لبنان
21 كانون الأول 2020, 07:30

عوده: نحن في حاجة إلى دولة المواطنة لا دولة الطّوائف

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في بيروت. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة قال فيها:

"نسمّي الأحد الذي يسبق ميلاد ربّنا يسوع المسيح أحد النّسبة، وفيه نذكر سلالة يسوع بحسب النّاسوت (الطّبيعة البشريّة). إنّ نسب المسيح الإلهيّ سرّ عميق، أمّا سلالته في الجسد فهي التي نذكرها اليوم للتّأكيد على إيماننا بالرّبّ يسوع إلهًا حقيقيًّا بطبعه، وإنسانا حقيقيًّا في تدبيره. إنّه الإله الكلمة الكائن قبل الدّهور، والمساوي للآب في الجوهر وفي الأزليّة، وقد صار بشرًا في ملء الزّمان، بدون استحالة، وأحصي مع الأجيال في الجسد. يقول الإنجيليّ يوحنّا: الكلمة صار جسدًا وحلّ فينا، ورأينا مجده مجدًا كما لوحيد من الآب، مملوءًا نعمة وحقًّا.
سمعنا في إنجيل اليوم الكثير من الأسماء التي قد تبدو لنا غريبة أو غير مألوفة. نجد كل هذه الأسماء في إفتتاحيّة إنجيل متّى الرّسول، كتعريف تاريخيّ عن الشّخصيّة المحوريّة التي يدور حولها إنجيله. يكتب متّى الإنجيليّ لقرّاء يهود، وكان لا بدّ من أن يسرد لهم سلالة المسيح بحسب الجسد، منذ إبراهيم أبي الآباء، حتّى يجذب انتباههم إلى أنّه يتحدّث عن شخص ليس غريبًا عنهم، بل هو متحدّر، جسديًّا، من الجذور نفسها التي أتوا منها. طبعًا، يبيّن لنا هذا النص أنّ المسيح، الجامع الكلّ إلى اتّحاد واحد، تحدّر بشريًّا من سلالة تحتوي على الملوك والفقراء، الخطأة والأبرار، تحتوي على أناس اختبروا الحياة مع الله وبعيدًا عنه، عاشوا محبة الله ورحمته وقوّته وعدله ونعمته، كما تحتوي على أشخاص انغمسوا في الخطيئة والزّنى. نفهم من هذا النّصّ الإنجيليّ أنّ المسيح تجسّد من أجل خلاص البشريّة كلّها، بكلّ فئاتها، ولم يأت ليخلص فئة واحدة هي الشّعب اليهوديّ. أراد متّى الإنجيليّ أن يفهم اليهود أنّ فكرتهم عن المسيا المنتظر مختلفة عمّا تحويه رسالة المسيح الحقيقيّة. نجد في إنجيل متّى تشديدًا على أنّ الخلاص هو للجميع، إن من خلال مثل السّامريّ الشّفوق، أو لقاء المسيح بالسّامريّة، وغيرهما من الأمثلة. لذا، نجد في سلالة نسب المسيح ذكرًا لنساء من الأمم، أيّ من غير اليهود مثل راحاب وراعوث. 

السّلالة التي سمعناها تقسم ثلاثة أقسام: من إبراهيم إلى داود، ومن داود إلى جلاء بابل، ومن جلاء بابل إلى المسيح. إبراهيم هو أبو الإيمان. نسمع في رسالة اليوم: بالإيمان نزل إبراهيم في أرض الميعاد نزوله في أرض غريبة. أمّا داود فهو صورة الملك العظيم الذي جمع المملكة المنقسمة فأصبحت واحدة، وجلاء بابل هو ثمرة خطيئة الإنسان وضعفه. يأتي يسوع المسيح في الأخير، وهو مصدر الإيمان، والملك الحقيقيّ، والإنسان التّام الخالي من الخطيئة، يأتي ليخلّصنا من خطايانا ويقدّمنا إلى الله الآب تقدمة منقاة بدمه الكريم المسفوك على الصليب. فعلى الرغم من الخطايا الجسيمة التي اقترفها بعض أعضاء السلالة التي يتحدر منها، يأتي المسيح غالبًا الخطيئة، حاملًا الخلاص للبشرّية، إلّا أّن البشر ما زالوا يبحثون عن الخلاص في أماكن أخرى. يفتّشون على الرّاحة في أماكن عدّة، بدلًا من الّلجوء إلى الرّبّ القائل: تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم. يركضون وراء ملوك وزعماء أرضيّين، مثل الشّعب اليهوديّ الذي لا يزال ينتظر مجيء المسيح كزعيم أرضيّ. لكنّ المسيح لم يتجسّد كي يكون زعيمًا، بل ليخلصنا وليكون لنا مثالًا نتعّلم منه الوصول إلى كمال الخير. اليهود لم يعجبهم المسيح المحبّ الجميع، السّلاميّ، وإنسان اليوم مثلهم، لا يريد السّير بشريعة المحبّة، بل يسعى وراء من يؤمن له مصالحه. عندما نصل إلى بشريّة تسعى بأسرها إلى المحبّة فقط، عندئذ لا نعود نسمع بزعامات وحروب، وحقد وشرّ ودمار.

اليوم نعيّد أيضًا لقدّيس كان تلميذًا للرّسل، هو الشّهيد في رؤساء الكهنة اغناطيوس الأنطاكيّ المتوشّح بالله. يقول التّقليد أنّ القدّيس اغناطيوس هو ذاك الطّفل الذي احتضنه يسوع وباركه وقال: إن لم ترجعوا وتصيروا كالأطفال فلن تدخلوا ملكوت السّموات. القدّيس اغناطيوس هو الخليفة الثّاني للقدّيس بطرس على كرسي أنطاكية. قاد رعيّته بغيرة رسوليّة، وتفان لا يعرف الرّاحة، وكان كلامه فعّالًا في القلوب فاهتدى بسببه الكثيرون، وأصبح قبلة المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها. استشهد في الاضطهاد الذي حصل للمسيحيّين في عهد الملك تراجان في بداية القرن الثّاني، إذ اقتيد اغناطيوس من انطاكية إلى روما، حيث قضى شهيدًا بين أنياب الوحوش، وقد كتب في رسالته إلى أهل رومية: إنّي أموت بمحض اختياريّ من أجل المسيح، إذا لم تمنعوني على الأقل. إنّي أضرع إليكم راجيًا أن تضعوا عطفكم جانبًا لأنّه لا يفيدني. أتركوني فريسة للوحوش. إنّها هي التي توصلني سريعًا إلى الله. أنا قمح الله، أطحن تحت أضراس الوحوش لأخبز خبزًا نقيًّا للمسيح. عرف أنّه، بثباته في إيمانه، وجلادته على الحكم الصّادر بحقّه، وعدم هربه، سيعلّم شعبه أكثر ممّا لو هرب وبقي حيًّا. من يسير مع الله لا يهرب من الشّدائد، بل يعتبرها تثبيتًا له في الإيمان وتشديدًا لمن هم حوله. في رسالته إلى أهل أفسس كتب: الشّجرة تعرف من ثمارها، كما يعرف من يتكلّم عن الإيمان من أعماله. لا يكفي أن نعلن عن إيماننا، بل علينا أن نظهره عمليًّا حتّى النّهاية. الأفضل أن نصمت ونكون، من أن نتكلّم ولا نكون. جميل أن يعلم الإنسان، والأجمل أن يفعل ما يعلمه... لتكن أعمالنا كأنّ الرّوح قاطن فينا، لنصير له هياكل ويصير إلهنا السّاكن فينا. وفي رسالته إلى أهل رومية يقول: لا تجعلوا المسيح على شفاهكم والعالم في قلوبكم. ليكن الحسد بعيدًا من دواخلكم... لم يعد يروقني غذاء الفساد، ولا تغريني ملذّات هذا العالم. إني أريد خبز الله الذي هو جسد المسيح، إني أريد شرابي دمه الذي هو المحبّة غير البالية.

أبناء لبنان عمومًا، وبيروت خصوصًا، مثال للصّمود في وسط الشّدائد والضيقات. هدمت بيوتهم، شرّدوا في طقس عاصف، يغرقون كلّ يوم داخل سياراتهم في طرقات أشبه بالمستنقعات، يتعرّضون كلّ لحظة لخطر الإصابة بوباء مميت، أقفلت مصانعهم ومحالهم التّجاريّة، طردوا من وظائفهم بسبب الضّائقة المادّيّة، حبست أموالهم في المصارف، نهبت البسمة من وجوههم، ومع ذلك نجدهم صامدين، مؤمنين بالله، منشدين مع النّبيّ داود: يا الله أنت ناصريّ، إلهي رحمتك تدركني. نسمعهم يقولون إن الله هو عونهم الوحيد، وقد فقدوا ثقتهم بكلّ زعيم أرضيّ، على حسب قول صاحب المزامير: لا تتّكلوا على الرّؤساء ولا على بني البشر الذين ليس عندهم خلاص. من يحب الله لا يفقد الرّجاء. يقول الرّسول بولس: نفتخر بالشّدائد عالمين أنّ الشّدّة تلد الصّبر، والصّبر يلد الامتحان والامتحان يلد الرّجاء، والرّجاء لا يخيّب صاحبه، لأنّ محبّة الله قد أفيضت في قلوبنا بالرّوح القدس الذي أعطي لنا.

اليوم، في أحد النّسبة، وفي تذكار الشّهيد في رؤساء الكهنة إغناطيوس الأنطاكيّ، نصلّي أن يجعلنا إلهنا المتجسّد ندرك أنّ خلاصنا يأتي من العلى. نصلّي أن يمنحنا الرّبّ صبرًا كي نحتمل المرور في أتون النّار التي أوقدها حكّامنا منذ سنين طوال، ولم يعمل أحد بعد على تخفيف لهيبها. على العكس، يؤججون اللّهيب أحيانًا، كما شهدنا في الأسبوع المنصرم.

الجميع يطالبون بالحقيقة والعدالة، والجميع يتغنّون بضرورة احترام القضاء وصونه بعيدًا من متاهات السياسة. وعندما يحاول القضاء القيام بواجبه، يهبّون دفاعًا عن الدّين والطّائفة والمذهب، وكأنّ الطّائفة هي المقصودة عندما يشار إلى إنسان ينتمي إليها. هل أصبح الدّين ملجأ أم هو علاقة بين الإنسان وخالقه؟ وهل يريد أهل السّلطة كشف الحقيقة أم طمسها؟ غريب أمرنا، ندّعي العلمنة ونطالب بدولة مدنيّة، وعند أوّل امتحان تعود الاصطفافات الطّائفيّة والمذهبيّة، ويتلاقى من كان الجفاء مستوطنًا بينهم. إذا أخطأ موظّف أو مسؤول، هل تكون الطّائفة هي المخطئة؟ كيف تستقيم العدالة إذا كانت كلّ طائفة تمنع محاسبة المنتمي إليها؟ ثمّ هل يخشى البريء وذو الضّمير الحيّ المساءلة؟ الظّلم والتّجنّي مرفوضان كائنًا من كان المستهدف، والعدالة مطلوبة للجميع، كما المحاسبة، من دون استنسابيّة أو انتقائيّة. كما أنّ القانون يجب أن يسري على الجميع، إلى أيّ طائفة انتموا. نحن في حاجة إلى دولة المواطنة لا دولة الطّوائف، إلى دولة يحكمها الدّستور والقوانين، وتعمّ فيها العدالة والمساواة، ويكون فيها القضاء منزّهًا عن كلّ المماحكات، ومحترمًا. فإذا كان المسؤولون يشكّكون بنزاهة القضاء، ولا يعتبرون أنفسهم تحت القانون، ماذا تركوا للخارجين على القانون؟ من أبسط واجبات المسؤول أن يخضع للقضاء بتواضع، أن يكون القدوة في احترام القوانين، عوض اللّجوء إلى حماية طائفته. وهل الدّين والطّائفة لحماية الفاسد أو المقصّر أو المستخف بعقول النّاس وحياتهم؟ أم هل ضرب هيبة القضاء يخلّص البلد؟ أمّا المتّهم البريء فالجميع إلى جانبه، وهو يعرف في قرارة نفسه أنّ الحقّ دائمًا ينتصر، وأنّ الحقيقة، مهما تأخّرت، نور يسطع.

لن يستقيم الوضع في لبنان إلّا عندما تصبح المراكز التي يتولاها اللّبنانيّون تخصّ الوطن بأسره، لا طائفة هذا الموظف أو ذاك المسؤول، وعندما يعمل هؤلاء من أجل خير لبنان واللّبنانيّين، لا من أجل مصلحة الطّائفة أو المذهب. أمّا القامات والرّجالات الكبار فينسحبون بعزّة وكرامة وهدوء عندما يقترفون خطأ، دون تشويش على القضاء أو خروج على القانون".

وإختتم عوده: "بارككم الرّبّ، ومنحكم ثباتًا في الإيمان، مهما اشتدّت العواصف وثقلت الأحمال وكثرت الدّموع. لا تخافوا، فها إنّ خلاصنا يأتي، وهو يدعى عمانوئيل، أيّ الله معنا".