لبنان
17 تشرين الأول 2022, 05:00

عوده: نحن بحاجة أيضًا إلى ترسيم حدود بين السّلطات لتقوم كلّ منها بواجباتها بعيدًا من تدخّل السّلطات الأخرى

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة بيروت للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده قدّاس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، ألقى خلاله عظة قال فيها:

"أحبّائي، تعيّد كنيستنا المقدّسة اليوم لآباء الكنيسة الثّلاثمئة وسبعة وستّين، الّذين اجتمعوا في المجمع المسكونيّ السّابع، في مدينة نيقية، عام 787، ودافعوا عن عقيدة إكرام الأيقونات. الموضوع الأساسيّ الّذي شغل هؤلاء الآباء القدّيسين كان إكرام الأيقونات وإعادتها إلى الحياة الكنسيّة بعدما شنّ محاربو الأيقونات حملةً على الأيقونات، محاولين تحطيمها، ومانعين إكرامها وتعليقها في الكنائس والبيوت، مدّعين أنّ تكريمها هو عبادة أوثان.

سنتكلّم اليوم على هذا المجمع، علّ أبناء كنيستنا يتذكّرون تقليد كنيستهم، ولا ينجرّون إلى ادّعاءات هذا العالم الّذي أصبح قائمًا على الشّعبويّة، وتسطيح استقامة الرّأي، وإنزال الإيمان السّامي إلى دركات البشريّة، والقبول بكلّ شيء حتّى ولو كان خارجًا عن إطار تحديدات الكنيسة المقدّسة، التّي جاهد آباؤها على مدى القرون، باذلين أنفسهم من أجل الحفاظ عليها.

لقد حدّد آباء المجمع السّابع موقفهم من الأيقونات بقولهم: "إنّنا نحافظ على كلّ تقاليد الكنيسة، حتّى يومنا هذا، بلا تغيير أو تبديل. ومن هذه التّقاليد، الصّور الممثّلة للأشخاص، وهو تقليد مفيد من عدّة وجوه، لاسيّما أنّه يظهر أنّ تجسّد الكلمة إلهنا هو حقيقة وليس خيالًا أو تصوّرًا، لأنّ الصّور، عدا ما فيها من إشارات وإيضاحات، تحرّك المشاعر الشّريفة". إذًا، تقليد كنيستنا من ناحية تمثيل القدّيسين قائم على الأيقونة لا سواها، الّتي سمّاها الآباء المستقيمو الرّأي "إنجيلًا مرسومًا"، لأنّها تساعد من لا يستطيع أن يقرأ على فهم تاريخ الله الخلاصيّ بين البشر، على الأرض. لقد كانت حجج الهراطقة مبنيّةً على الكتاب المقدّس إذ قالوا إنّ الله حرّم في وصاياه أيّ رسم له لأنّه لم ير، كما قالوا إنّ إكرام الأيقونات يمكنه أن يجعل النّاس يعبدون المادّة. ردّت الكنيسة عليهم بقولها إنّنا نعبد المسيح ونكرّم القدّيسين، وعلى رأسهم والدة الإله، تاليًا نحن لا نكرّم المادّة بل الشّخص المرسوم فيها، أيّ ما تمثّله. يقول القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ: "لا يمكن رسم الله الّذي لا يدرك، ولا يحدّ، أمّا وقد ظهر بالجسد وعاش بين النّاس، فأنا أرسم الله الّذي تراه العين، وأنا لا أعبد المادّة بل خالق المادّة الّذي استحال مادّةً من أجلي".

الأيقونة، على عكس سواها من الفنون، لديها اتّجاه واحد فقط، وليست ثلاثيّة الأبعاد، وهي تشكّل دعوةً شخصيّةً للنّاظر إليها، لإنشاء علاقة مقدّسة مع الشّخص المصوّر عليها. لذا، فالأيقونات ليست تحفًا فنّيّةً تقتنى لكي يقيّمها خبراء الفنّ أو هواته، بل تشكّل نافذةً ثابتةً مفتوحةً على الملكوت السّماويّ. عندما ننظر إلى الأيقونة على أنّها تحفة فنّيّة، مثلما ننظر إلى سائر الفنون من رسم أو نحت، حينئذ تفقد معناها اللّاهوتيّ، وتصبح سلعةً مادّيّةً فقط. نحن نعرف من الكتاب المقدّس أنّ الإنسان خلق على صورة الله ومثاله. فلمن لا يعلم، الأيقونة لا تصوّر الشّخص المقدّس بشكله الحقيقيّ، كما في الصّور الفوتوغرافيّة، بل هي تعبّر عن المثال الّذي وصل إليه القدّيس. لهذا ثمّة رمزيّة في كلّ خطّ ولون يوضع في الأيقونات. كذلك فإنّ للأمور المقدّسة، كالأيقونات، أماكنها الخاصّة، وإذا اقتلعت من أماكنها، ووضعت في غيرها، تصبح قطعةً فنّيّةً قائمةً بذاتها، لأنّها خرجت من السّياق الّذي وضعت من أجله.

وبما أنّ الإنسان قد خلق على الصّورة والمثال الإلهيّين، فهو أيقونة حيّة للخالق، لذلك تكرّم الكنيسة الألوهة المثلّثة الأقانيم، عبر تبخير المؤمنين، المخلوقين على صورة الله، واللّابسين المسيح، والصّائرين آنيةً للرّوح القدس. وكما يجب ألّا تخرج الأيقونات من بيئتها والسّياق الّذي جعلت من أجله، كذلك على الإنسان أن يبقى ملتصقًا بالرّبّ حتّى لا يشوّه الصّورة والمثال، ولا يهدم هيكل الرّوح القدس، ولا يأخذ أعضاء المسيح ويجعلها أعضاء زانية كما يقول بولس الرّسول (1كو 6: 15). عندما يخرج الإنسان من حضن الله ويتبع أهواءه، يصبح صنمًا، لا يبتغي إلّا الحصول على أتباع يعبدون أناه. من هنا، نسمع في إنجيل اليوم قول الرّبّ: "أنتم نور العالم... فليضئ نوركم قدّام النّاس ليروا أعمالكم الصّالحة ويمجّدوا أباكم الّذي في السّماوات". يطلب الرّبّ منّا أن نكون أيقونات له، نهدي النّاس إليه، من خلال الصّورة الّتي منحنا إيّاها، والّتي علينا أن نحافظ عليها، ومن خلال سعينا نحو المثال الّذي خسرناه في السّقوط، لكنّنا منحنا طرقًا عدّةً لاستعادته.

يا أحبّة، نحن نفتقر إلى من ينظر إلى الإنسان نظرة إكرام للألوهة الّتي خلق على صورتها ومثالها. إنسان اليوم لا يرى إلّا كسلعة، أو كمطيّة للوصول إلى المصالح والمطامع. هذا ما حدث في بلدنا منذ عقود، ولا يزال. يتاجرون بالمواطن، من أجل تحقيق الأهداف الخفيّة، وتحقيق الأرباح غير النّقيّة. فإلى متى يبقى إنسان هذا البلد مذلولاً ومهانًا؟ الكلّ يتحرّك لتشكيل حكومة لا تمثّل تطلّعات المواطن، بل تحقّق حصص المشكّلين. الجميع يسعون إلى تحديد مواصفات رئيس للجمهوريّة، كلّ حسب تطلّعاته وحساباته المستقبليّة، متجاهلين أنّ البلد ومن فيه يقبعون في هاوية لا قعر لها. اليوم لبنان تحت تهديد أمراض وأوبئة جديدة، فهل ستكون مناسبةً للاستغلال وجني الأرباح، مثلها مثل الغاز الموعود، وقد بدأ اللّبنانيّون منذ اليوم يخشون تبخّر عائداته كما تبخّرت أموالهم؟

لقد احتفل المسؤولون بإنجاز اتّفاق ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة، بمساعدة وسيط، فهل يحتاجون إلى وسيط ما، لحلّ خلافاتهم، وإيصالهم إلى تشكيل حكومة، وانتخاب رئيس، والبدء بالمسيرة الإصلاحيّة، قبل أن يجهز عقم أعمالهم ليس على البلد بل على ما تبقّى منه من أطلال؟ وماذا يقدّم ترسيم الحدود، على ضرورته وأهمّيّته، لبشر جياع إلى الطّعام والدّواء والماء والكهرباء والنّظام والعدالة والاستقرار، إن لم تبدأ عمليّة إنقاذ سريعة؟

نحن بحاجة إلى ترسيم كافّة حدود بلدنا، لتكون واضحةً ومحترمةً وغير مستباحة، لكنّنا بحاجة أيضًا إلى ترسيم حدود بين السّلطات، لتقوم كلّ منها بواجباتها، بعيدًا من تدخّل السّلطات الأخرى، لكي تستقيم الأمور في إدارات الدّولة، وتستعيد الحياة الدّيموقراطيّة رونقها.  

دعوتنا اليوم أن نرى الله في كلّ إنسان حولنا، وأن نحبّه حبّنا لمن خلقه، إذ كيف نكرّم الرّسم المقدّس ولا نظهر إكرامنا للصّورة الإلهيّة المغروسة في إخوتنا البشر؟ وأن نقرن دائمًا القول بالفعل، ونكون أنوارًا تشعّ محبّةً وتضحيةً وعطاءً وصفاء، فيمجّد بسببنا أبونا الّذي في السّماوات، آمين".