لبنان
26 تشرين الثاني 2025, 07:30

عوده: يدعونا عيد القدّيسة كاترينا إلى إلى الثّقة والصّلاة وإعادة ترتيب أولويّاتنا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده، الثّلاثاء، القدّاس الإلهيّ في عيد القدّيسة العظيمة في الشّهيدات كاترينا، في ديرها بالأشرفيّة.

بعد الإنجيل المقدّس، كانت لعوده عظة قال فيها:

"أحبّائي، نعيّد اليوم للقدّيسة العظيمة في الشّهيدات كاترينا السّينائيّة الّتي جمعت في شخصها رهافة العقل ونقاء القلب، جبروت الحكمة واتّضاع القداسة، فغدت مثالًا للمؤمنة الّتي "لبست المسيح" كما يقول الرّسول بولس.

تضعنا رسالة اليوم أمام جوهر الحرّيّة الجديدة في المسيح، فيما يقدّم لنا المقطع الإنجيليّ مثالًا لامرأة نالت الشّفاء بالإيمان. هكذا، تقف أمامنا إمرأتان، نازفة دم تكشف لنا سرّ الثّقة بالمسيح، والقدّيسة كاترينا، الّتي تكشف لنا كيف يحوّل المسيح الحكمة البشريّة إلى شهادة مضيئة لا تنطفئ.

يذكّرنا الرّسول بولس بأنّ النّاموس كان مؤدّبًا يقود إلى المسيح، أمّا الآن، وقد ظهر الإبن، فقد نلنا التّبنّي وغدونا واحدًا في المسيح يسوع. هذه الوحدة لا تلغي الهويّات، بل تطهّرها وترفعها فلا يعود الإنسان منغلقًا على ذاته، بل يصير منفتحًا على ملء الله. يقول القدّيس أثناسيوس الكبير: "إنّ ابن الله صار إنسانًا لكي يصير الإنسان إبنًا لله". هذه الحقيقة الخلاصيّة هي حياة يوميّة نعيشها، تمامًا كما عاشتها القدّيسة كاترينا.

كانت كاترينا شابّةً غنيّةً، متعلّمةً، جميلةً، تتقن الفلسفة، وتعرف علوم زمانها. لكنّ كلّ ذلك لم يكن هدفًا في ذاته. فما قيمة الحكمة إن لم تقد إلى الحقّ؟ وما نفع المعرفة إن لم تفتح القلب على الله؟ لقد أدركت كاترينا، بعد لقائها بالمسيح، أنّ كلّ المعرفة البشريّة ليست سوى درجات على سلّم واحد هي سلّم الخلاص.

في المقابل، يقدّم لنا الإنجيل إمرأةً ضعيفةً، مريضةً، طريدة المجتمع. كانت نازفةً للدّمّ منذ إثني عشر عامًا، وقد أنفقت كلّ مالها على الأطبّاء ولم تنتفع شيئًا. إنّها صورة الإنسان الجريح، المرهق، الباحث عن شفاء لا يأتي. كم من النّاس اليوم يشبهون هذه المرأة؟ يركضون وراء حلول كثيرة، في الطّبّ والسّياسة والمال والعلاقات، لكنّ القلب يبقى نازفًا. إنسان اليوم يتعلّم، يتواصل، يجمع الأملاك والمراكز والألقاب لكنّه يعيش جوعًا عميقًا إلى معنًى لحياته، وطمأنينة على غده، وشفاء من أمراضه.

في إنجيل اليوم تعلّمنا المرأة النّازفة أنّ الشّفاء يبدأ من خطوة واحدة هي الإقتراب من المسيح بثقة. لم تستطع الكلام ولا المجابهة ولا إعلان مرضها ولا إيمانها أمام الجمع، فاقتربت بصمت ولمست هدب ثوب الرّبّ. صار ذلك اللّمس الهادئ قناة نعمة، فشعرت حالًا بأنّها برئت من دائها. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "الإيمان لا يحتاج ألف كلمة، بل يحتاج قلبًا يعرف أن يسند نفسه على الله".

إذا جمعنا بين الرّسالة والإنجيل، نرى أنّ الإنسان ينال الحرّيّة الحقيقيّة بالمسيح وحده. المرأة النّازفة تحرّرت من مرضها وخجلها، ونحن تحرّرنا بالإبن الّذي أرسله الله مولودًا من امرأة، لكي يصير البشر ورثةً، كما كتب الرّسول بولس. أمّا القدّيسة كاترينا، فقد تحرّرت من عبوديّة عالمها، أيّ عبوديّة المجد والفلسفة المتعجرفة والسّلطة. إختارت أن تموت من أجل الحقّ، فحصلت على الحياة الأبديّة.

تقف كاترينا أمامنا مثالًا للإنسان الّذي لا يخاف إذ لا مكان للخوف في قلب من عرف المسيح. كان بإمكانها أن تساير الإمبراطور وتحظى بحياة هانئة، لكنّها اختارت الحياة الأبديّة لأنّها أدركت أنّ الحقيقة تستحقّ التّضحية. يقول القدّيس مكسيموس المعترف: "من أحبّ الحقّ لا يمكنه أن يساوم عليه ولو كلّفه ذلك حياته."

يا أحبّة، رغم تقدّم العلم، ما زال إنسان اليوم يعيش خوفًا ونزيفًا داخليًّا، نزيف قلق على المصير، وفقدان معنى الوجود، والجروح والمصاعب، والشّعور بأنّ الحياة تتفلّت من بين يديه. كثيرون يلجؤون إلى تجميع المال أو طلب المراكز أو اللّجوء إلى الأحزاب سعيًا إلى إعطاء معنىً لحياتهم، أو خلاص من مشكلة، أو نجاح في مهمّة، لكنّ نزف القلب لا يشفى ما لم يلمس المسيح.

يدعونا عيد القدّيسة كاترينا إلى لمس ثوب المسيح، أيّ إلى الثّقة والصّلاة وإعادة ترتيب أولويّاتنا. ليس المطلوب أن نكون فلاسفةً، ولا أن نواجه العالم بمنطق الجدل العقيم، بل أن نسأل الرّبّ أن يملأ قلوبنا بحكمته الّتي "تنعم على البسطاء" كما يقول القدّيس إيريناوس. فالقداسة ليست للنّسّاك وحدهم، ولا للّاهوتيّين فقط، بل لكلّ إنسان يفتح قلبه للنّعمة. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "إذا امتلأ القلب من الله صار قادرًا على رؤية العالم بنور جديد". هذا ما جعل كاترينا قادرةً على النّظر إلى مضطهديها لا كأعداء، بل كأناس يحتاجون إلى نور المسيح؛ فكانت الوسيلة لهداية أربعين فيلسوفًا وثلاثمئة جنديّ، وصار دمها غرسًا للحياة الجديدة.

فلنطلب إلى الرّبّ أن يعطينا جرأة الإيمان الشّافي، وحكمة القلب المستنير، وحرّيّة الرّوح الّتي لا ترضخ لسلطان هذا الدّهر. ولنجعل حياتنا لمسةً حقيقيّةً لثوب المسيح، لمسة صلاة وتوبة وخدمة ورحمة تجاه المتألّمين والضّعفاء، آمين."