عوده: هل رأيتم زعيمًا مثل المسيح؟
وفي هذا السّياق، قال عوده: "أحبّائي، تتوالى في هذه الفترة المباركة، الّتي نتهيّأ فيها لاستقبال الإله متجسّدًا في مذود، القراءات الإنجيليّة المتحدّثة عن الغنى، والفرق بين الاستغناء بالمادّة والاستغناء بالله. فبعدما سمعنا مثل الغنيّ ولعازر، ثمّ مثل الغنيّ الّذي أخصبت أرضه وأراد أن يبني أهراءً أكبر تتّسع لمحصوله، ها نحن اليوم نسمع الرّبّ يسوع قائلاً للإنسان الّذي دنا إليه مجرّبًا: "بع كلّ شيء لك ووزّعه على المساكين، فيكون لك كنز في السّماء، وتعال اتبعني". وبعدما حزن جدًّا هذا الغنيّ لسماعه قول الرّبّ، نسمع المخلّص يتابع قائلًا: "ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله. إنّه لأسهل أن يدخل الجمل في ثقب الإبرة من أن يدخل غنيّ ملكوت الله".
لقد وضعت الكنيسة المقدّسة كلّ هذه النّصوص لكي تجعلنا ندرك لماذا اختار ربّنا، الغنيّ بالرّحمات، والخالق البرايا بأسرها، وملك الملوك، الفقر والتّواضع والولادة في مذود، لا على سرير من المخمل أو الحرير. سمعنا في نصّ الرّسالة الّذي تلي اليوم على مسامعنا، والمأخوذ من رسالة الرّسول بولس إلى أهل أفسس: "يا إخوة، أطلب إليكم، أنا الأسير في الرّبّ، أن تسلكوا كما يحقّ للدّعوة الّتي دعيتم بها؛ بكلّ تواضع ووداعة وبطول أناة". المسيحيّة، اتّخذت مبادئها ممّن دعيت باسمه، وكلّ مسيحيّ لا يسير على خطى المسيح، يشكّل عثرةً للآخرين، وستكون دينونته عظيمة.
الغنى ليس عيبًا ولا خطيئة، إذ كثيرون من الأغنياء يتصدّقون في الخفية، ويساعدون الآخرين بلا تعلّق بالمادّة أو بغية حبّ الظّهور، كما أنّ كثيرين من الفقراء هم بعيدون عن المسيح. الغنيّ الحقيقيّ هو الّذي امتلك المسيح في كيانه، وأطاع وصاياه، فكانت كلماته بلسمًا للقلوب المجروحة، وابتسامته ندىً للأرواح المنكسرة، وحياته كلّها تعبق بشذى المسيح المبهج.
لقد عيّدنا الأسبوع الماضي لقدّيسة عظيمة في الشّهيدات، هي القدّيسة كاترينا السّينائيّة الكلّيّة الحكمة. كانت الشّهيدة أميرةً، غنيّةً، لكنّها لم تجد في الأموال ما يكفي. إمتلكت القدّيسة كاترينا حكمةً واسعةً، إلّا أنّ هذه أيضًا لم ترو عطشها. عندما تعرّفت كاترينا على المسيح، لم ترغب بأيّ أحد أو شيء فيما بعد، إذ امتلأت من المالئ الكلّ محبّةً وتواضعًا وصبرًا، وجاهدت حتّى الاستشهاد من أجل إيمانها.
هذا الأسبوع نعيّد لقدّيس معاصر، هو القدّيس البارّ بورفيريوس الرّائيّ، الّذي لم يكن غنيًّا بالمادّيّات، لأنّه اختار الرّهبنة طريقًا له نحو الملكوت، إلّا أنّه كان غنيًّا جدًّا بالمسيح السّاكن فيه، والّذي منحه موهبة الرّؤيا. يقول القدّيس بورفيريوس: "أيّها المسيح، أنت حبّي. أنا لا أفكّر بالموت. أنا أودّ أن أفكّر فقط بالمسيح. إفتحوا أيديكم وارتموا في أحضان المسيح، وعندئذ سوف يحيا هو في داخلكم. إزدروا الأهواء ولا تهتمّوا للشّيطان. إلتفتوا فقط نحو المسيح، ولكي يتمّ هذا أطلبوا أوّلاَ نعمته". يقول الرّبّ لكلّ واحد منّا: "حيث يكون كنزك هناك يكون قلبك أيضًا" (مت 6: 21). كنز القدّيس بورفيريوس كان المسيح، وبه تعلّق قلبه والتهب بعشقه، فاستطاع أن ينقل المسيح إلى كلّ من التقاه. يعلّمنا القدّيس بورفيريوس قائلاً: "وجّهوا أذهانكم دومًا نحو العلاء، نحو المسيح. إعملوا مع المسيح، عيشوا مع المسيح، تنفّسوا المسيح، تألّموا مع المسيح وافرحوا أيضًا معه. ليكن المسيح كلّ شيء بالنّسبة إليكم. المسيح هو عروس نفوسكم، هو أبوكم، هو كلّ شيء. لا يوجد أمر أسمى في هذه الحياة من محبّة المسيح. المسيح كلّه فرح، كلّه غبطة. النّفس السّكرى بمحبّة المسيح هي دومًا فرحة وسعيدة مهما واجهت من أتعاب وبذلت من تضحيات". الإنسان المتعلّق بالمادّيّات يقضي أيّامه مهتمًّا بالمحافظة عليها ومضاعفتها، ناسيًا نفسه ومن حوله، ويحزن عند خسارتها، أمّا الغنيّ بالمسيح فيعتبر أنّ كلّ ما يملك عطيّة من الله يستعمله للخير والبنيان، وما يحصل معه هو بركة من الرّبّ، لخلاص نفسه، حتّى لو كان خسارةً أو مرضًا أو حتّى موتًا.
القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، الّذي نعيّد له هذا الأسبوع أيضًا، خسر يده، الّتي قطعت بسبب استخدامه إيّاها في الكتابة عن الرّبّ والدّفاع عن الإيمان القويم، لكنّه لم يغتمّ لخسارته، وبقي ثابتًا على صخرة الإيمان، فحصل على التّعزية الإلهيّة، وظهرت له والدة الإله الّتي أعادت إليه يده المقطوعة حتّى يتابع شهادته الإيمانيّة وتعليمه المستقيم.
العظيمة في الشّهيدات بربارة، الّتي نقيم تذكارها في اليوم نفسه مع القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ، هي مثال آخر يحتذى في الاستغناء بالرّبّ. فقد كانت إبنة رجل وثنيّ غنيّ جدًّا، لكنّها، عندما تعرّفت إلى المسيح، تركت كلّ شيء وتبعته رغم المصاعب والشّدائد الّتي واجهتها.
يا أحبّة، القدّيسون أمثلة حيّة لنا، يعلّموننا أنّ كلّ ما في هذه الدّنيا زائل ولا قيمة له، كما يعلّموننا أنّ من تعلّق بالمسيح حتّى المنتهى، كان له المسيح مرساةً آمنةً، وقارب نجاة في أصعب الظّروف وأشدّ الاضطهادات. السّؤال الأهمّ اليوم هو: هل نتشبّث نحن بالمسيح لكي ننجو من الشّدائد والضّيقات؟ أم نتبع بشرًا لا خلاص لديهم، بل حروب وخراب ودمار ودماء؟ سمعنا في رسالة اليوم: "فإنّكم جسد واحد وروح واحد كما دعيتم إلى رجاء دعوتكم الواحد؛ ربّ واحد وإيمان واحد ومعموديّة واحدة، وإله أب للجميع فوق الجميع وبالجميع وفي جميعكم". إذًا، إن اتّبعنا الرّبّ نكون جميعنا واحدًا فيه، أمّا عندما تتبع كلّ مجموعة زعيمًا معيّنًا، يصيب التّشقّق والتّصدّع النّسيج الواحد، وتبدأ المشاكل بالظّهور وصولاً إلى التّناحر والتّخاصم والحقد وحتّى الحروب وسفك الدّماء. المسيح أهرق دمه فداءً عن العالم. هل رأيتم زعيمًا يطلب أن يتألّم أو يفتقر طوعًا من أجل أحد، مثلما فعل المسيح من أجل البشر؟ كلّ زعيم همّه ألّا يمسّ مصالحه سوء، في حين أنّ الشّعب أصبح يتسوّل حقّه من المصارف، وليس من يأبه! الزّعيم يهرّب أبناءه خارج الوطن ليتعلّموا أو ليكونوا في مأمن، وقد يكون حاملاً جنسيةً أخرى، ثمّ يطالعنا بمحاضرات عن الوطنيّة وأهمّيّة البقاء في أرض الوطن. أمّا من له ولد يدرس في الخارج، فهو مكبّل لا يستطيع أن يعيل ابنه أو ابنته في الغربة لأنّ أمواله مجمّدة قسرًا كي لا نقول منهوبة. الشّعب يئنّ جوعًا، والقلوب محطّمة والمسؤولون غائبون عن الواقع وعن المسؤوليّة وكأنّ الأمر لا يعنيهم. البلد متروك لمصيره، والانهيار يعصف بمؤسّساته وناسه، وما زال هناك بشر يفتعلون الأزمات، ويتقاذفون المسؤوليّات، ويؤجّلون الاستحقاقات، وآخرها تأليف حكومة تتولّى مهمّة القيام بما يلزم، بمهنيّة وشفافيّة، من أجل إنقاذ البلد. نحن في مسار انحداريّ خطير لم يعرفه لبنان من قبل. الدّولة متحلّلة وتنتظر فتات المساعدات من الخارج، وسلوك الطّبقة السّياسيّة معيب، والمواطن يئنّ ويشكو وليس من يسمع.
دعوتنا في هذا الزّمن المبارك، أن نتمثّل بالقدّيسين الّذين ساروا حسب وصايا الرّبّ، فكانت كلمته كنزهم الثّمين، وقوتهم اليوميّ، وقوّتهم في الشّدائد. من كان المسيح في حياته، كانت أيّامه مليئةً بالتّعزية الإلهيّة، وعاش فرحًا سماويًّا لا يوصف، حتّى ولو كانت العواصف على أنواعها ثائرةً حوله.
بارككم الرّبّ المخلّص، وقاد خطاكم إلى كلّ عمل صالح، هو الصّالح وحده، آمين."