لبنان
17 آب 2021, 05:55

عوده: هل أرواح النّاس رخيصة إلى هذا الحدّ؟

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس عيد رقاد السّيّدة العذراء في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس. وبعد الإنجيل المقدّس ألقى عظة قال فيها:

"في البداية أودّ أن أعرب عن ألمي وحزني لما حصل في عكّار وأدّى إلى سقوط أبرياء هم ضحايا الطّمع والفساد وتردّي الأوضاع المعيشيّة. ألا يكفينا موت ومآس؟ والمواطن هو الذي يدفع الثّمن دائمًا. رحم الله الضّحايا وعزّى قلوب أهلهم، وشفى الجرحى والمصابين، وألهم المسؤولين الإسراع في إيجاد الحلول، وأنقذ لبنان بشفاعات سيّدتنا والدة الإله. نعيّد اليوم لرقاد سيّدتنا والدة الإله. لم يرد شيء في الكتاب المقدّس عن هذا الحدث، لكنّه حفظ في ذاكرة الكنيسة، ونحن نفهمه من خلال الأيقونة والصّلوات التي نرتلها في غروب وسحر العيد.

أيقونة العيد تصوّر لنا العذراء مريم راقدة على سريرها، وقد اجتمع حولها الرّسل الذين جمعوا بطريقة سرّيّة من العالم أجمع، إضافة إلى رؤساء الكهنة والملائكة والنّسوة، يكرّمون جسدها وينحنون أمامه بإجلال. أمّا العنصر الأهمّ في الأيقونة فهو الرّبّ يسوع المنتصب بمجده، مشعًّا، حاملًا طفلًا بين ذراعيه، يمثّل روح والدة الإله. لقد أعطي لروح العذراء مريم شكل مولود جديد في الأقمطة لأنّها تموت على الأرض وتولد في السّماء. هي ولدت ابن الله بالجسد، وأعارته بشريّتها كي يولد على الأرض. هذا الإبن، الذي أصبح ابنها، يعيرها بدوره ألوهيّته كي تولد في السّماء. إنّ هدف كلّ إنسان مسيحيّ هو التّألّه، لذلك العذراء هي مثال للمسيحيّين في كيفية الوصول إلى هذا التّأله. تبدأ طريق التّأله بالتّواضع والوداعة والطّاعة، على مثال العذراء التي قبلت أن تكون والدة الإله، من دون زواج، وأن تحتمل كلام النّاس المسيء، وتهديدات المجتمع لها بالرّجم، قائلة لرئيس الملائكة جبرائيل الذي بشّرها بأنّها ستلد ابن الله: "هوذا أنا أمة للرّبّ، ليكن لي كقولك" (لو 1: 38). علمت مريم أنّها ستصبح والدة لربّ السّماء والأرض، لخالقها، لكنّها مع ذلك دعت نفسها أم"، ولم تسمح لنفسها أن تفكّر بأنّها ستصبح أسمى رفعة من جميع المخلوقات.
تؤكّد لنا والدة الإله أنّ المتواضع المطيع يمجده الرّبّ، إذ قالت عند زيارتها لأليصابات: تعظم نفسي الرّبّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنّه نظر إلى تواضع أمّته، فها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال، وتتابع: شتت المتكبّرين بذهن قلوبهم ورفع المتواضعين (لو 1: 46-55). لم تنشد العذراء تلك الكلمات لكي تتكبّر بأنّ الأجيال ستطوّبها، إنّما لتعلّمنا أنّ التّواضع يؤدّي إلى الحصول على كرامة إلهيّة لا تنتزع من الإنسان. ولا ننسى أنّ العذراء ذهبت إلى نسيبتها أليصابات لكي تخدمها في حبلها بالمعمدان، هي الحبلى بربّ المجد، وهذا أيضا سلوك يدلّ على تواضع والدة الإله الذي نتعلم منه الكثير. إنّ أبرز الصّفات التي تميّزت بها أيضا والدة الإله، الإيمان العظيم. لقد قالت أليصابات لمريم: طوبى للتي آمنت أنّ سيتمّ ما قيل لها من قبل الرّبّ (لو 1: 45). كلام أليصابات نابع من خبرة شخصيّة، إذ إنّ زوجها الكاهن الشّيخ زخريّا، الذي يفترض أنّه يعرف الكتاب، شكّك بكلام الملاك الذي بشّره أنّ زوجته ستلد طفلًا، وهذه لم تكن المرّة الأولى التي تحدث فيها معجزة الولادة من أم عاقر أو متقدّمة في السّنّ، على مثال إسحق (تك 18) وصموئيل (1صم 1) وشمشون (قض 13) ويعقوب وعيسو (تك 25) ويوسف (تك 29). أما مريم، فقد وثقت بكلام رئيس الملائكة، الذي بشّرها بحبل من دون زرع، الأمر الذي لم يسمع به من قبل. إذا، زخريا لم يصدّق الأمر السّهل، أمّا مريم فقد قبلت بالأمر الصّعب مظهرة إيمانًا عظيمًا بالله. جاء إيمان مريم بلا شكّ، على عكس سارة (تك 18: 12) وتوما الرّسول. كما أنّها آمنت بلا جدال، على عكس الكثير من الأنبياء الذين طالبوا الرّبّ بعلامات كي يؤمنوا، على مثال موسى (خر 4) وجدعون (قض 6) وحزقيا (2مل 20: 9)".
شهدت مريم في حياتها أحداثًا كثيرة وعظيمة، كان يمكنها أن تنتفخ كبرياء بسببها، إلّا أنّها كانت تحفظ جميع هذه الأمور في نفسها متفكّرة بها في قلبها (لو 2: 19)، وقد حافظت الكنيسة على صورة العذراء المتواضعة، من خلال عدم تصويرها وحدها في جميع أيقوناتها، لكنّها تصوّر دائمًا مع الرّبّ يسوع الذي منه تستمدّ مجدها.
إنّ والدة الإله تحمل لنا التّعزية في أيّامنا هذه، خصوصًا لجميع الأمّهات اللّواتي خسرن فلذات أكبادهنّ في تفجير العاصمة. فهي مثال الأم المتألّمة على وحيدها الذي صدر بحقّه حكم الموت جورًا. لكنّ ابنها، إلهنا، الرّبّ يسوع المسيح، قال لوالدته بحسب صلواتنا: لا تنوحي علي يا أمي إذا شاهدتني في قبر، أنا ابنك الذي حبلت به في أحشائك بلا زرع، لأنّي سأقوم وأتمجّد وأعلي مشرفًا جميع الذين يسبحونك. المسيح قام من بين الأموات، وأقام والدته ومجّدها بإجلاسه إيّاها عن يمينه، وسيقيم جميع الموتى المؤمنين، لأنّه غلب الموت وكل من وما يسبب الموت.
حياة العذراء المتواضعة هي دينونة لكثيرين، خصوصًا لمن يتحمّلون مسؤوليّة من أيّ نوع. هل من مسؤوليّة أعظم من أن تكون العذراء مريم والدة للإله؟! إلّا أنّها بقيت على إنسانيّتها، تخدم وتطيع وتساعد وتحنّ وتحبّ. أمّا ذوو السّلطة فمتى استلموا منصبًا يظنّون أنفسهم فوق البشر، وقد يكونون ممّن لا يقومون بما تمليه عليهم مناصبهم من الخدمة العامّة والسّهر على راحة النّاس وتسهيل حياتهم وبثّ الطّمأنينة والأمان في المجتمع. فإن استلموا مركزا نفخوا صدورهم فخرًا وكبرياء، وإن وصلوا إلى النّيابة نسوا هموم من منحوهم الثّقة، ومهمّة تمثيلهم، وإن عيّنوا في وزارة صارت ملكًا لهم أو لحزبهم وطائفتهم مدى الحياة، فتصبح الوزارة أداة للشّرذمة والتّعطيل والفراغ والتّدهور، عوض أن تكون أداة للخدمة العامّة. فيا مسؤولي بلادي، لا تتشبّهوا بقايين الذي قتل أخاه، وأصبح دم أخيه يصرخ نحو الله. تشبّهوا بوالدة الإله، بتواضعها ووداعتها، حتّى تحصلوا أوّلًا على خلاص نفوسكم، ثم على القدرة على إنقاذ الشّعب من مآسيه.
دعوة أخرى إلى التّواضع سمعناها في نصّ رسالة اليوم: ليكن فيكم الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا، الذي إذ هو في صورة الله، لم يكن يعتد مساواته لله اختلاسًا، لكنّه أخلى ذاته آخذًا صورة عبد، صائرًا في شبه البشر، وموجودًا كبشر في الهيئة، فوضع نفسه وصار يطيع حتّى الموت، موت الصّليب. لذلك رفعه الله ووهبه اسمًا يفوق كل اسم. هل من إنسان أهمّ من الرّبّ يسوع؟ حاشا. تواضعوا إذا، إرجعوا إلى بشريّتكم، فأنتم ستعودون إلى التّراب يومًا ما، وستقدمون حسابًا عن كل ما اقترفته أيديكم. أوقفوا الصّراعات التي من خلالها، يوهم كلّ منكم أتباعه بأنّه هو الأقوى والأنزه والأحرص على حقوقهم ومصالحهم، فيما الحقيقة غير ذلك تمامًا. الحكم ليس صراعًا وكيديّة وتنافسًا أعمى على السّلطة. الحكم خدمة، عمل وطنيّ إنسانيّ خلاصته المحبّة والنّزاهة والتّضحية، وجوهره حبّ الوطن لا النّفس، والإخلاص للوطن لا للحزب أو الطّائفة، والعمل من أجل الخير العام لا الخاصّ. السّلطة تفسد، لذلك يجب أن تترافق مع التّواضع. والنّفس الكبيرة وديعة متواضعة تقدّم مصلحة الآخر على المصلحة الشّخصيّة، وترى في الآخر جوهرة يجب الحفاظ عليها لأنّ هذا الآخر هو صورة الله وإناء الرّوح القدس.

أليس حرامًا أن يصل اللّبنانيّ إلى تسوّل الدّواء والحليب والطّعام والمحروقات؟ وهل مسموح في القرن الحادي والعشرين أن يعيش البشر في الظّلام بسبب سوء الإدارة وعظم الفساد؟ يردّد اللّبنانيّون أنّ أيّام الحرب المشؤومة كانت أفضل ممّا نعيشه اليوم لأنّ كرامة اللّبنانيّ سرقت منه اليوم بعد سرقة حياته وأحلامه وأمواله. الظّلمة الدّامسة لا تغمر ليالي اللّبنانيّين وحسب، بل تغمر قلوبهم المجروحة، وتختزل حياتهم في الوقوف ساعات في الطّوابير أمام الأفران والصّيدليّات ومحطّات المحروقات. مقوّمات الحياة الأساسيّة مفقودة، والوضع من سيّء إلى أسوأ، ولا أفق لحلّ. دولة لا تهتم بشعبها، ومسؤولون يتفرّجون وكأنّهم يعيشون في عالم مختلف. هل المركز أو السّلطة أو أيّ مكتسب أهمّ من حياة اللّبنانيّ وكرامته؟ ما جدوى المركز أو الحقيبة أمام وجع النّاس؟ هل أرواح النّاس رخيصة إلى هذا الحدّ؟ وعلى من ستمارسون سلطتكم إذا هاجر شعبكم أو مات؟ قليل من الوعي ومن الحكمة ومن الإنسانيّة".
وإختتم "في الأخير، دعوتنا اليوم أن نتشبّه جميعًا بحياة والدة الإله على الأرض، حتّى نستحق مثلها مكافأة التّألّه، والدّخول إلى ملكوت السّماوات، حيث الفرح الذي لا ينتهي".