عوده: نشاء عاصمتنا بيروت مدينة للانفتاح والحرّيّة والتّسامح والحياة
"إنّها لمناسبةٌ مبارَكة أن نجتمعَ معًا في كنف القدّيس جاورجيوس، شفيع عاصمتنا بيروت وحامي هذه المنطقة، الّذي اتّخذ اسمَه مستشفى القدّيس جاورجيوس الجامعيّ ليتبرّكَ به ويسيرَ على خطاه وهو «الطّبيب والشّافي» كما نرتّل له في كنيستنا.
هذا المستشفى، الّذي أُنشئ منذ ما يقارب القرن والنّصف القرن، أُسّس على قاعدتين متينتين: محبّة الله ومحبّة القريب، الوصيّتين اللّتين أعطاهما اللهُ لتلاميذه وقد سمّاهما العظمين. فمن يحبُّ اللهَ لا يمكن إلّا أن يحبَّ القريبَ الّذي هو كلُّ إنسانٍ مخلوقٍ على صورة الله ومثاله. ومن لا يحبّ أخاه لا يمكن أن يحبَّ اللهَ كما قال يوحنّا في رسالته.
إذًا تأسّس هذا المستشفى لخدمة الإنسان، والخدمةُ لا تعرفُ الحدودَ، لذا كان لا بدّ من مجاراة العلم والتّطوّر لتقديم أفضل خدمة للإنسان. شعارُ المستشفى يعبّرُ بدقّة عن رسالته: «من أجل حياة أفضل». هذه النّعمة الممنوحة لنا من الله، أعني الحياة، علينا أن نحافظ عليها بأفضل الطّرق، وقد جنَّدَ كلُّ فرد من أسرة هذا المستشفى نفسَه من أجل خدمةِ المريضِ ومحبّتِه والعنايةِ به، لتكونَ له حياةٌ أفضل. هذا يتطلّب منهم، أطبّاءَ وممرّضين وعاملين، مجاراةَ كلِّ تقدّمٍ ومواكبةَ كلِّ جديد. ولطالما كان هذا المستشفى، طيلةَ العقود المنصرمة، مركزًا للبحث عن كلِّ جديدٍ واستقطابِ هذا الجديد. فمن الأبحاثِ والمؤتمراتِ وحملاتِ التّوعية والنّدوات، إلى اقتناءِ أحدثِ المعّدات واستقطابِ أفضلِ الأطبّاء والتّعاونِ مع كبريات المراكز الطّبّيّة في العالم، مسيرةُ هذا المستشفى مستمرّة رغم كلّ الصّعوبات، وليست أقلّها الصّعوباتُ الاقتصاديّة الّتي يمرّ فيها لبنان واللّبنانيّون بسبب نرجسيّةِ المسؤولين وشَبَقِهِم إلى السّلطة. فعوضَ تسخيرِ طاقاتِهم وعلمِهم وخبرتِهم لخدمة الوطن، يسخّرون الوطنَ من أجل مصالحِهم وأنانيّاتِهم ويقتسمونه ويتقاسمون المناصبَ حصصًا كالغنائم.
نحن في هذا المستشفى وفي هذه الأبرشيّة على خطى من قال: «أنا هو الطّريقُ والحقُّ والحياة» (يو 14: 6)، الّذي علّمنا المحبّةَ والتّضحيةَ والعطاء، وقال: العبدُ ليس أفضلَ من سيّده. نحن نشاءُ وطنَنا أرضًا للمحبّة والتّآخي والتّضحية والعطاء، كما نشاءُ عاصمَتنا بيروت مدينةً للانفتاحِ والحرّيّةِ والتّسامحِ والحياة، مدينةً للعلمِ والفنِّ والإبداع، لا مدينةً للانقسامِ والتّباغضِ والقباحاتِ والنّفايات، ونقول للجميع احذروا حكمَ التّاريخ ولعنةَ الأجيال. إنّ الحياةَ تليقُ بكبار النّفوس أكثر من منتفخي الصّدور والجيوب، واللهُ سوف يحاسب كلاًّ منّا على ما فَعَلَه، على ما قام به من أعمالٍ صالحةٍ تستلهمُ تعاليمَه وتبذُر كلمتَه في النّفوس. اللهُ يحاسبُ على الأعمال لا على الأقوالِ وحدها لأنّ «الإيمانَ بدون أعمال ميتٌ» كما يقول الرّسول يعقوب (2: 20).
نحن في هذه الأبرشيّة نحاول أن نعملَ بما أوصانا به الرّبّ بصمتٍ. قد تُعجبُ أعمالُنا البعضَ وقد لا تعجبُهم، لكنّنا نعملُ بحسب ما يمليه علينا الواجبُ والضّميرُ، واللهُ هو الدّيّانُ الوحيدُ العادل، وهو وحده يرى بعين المحبّة ويحكم بالعدل.
أقول هذا لأذكّرَ أنّ آخرَ مولودٍ في هذه الأبرشيّة، ورجاؤنا ألاّ يكونَ الأخيرَ بمشيئة الله، هو جامعةُ القدّيس جاورجيوس، الّتي أردناها تلبيةً لرغبةِ أبناءِ هذه الأبرشيّة وحاجتها. وقد كانت ولادتُها عسيرةً، لكنَّ كلَّ ما ينتهي بشكل حسن هو حسنٌ كما يقول المَثَل الفرنسيّ. هذه الجامعة سوف تُكَمِّلُ مؤسّساتِ هذه الأبرشيّة، وبخاصّة هذا المستشفى، وتكون في خدمة الإنسان في هذا البلد، تُنشئه على حبّ الله والوطن، على الإنسانيّةِ والأخلاق، على الفكر الحرّ والإبداع، على احترام الآخر وصون كرامته وحرّيّته، على التّفكير العلميّ النّقديّ عوض الاستتباع الفكريّ أو السّياسيّ أو الطّائفيّ أو الإيديولوجيّ المتطرّف.
لقد اتُّهمنا بالتّمرّد والانشقاق عن أنطاكية عندما أردنا إنشاءَ هذا الصّرح التّعليميّ، واتُّهمنا بمحاربة جامعة البلمند الّتي كان لنا شرفُ الإسهام في تأسيسها مع المثلّث الرّحمة البطريرك إغناطيوس. واتُّهمنا بشتّى الاتّهامات الّتي لا مجال لتعدادها الآن.
لكلّ المغرضين والحاقدين والشّتّامين والّذين لا عمل لهم إلّا اختلاقُ الأكاذيب وبثُّ الإشاعات والتّكهّنُ بما يختلج في نفوس الآخرين، لكلّ هؤلاء أقول إنّ أبرشيّة بيروت تشكّلُ أحدَ أعمدة بطريركيّة أنطاكية، وهي كانت وستبقى حاملةً لواءَ المشرقيّةِ واستقامةِ الرّأي، تعمل مع سائر أبرشيّات الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس على الحفاظ على التّقليد الشّريف والتّسليم الرّسوليّ، وتضع نصب عينيها العمل بتعاليم الرّبّ يسوع الّذي قال «اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم» (متّى 28: 19).
إنّ أبرشيّة بيروت تفتخر بانتمائها إلى بطريركيّة أنطاكية حيث دُعي التّلاميذُ مسيحيّين أولّاً (أع 11: 26)، ولو لم يعجبْ هذا الكلامُ بعضَ الحاقدين. لكنّ انتماءها إلى البطريركيّة الأنطاكيّة لا يتعارضُ وعملَها على رعايةِ أبنائها وتنميةِ مؤسّساتها والقيامِ برسالتها.
أمّا وجود جامعة القدّيس جاورجيوس في بيروت فلا نراه يتعارضُ مع وجودِ جامعةِ البلمند في الشّمال. لا بل نأملُ أن يكونَ في كلّ أبرشيّةٍ من أبرشيّاتِ كرسيّنا جامعةٌ أرثوذكسيّة تخدمُ محيطَها وتعملُ على بناءِ الشّبيبةِ علميًّا وروحيًّا وأخلاقيًّا، مستوحيةً إنجيلَها ورانيةً إلى وجه سيّدها، المعلّم الأوّل.
سوف تكونُ جامعةُ القدّيس جاورجيوس، بإذنِ الله، مفخرةً لبيروت ولأنطاكية، ولوطننا لبنان، وستحملُ مع أبرشيّة بيروت وأبنائها الرّسالةَ الأنطاكيّةَ وتبثّ الرّوحَ الأنطاكيّة إلى ما شاء اللهُ، لا عبيده".