسيرًا لمفهوم لبنان- الرّسالة وفق فكر الكرسيّ الرّسوليّ عمومًا، وفكر القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني خصوصًا. هو خارطة طريق لتثبيت هويّة لبنان، وتدعيمها، وتفعيلها. عبر دعوة المسيحيّين إلى التّجدّد في المسيرة الإيمانيّة قبل أيّ تجدّد اجتماعيّ أو سياسيّ، تجدّد يبدأ "بمسيرة صلاة وتوبة وارتداد" (رجاء جديد 2)، ومن خلال دعوة المسيحيّين والمسلمين والدّروز إلى التّعاون والتّفاهم (رجاء جديد، 14) والاعتراف الحقيقيّ بالحرّيّات الجوهريّة الّتي تصون الكرامة الإنسانيّة، وتفسح في المجال لممارسة الإيمان بحرّيّة، كما إلى احترام صادق لحقوق الإنسان وترسيخ العدالة عبر مساواة الجميع أمام القانون، والمحافظة على قيم الدّيمقراطيّة والحضارة الّتي يمثّلها لبنان (رجاء جديد، 17)."  

وقال: "تواصل هذا الاهتمام خلال حبريّة قداسة البابا بنيديكتوس السّادس عشر، الّذي خصّ لبنان بزيارة رسوليّة، شرح خلالها أهمّيّة دور لبنان، مثالاً عالميًّا لإمكان عيش اتّباع الدّيانات بسلام وإخاء، نابذين جميع مظاهر العنف والتّفرقة. ويستمرّ هذا الاهتمام بزخم وديناميكيّة، مع قداسة البابا فرنسيس الّذي نجده حاضرًا، عند كلّ منعطف، يذكر لبنان، يصلّي من أجله، ويقوم بخطوات عمليّة تجاهه وتجاه تخفيف معاناة أبنائه. في ختام "يوم التّأمّل والصّلاة من أجل لبنان"، 1 تمّوز 2021، زاد الأب الأقدس، إضافة قيمة إلى قول البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، معلنًا أنّ لبنان "هو رسالة عالميّة، رسالة سلام وأخوّة ترتفع من الشّرق الاوسط." وأردف: "وبذلك حمّلنا قداسته مسؤوليّة الشّهادة لإعلان وثيقة "الأخوّة الإنسانيّة من أجل السّلام العالميّ والعيش المشترك" الّتي وقّعها وشيخ الأزهر الدّكتور أحمد الطّيّب في أبو ظبي في 4 شباط 2019. وإتّبع البابا فرنسيس هذه الوثيقة برسالة أصدرها في 3 تشرين الأول 2020، بعنوان "في الأخوّة والصّداقة الاجتماعيّة "(Fratelli tutti)، أعاد فيها التّشديد على أنّ طريق السلام ممكن بين الأديان."  

وإعتبر الأب الهاشم "أنّ لبنان يشكّل بنوع خاصّ، التّربة الخصبة لكي تثمر هذه التّعاليم البهيّة."  

وتابع: "صحيح أنّ واقع لبنان الحاليّ مأسويّ على المستويات كافّة: السّياسيّ، والمؤسّساتيّ، والاقتصاديّ، والماليّ، والاجتماعيّ، والتّربويّ، والاستشفائيّ، والحياتيّ اليوميّ. ولكنّه صحيح أيضًا أنّ مبدأنا الأوّل، هو عنوان إرشاد البابا القدّيس، أيّ الرّجاء. لا شكّ أن الخارج والدّاخل يتقاسمان مسؤوليّة الانهيار الحاليّ ونتائجَه: فتفاقم الأزمات العالميّة والإقليميّة وانعكاساتها على الدّاخل اللّبنانيّ وقضيّة النّازحين واللّاجئين، معطوفة على الارتهان للخارج واستشراء الفساد والشّلل المؤسّساتيّ وتغليب المصلحة الذّاتيّة والفئويّة على المصلحة العامّة، وغياب إرادة الحوار لدى بعض المكوّنات الدّاخليّة، كلّها عوامل تضاعف من مأسويّة الوضع الحاليّ. لكنّنا أبناء الرّجاء وسنصمد حتّى تتحوّل الأزمة الحاليّة إلى فرصة بناء للبنان جديد أكثر أمانة لهويّته ورسالته."  

وأكّد أنّ "لبنان سيبقى بلد الحرّيّة والتّلاقي، باتّكالنا على العناية الإلهيّة وعلى ذواتنا وعلى أصدقائنا المخلصين الّذين يؤمنون برسالة لبنان. وفي عناصر الصّمود الثّلاثة هذه، دور الكرسيّ الرّسوليّ محوريّ: فقداسة الأحبار الأعظمون يرفعون الصّلوات دائمًا ويدعون الجميع إلى الصّلاة من أجل لبنان عند كلّ أزمة وخطر، سائلين العناية الإلهيّة حماية لبنان وأبنائه، كما يفعل قداسة البابا فرنسيس في عظاته وصلواته المتكرّرة من أجل لبنان، وأهمّها الدّعوة إلى يوم الصّلاة من أجل لبنان في الأوّل من تمّوز السّنة الماضية."

وقال: "كذلك لا ينفكّ الكرسيّ الرّسوليّ يدعونا إلى الاتّكال على ذواتنا لإيجاد الحلول المناسبة، مشجّعًا الكنائس المحلّيّة على الشّهادة الإنجيليّة الصّادقة وكذلك المؤسّسات الكنسيّة على مزيد من التّجدّد والشّفافيّة، ومبادرًا الى تقديم المساعدة حيث يجب ويمكن، مع الحرص الدّائم على التّواصل الدّائم مع المكوّنات اللّبنانيّة الأخرى وتأكيده فرادة الرّسالة المناطة بها. أمّا بالنّسبة إلى الاتّكال على أصدقاء لبنان المخلصين، فيبقى الكرسيّ الرّسوليّ في طليعتهم، وقد يكون الدّولة الوحيدة الّتي تحرص على الحفاظ على لبنان من أجل دوره ورسالته العالميّة، وليس لأهداف ومطامع خاصّة. وليس خافيًا على أحد ما يقوم به الكرسيّ الرّسوليّ، وأمانة سرّ دولة الفاتيكان، مع مراكز القرار العالميّ في سبيل لبنان والحفاظ عليه وعلى هويّته. فالملفّ اللّبنانيّ حاضر دائمًا لقاءات نيافة الكاردينال بياترو بارولين ولقاءاتكم مع رؤساء الدّول والمنظّمات العالميّة وممثّليها."  

وإعتبر أنّه "على رغم من رداءة الوضع الحاليّ، لا نخاف على لبنان لأنّنا نتّكل على الله، وعلى ذواتنا وعلى الأصدقاء المخلصين، سنصمد لأنّنا نتّكل على الله وعلى شفاعة سيّدة لبنان وقدّيسيه، سنصمد لأنّنا نحمل مسؤوليّة الرّسالة الإنسانيّة الّتي حملها أجدادنا ووصلت إلينا، سنصمد كما صمدوا وتخطّوا صعابًا وأزمات واضطهادات ومجاعات أشدّ فتكًا وخطورة، سنصمد مستلهمين جهادهم وكفاحهم من أجل العيش الحرّ الكريم معًا، سنحافظ على إنساننا وأرضنا ومؤسّساتنا وعائلاتنا وقيمنا بفضل تضامننا وتضحياتنا. وكما حمل المغتربون رسالة لبنان إلى مختلف بلدان الانتشار وزرعوا العلم والتّلاقي والازدهار حيث حلّوا، سيساعدوننا على إعادة بلورة صورة لبنان الحضاريّة".

وأكّد أنّنا "سنحافظ على لبنان- الرّسالة، كي لا تضيع ثقة البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني بلبنان وبنا، ولكي يعود لبنان إلى أداء دور المثال الأوّل في مشروع الأخوّة الإنسانيّة الّذي يتوق قداسة البابا فرنسيس إلى تحقيقه. برجاء، نريد أن يتجلّى هذا الوطن الصّغير، في جغرافيّته المحدودة، مجدّدًا نموذجًا ومثالاً لنسيج إنسانيّ متناغم، ولعيش كريم معًا."  

وإختم: "رجاء نريد أن يسير وطننا إلى الأمام، وفي البال تراثه الدّينيّ والثّقافيّ الغنيّ، المتجذّر في تاريخ الإنسانيّة. برجاء نريد أن نضحّي جميعًا لكي يكون لبنان فعل وجود لا مجرّد شعار. ولكي يبقى، على الدّوام، لبنان الحرّيّة والتّلاقي، لبنان الرّسالة.  

وتحدّث السّفير الخازن الّذي أشار إلى "أنّ فكرة المؤتمر انطلقت في العام 2019، على أن يبدأ في روما، بحضور لبنانيّ فاتيكانيّ، ويستكمل في لبنان إلى أن تمّ اعتماد الصّيغة الحاليّة. وكان من المقرّر انعقاد المؤتمر في العام 2020، وتأجّل إلى اليوم بسبب الجائحة".  

وأضاف: "جاء تعييني سفيرًا لدى الكرسيّ الرّسوليّ حافزًا للاطّلاع عن كثب على عمق الرّوابط بين لبنان والكرسيّ الرّسوليّ، الّتي انطلقت من النّاحية الدّيبلوماسيّة في أواخر أربعينات القرن الماضي، إلّا أنّ جذورها التّاريخيّة تعود إلى قرون مضت. ولهذه العلاقات خصوصيّة في نواح عدّة، لعلّ أبرزها أنّها غير قائمة على المقايضات المعهودة في العلاقات بين الدّول، ويميّزها الحرص الدّائم لدى كلا الطّرفين على تطويرها وتمتينها. وما مشاركة رئيس الدّيبلوماسيّة الفاتيكانيّة المونسنيور غالاغير في هذا المؤتمر والزّيارة الرّسميّة الّتي يقوم بها للبنان سوى دلالة إضافيّة على هذا الواقع."

وتابع: "في الكرسيّ الرّسوليّ ديبلوماسيّة فاعلة برصانة واحتراف، وهي سابقة لنشوء حاضرة الفاتيكان المعاصرة. أمّا لبنان فهو من المسائل الثّابتة على جدول أعمال الدّيبلوماسيّة الفاتيكانيّة، التزامًا بتوجيهات الحبر الأعظم.

وأشار إلى "محطّات ثلاث طبعت مسار العلاقات بين لبنان والكرسيّ الرّسوليّ: في مرحلة أولى، ما قبل الدّولة في لبنان والفاتيكان، تعزّزت الرّوابط بين الكنيسة الرّومانيّة والكنائس الكاثوليكيّة الشّرقيّة. وجاء تأسيس المدرسة المارونيّة في روما في أواخر القرن السّادس عشر مبادرة بابويّة خيرة، ساهمت في إطلاق نهضة ثقافيّة وروحيّة، وإنجازات على غير صعيد. محطّة ثانية بدأت مع إقامة علاقات ديبلوماسيّة بين لبنان والكرسيّ الرّسوليّ.

والفاتيكان من الدّول العشر الأولى الّتي أقام معها لبنان علاقات ديبلوماسيّة مع تعيين شارل حلو (رئيس الجمهوريّة لاحقًا) سفيرًا في العام 1947. أمّا المحطّة الثّالثة فانطلقت مع البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني عبر مواقفه المعروفة وإطلاقه السّينودس الكنسيّ الخاصّ بلبنان، محمّلاً بلد الأرز رسالة تتجاوز حدوده. الدّعوة إلى التّلاقي والانفتاح تعود جذورها إلى مقرّرات مجمع الفاتيكان الثّاني الّذي شارك فيه يوحنّا بولس الثّاني (رئيس الأساقفة آنذاك)، وكانت له مساهمات مفصليّة، وتحديدًا في مسألة الحرّيّات الدّينيّة."  

ولفت  إلى "أنّ الدّافع إلى انعقاد هذا المؤتمر كلام البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني منذ أكثر من ثلاثة عقود (في 7 أيلول 1989)، رافعًا لبنان إلى مصاف الرّسالة، وفي أحلك ظروف الحرب في البلاد... دعوة الرّجاء هذه، أعاد التّأكيد مضامينها قداسة البابا فرنسيس في الكلمة الختاميّة ليوم لبنان في الفاتيكان في الأوّل من تمّوز الماضي، الّذي شارك فيه الحبر الأعظم وكبار معاونيه".

وأكّد "تعدّديّة وحرّيّة، واحة أخوّة ورسالة سلام، عبارات مفاتيح للبنان المراد في كلام الحبر الأعظم، ماضيًا وحاضرًا، وبمضامين مترابطة، فتثبت الرّسالة ولبنان مؤتمن عليها، فلا يكون جسر عبور ظرفيًّا بل نواة صلبة تجسّد المعاني والغايات. ّ والحرّيّة متلازمتان، والأخوّة والاختلاف صنوان، وكلّ ذلك من أجل الخير العامّ. ومن لبنان، كلام معبّر للإمام موسى الصّدر في العام 1977 يحاكي جوهر الرّسالة: "التّعايش الإسلاميّ المسيحيّ من أغلى ما في لبنان، وهذه التّجربة غنيّة للإنسانيّة كلّها".

وأضاف: "وجود لبنان، الدّولة والمجتمع، يشكّل حجر الزّاوية، أيّ أنّه المدماك الأوّل للرّسالة. وهي لا تأتي من فراغ ولا من التّمنّيات والشّعارات، بل من الواقع المعاش، بحلوه ومرّه، والمنبثق بدوره من الوجدان، نتاج التّاريخ والثّقافة والإيمان."  

وتابع: "مسارات مختلفة أدّت إلى نشوء الدّول والمجتمعات في هذه المنطقة من العالم، ومنها لبنان، في مرحلة ما بعد الحرب العالميّة الأولى. محطّات مفصليّة شهدها لبنان، أبرزها الاستقلال المتلازم مع الميثاق الوطنيّ. نجاحات وإخفاقات سجّلت، وتزامنت مع تحوّلات كبرى في المحيط الإقليميّ بدأت في أواخر الأربعينات، بعد سنوات قليلة من الاستقلال."  

وأضاف: "إلّا أنّ الثّابت في المسار العامّ أنّ لا دولة سلطويّة في لبنان، وتفاعل مع الخارج، القريب والبعيد لم يخل من أزمات. لم تسقط الدّولة حتّى في أصعب الظّروف وإن تلاشى دورها، ولم يختزل الفكر في قوالب جامدة، ولم تنكسر الإرادة الحرّة، ومعها التّنوّع والانفتاح، وثمّة فرص وإمكانات لم تكن متاحة سوى في لبنان. وما دام لبنان رسالة، ركيزتها التّعدّديّة والحرّيّات، وما لذلك من متطلّبات وأثمان، فلا بديل عنها على رغم التّحدّيات. قدر لبنان أن يواجه الصّعاب وهو الآن في خضمّ أزمات غير مسبوقة. ليست كلّها من صنع الخارج، ولاسيّما منها تدهور الأوضاع الماليّة والاقتصاديّة ومعها القيم المطلوبة في مقاربة الشّأن العامّ."  

وشدّد على "أنّ الانهيار الرّاهن أصاب كلّ مفاصل البنيان في لبنان، الدّولة والمجتمع والاقتصاد، وسرعان ما دخلت تداعياته كلّ بيت وعائلة. معاناة النّاس اليوميّة لا مثيل لها في زمني الحرب والسّلم، منذ مئة عام على اليوم. تفكّكت ركائز الاقتصاد، وأهدر المال العامّ واحتجز المال الخاصّ. وفي تقرير أخير للبنك الدّوليّ عن لبنان، إشارة لافتة إلى حال غير مألوفة من انكماش متعمّد. أمّا انفجار المرفأ، الّذي دمّر وشرّد وقتل النّاس في البيت والمدرسة والمستشفى وليس في الملاجئ وخلف المتاريس، فكارثة حلّت، لم يشهد لبنان مثيلًا لها... وإلى هذا الواقع غير المسبوق في الإطار اللّبنانيّ، نزاعات وتحوّلات إقليميّة ودوليّة في العقود الأخيرة، وهي أيضًا غير مسبوقة."  

وإعتبر أنّ "المجتمع الدّوليّ لا يغضّ النّظر عن لبنان، فلا مصلحة له بالانهيار الكامل ولا دعم متاح بلا شروط. إلّا أنّ للصّبر حدودًا،  ولاسيّما أنّ مفاتيح الحلول لبعض أزمات لبنان ليست كلّها بيد الخارج. فإذا كان الكرسيّ الرّسوليّ يساعد بلا مقابل، فهو أسوة بسواه من الجهات المعنيّة، ينتظر مبادرة لبنانيّة عنوانها العامّ الإصلاح، ذلك أنّ العمل المثمر لا يأتي من طرف واحد. ثمّة تعاطف دوليّ مع لبنان، وتحديدًا مع شعبه، وأنا شاهد على ذلك وخصوصًا في الفاتيكان."  

ولفت إلى أنّ "الكرسيّ الرّسوليّ معنيّ بالدّرجة الأولى بمعاناة النّاس وليس بالتّجاذبات السّياسيّة. ولبنان من الدّول الّتي أخذت الحيّز الأكبر من اهتمامات الحبر الأعظم في العامين الماضيين من أجل توفير عيش النّاس، بعيدًا من الفقر والعوز، وبكلّ الوسائل المتاحة. فلا رسالة ممكنة ولا عيش مشترك سويّ بلا عيش كريم. وما الغاية من أيّ نموذج عندما تنتهك القوانين ولا تتوافر ظروف حياة يسودها الاطمئنان."  

وأضاف: "عيش مشترك يحاكي الرّسالة- النّموذج، كما نادى بها البابا القدّيس، قد يكون صعب المنال في هذه الظّروف القاسية. إلّا أنّ الانهيار الحاصل ليس مصدره تصدّع العيش المشترك ولا التّنوّع والحقّ في الاختلاف، بل ثمّة من يسعى إلى عيش مشرِك من أجل مصالح ومكاسب على حساب الخير العام.ّ كما أنّ الفشل في إدارة الشّأن العامّ ليس مردّه فشل العيش المشترك على مستوى النّاس، ضحايا الانهيار من كافّة الفئات والانتماءات. فالمصيبة مشتركة، على أن تكون إرادة الخروج منها جامعة لدى أصحاب القرار."  

وتابع: "للعيش المشترك في لبنان خصوصيّة لا بل فرادة تميّزه عن سواه من الدّول والمجتمعات في المحيط الإقليميّ وتحديدًا لجهة التّعدّديّة والحرّيّات وعدم تدخّل الدّولة بالشّأن الدّينيّ وبخصوصيّة المكوّنات، وأيضًا في المجالات التّربويّة، والإعلاميّة، والثّقافيّة وسواها. وهذا ما سيتمّ إلقاء الضّوء عليه في هذا المؤتمر. بكلام آخر، العيش المشترك في لبنان ليس نتاج الفرض أو القوّة من أيّ سلطة، بل هو نتاج التّجربة المعاشة والاختلاط الطّوعيّ وغير المفتعل بين النّاس. لذلك يبقى العيش المشترك صمّام أمان، إذا شئنا، ومعطى قائم في أيّ حال."  

وقال: "الهمّ المعيشيّ الضّاغط يحتّم أولويّات من أجل حياة تصونها كرامة الإنسان. إلّا أنّ الأزمات الكبرى قد تشكّل حافزًا أو فرصة للانطلاق من جديد. وهذا ليس كلامًا في النّظريات والأوهام، لأنّ لا بديل للبنان: للقويّ والضّعيف وللواثق والمشكّك على حدّ سواء. فالمصالح المشتركة بين اللّبنانيّين اليوم هي واقعيًّا أكثر من أيّ وقت مضى. وما من إنجاز كان ممكنًا لأيّ طرف محلّيّ. وفي أيّ مجال إلّا في لبنان، وتحت مظلّة الدّولة، متمكّنة كانت أم معطّلة، وفي مجتمع لا تنقصه المبادرة ولا إرادة الإقدام".

 

وإختتم: ""معًا من أجل لبنان"، شعار أراده الحبر الأعظم للقاء رؤساء الكنائس الأخير في الفاتيكان، فهل نكون، نحن اللّبنانيّين، معًا من أجل لبنان، رسالة حضاريّة نقدّمها إلى العالم، فنكون أصحاب مبادرة وليس في موقع المتلقّي؟".  

وفي ختام الافتتاح، كانت كلمة للمونسنيور غالاغير، وفي مستهلّ عرضه لعلاقة  البابا يوحنّا بولس الثّاني بلبنان، قال: "نلاحظ جميعًا أنّ العلاقة الّتي كانت تربط البابا يوحنّا بولس الثّاني بلبنان كانت مميّزة للغاية، ويجب فهمها عبر وضعها في الإطار التّاريخيّ لانتخاب البابا يوحنّا بولس الثّاني على السّدّة البطرسيّة في العام 1978... وقد دعا قداسته الأسرة الدّوليّة مرّات عدّة  منذ بداية حبريّته إلى مساعدة لبنان على التّوصّل إلى السّلام ضمن أرض وطنٍ يحترمه ويعترف به الجميع، داعمًا إعادة بناء مجتمع عادل وأخويّ، في حين عملت الدّيبلوماسيّة الفاتيكانيّة بلا كلل، إن على الصّعيد الثّنائيّ أو المتعدّد الأطراف، على توفير الظّروف المؤاتية لإحلال السّلام الدّائم."  

وأضاف: "ويُلتمس التزام الحبر الأعظم الخاصّ تجاه لبنان عبر الاحتفال بالسّينودس الخاصّ من أجل لبنان الّذي عقد في العام 1995 والإرشاد الرّسوليّ الّذي انبثق منه تحت عنوان "رجاء جديد للبنان". وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لبنان يتميّز بكونه البلد الوحيد في العالم الّذي خصّته الكنيسة الكاثوليكيّة بسينودس كامل". وتابع: "يمكننا القول إذًا إنّ البابا يوحنّا بولس الثّاني جمعته بلبنان أواصر صداقة متينة وجميلة تجلّت بطرق عدّة وساعدت هذا البلد على النّموّ وتوطيد هويّته. ففي رسالة بابويّة إلى الأساقفة الكاثوليك عن الوضع في لبنان في 7 أيلول 1989، دعا البابا يوحنّا بولس الثّاني إلى الصّلاة على نيّة أن يتبيّن للعالم أنّ "لبنان هو أكثر من بلد: إنّه رسالة حرّيّة وعيش مشترك للشّرق والغرب".

وإعتبر أنّ "هذه الصّورة المحبّبة إلى قلبنا جميعًا، نموذج لتحديد هويّة لبنان، وهي هويّة لطالما أولاها الكرسيّ الرّسوليّ اهتمامًا خاصًّا، حيث إنّ لا شكّ في أنّ زوال لبنان من شأنه أن يكون موضع أسف شديد للعالم بأسره، في حين أنّ المحافظة على هذا البلد هي من أكثر المهام نبلاً وإلحاحًا الّتي ينبغي للعالم المعاصر أن يتولّاها، كما جاء في الرّسالة البابويّة الّتي وجّهها البابا يوحنّا بولس الثّاني إلى الأساقفة الكاثوليك عن الوضع في لبنان."  

وقال: "ما زال الشّعب اللّبنانيّ يعاني الأمّين، ومعاناته واضحة للجميع. ففي ظلّ تنامي الفقر، تجد عائلات عدّة نفسها عاجزة عن النّفاذ إلى حساباتها المصرفيّة، في حين أنّ المدارس والجامعات والمستشفيات تعاني النّقص في التّمويل. ما هو السّبيل إلى الحلّ؟ لا شكّ في أنّ الأسرة الدّوليّة يجب أن تساعد لبنان على مواجهة هذا الأفق الاقتصاديّ المسدود ووضع حدّ له. لكن هناك حاجة أيضًا إلى تجدّد وإصلاحات داخليّة تترافق وتنبّه حقيقيّ للخير العامّ والتزام مقاربة تتخطّى المصالح الضّيّقة للأفراد والجماعات. ويمكن تخطّي الانقسامات والجمود السّياسيّ والاقتصاديّ عبر الدّيموراطيّة الحقّة، وقوامها الحوار والوحدة والتّفاهم ووضع الخير العامّ في مصاف الأولويّات."  

وفي معرض الحديث عن العلاقة بين المسيحيّين والمسلمين، أكّد أنّ "المسيحيّة لطالما شكّلت عنصرًا أساسيًّا في ثقافة هذه المنطقة الجغرافيّة، وخصوصًا في بلاد الأرز الغنيّة اليوم بتعدّد التّقاليد الدّينيّة فيها."  

وقال: "بالفعل، يعيش الكاثوليك التّابعون لكنائس بطريركيّة متنوّعة وللكنيسة اللّاتينيّة في هذا البلد، وهو أيضًا موطن لمسيحيّين من كنائس ومجموعات كنسيّة أخرى، إضافة إلى المسلمين والدّروز. وتمثّل هذه الطّوائف المتنوّعة مصدر غنى وفرادة وتحدّ للبنان في آنٍ. غير أنّ مساعدة لبنان على الازدهار مهمّة تقع على عاتق أبنائه جميعًا على مسيحيّي لبنان والعالم العربيّ وكلّ الفخورين بهذا الإرث أن يساهموا بشكل فاعل في تحقيق الخير العامّ عن طريق الثّقافة والتّطوّر. وننوّه هنا بأنّ الإسلام والمسيحيّة يتشاركان عددًا من القِيم الإنسانيّة والرّوحيّة الّتي لا تحتمل التّأويل... يعيش المسيحيّون والمسلمون في الشّرق الأوسط ضمن منطقة واحدة، وقد شهد تاريخهم المشترك محطّات مجيدة وأخرى أليمة، وهم اليوم مدعوّون إلى العمل سويًّا على بناء مستقبل قائم على الأخوّة والتّعاون."  

وذكّر بأمل البابا يوحنّا بولس الثاني في أن "يساهم الحوار والتّعاون بين المسيحيّين والمسلمين في لبنان في إطلاق المسار نفسه في دول أخرى في الشّرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم."  

ونوّه بـ"الاهتمام المستمرّ الّذي يوليه الكرسيّ الرّسوليّ للبنان منذ زيارة البابا الفخريّ بنديكتوس السّادس عشر لبيروت في أيلول 2012، وصولاً إلى البابا فرنسيس الّذي ألقى  مرارًا الضّوء على أهمّيّة الوحدة والحرّيّة والعيش المشترك والتّعدّديّة والحوار، واصفًا لبنان بـ"واحة الأخوّة"، مطلقًا مناشدة من القلب في ختام يوم الصّلاة من أجل لبنان في الأوّل من تمّوز 2021، ومفادها: "كُلّ  من فيِ يَدِهِ السّلطة، فليضع  نَفسه نِهائِيًّا وَبِشَكْل قاطِعٍ في خِدْمَةِ السّلام، لا في خِدمة مَصالِحِهِ الخاصَّة. كَفَى أنْ يبحث عدد قليل مِنَ النّاسِ عن منفعة أنانِيّة علَى حِسابِ الكَثيرين! كَفَى أنْ تسيطر أَنْصافُ الحَقائِقِ علَى آمالِ النّاس. كَفَى اسْتِخْدامُ لبنانَ والشَّرْقِ الأوْسَط لِمَصالِحَ وَمَكاسِبَ خارجِيَّة! يَجِبُ إعْطاءُ اللّبنانِيِّينَ الفُرْصَةَ لِيَكُونوا بُناةَ مُسْتَقْبَلٍ أفْضَل، علَى أرْضِهِم وَبِدونِ تَدَخُّلاتٍ لا تَجُوز."  

وإختتم: "إنّ هذه المناشدة الّتي تضاف إلى مواقف البابوات يوحنّا بولس الثّاني وبنديكتوس السّادس عشر وبولس السّادس وبيوس الثّاني عشر تمثّل أفضل أمل للبنان واللّبنانيّين في قيام بلدٍ لديه الحرّيّة بأن يبلغ ملء هويّته، حيث التّعدّديّة هديّة والعيش المشترك نعمة ومثال يحتذى".

إشارة إلى أنّ المؤتمر يستمرّ يومين ويبحث في 5 محاور أساسيّة، وهي: "المسار التّاريخيّ؛ العلاقات المسيحيّة- الإسلاميّة في الحالة اللّبنانيّة؛ العيش المشترك والدّولة والمجتمع؛ التّربية والثّقافات والحرّيّات؛ وإعلان أبو ظبي ورسالة لبنان".