لبنان
12 كانون الأول 2022, 06:55

عوده: نأمل من النّوّاب وعي مسؤوليّتهم وتطبيق الدّستور والقيام بواجبهم الوطنيّ والاقتراع في الجلسة القادمة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ، أمس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، تخلّلها جنازٌ لراحة نفس البطريرك إغناطيوس الرّابع هزيم في الذّكرى العاشرة لرحيله.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، سمعنا في إنجيل اليوم مثلًا ضربه الرّبّ عن إنسان أعدّ عشاءً عظيمًا ودعا إليه مدعوّين كثيرين نفهم من السّياق أنّهم من الأغنياء أو الميسورين، لأنّهم، عندما اعتذروا عن الحضور، قدّموا أسبابًا مادّيّةً كشراء حقل أو فدادين بقر أو زواج. هؤلاء كانوا يعتبرون من "أهل البيت"، لكنّهم رفضوا نعمة التّمتّع بفرح مشاركة المائدة مع ربّ البيت مفضّلين فقر الأرضيّات على غنى السّماويّات شأن بعض المسيحيّين الّذين يدعوهم الرّبّ إلى عشائه الإفخارستيّ، أيّ إلى مائدة القدّاس الإلهيّ، إلّا أنّهم يستعفون لأجل أمور مادّيّة أرضيّة زائلة، ويفضّلون الذّهاب برحلة، أو الاستجمام، أو النّوم إلى وقت متأخّر، متذرّعين بأنّ يوم الأحد هو للرّاحة بعد أسبوع حافل بالعمل والتّعب، متناسين قول الرّبّ: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال وأنا أريحكم" (مت 11: 28). ربّما يشعر البعض بيأس روحيّ، ويظنّون أنّهم غير أهل للإشتراك بمائدة القدّاس الإلهيّ، فيلزمون منازلهم، ويصابون بالفتور الرّوحيّ شيئًا فشيئًا، وما هذا إلّا من عمل الشّرّير، لأنّ الرّبّ سبق فوضع لنا سرّ العودة إليه، سرّ التّوبة والاعتراف. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ في عظة الفصح: "أدخلوا كلّكم إلى فرح ربّكم. أيّها الأوّلون ويا أيّها الآخرون خذوا أجرتكم. أيّها الأغنياء ويا أيّها الفقراء افرحوا معًا. سلكتم بإمساك أو توانيتم أكرموا هذا النّهار. صمتم أو لم تصوموا افرحوا اليوم. المائدة مملوءة فتنعّموا كلّكم! العجل سمين فلا ينصرف أحد جائعًا. تناولوا كلّكم مشروب الإيمان، تنعّموا كلّكم بغنى الصّلاح. لا يتحسّر أحد شاكيًا الفقر، لأنّ الملكوت العامّ قد ظهر، ولا يندب معدّدًا آثامًا، لأنّ الصّفح قد بزغ من القبر مشرقًا". هنا نفهم القسم الثّاني من إنجيل اليوم. فبعدما استعفى من ظنّوا أنفسهم مدعوّين دائمين بإمكانهم المجيء ساعة يشاؤون، فاجأهم ربّ البيت بعدم دعوتهم مجدّدًا، والاستعاضة عنهم بمن ينظر إليهم مجتمعهم على أنّهم ناقصين، أيّ المساكين والجدع والعميان والعرج. هنا نتذكّر قول الرّبّ: "إنّ العشّارين والزّواني يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت 21: 31). هؤلاء هم الخطأة التّائبون الّذين يدعوهم الرّبّ دائمًا إلى مائدته، ويذكّرهم بأنّ باب بيته مفتوح دومًا لاستقبالهم، وبأنّ مائدته لا تفرغ وتنتظر مشاركتهم. الشّيطان يعمل على إغراق الخاطئ في يأس مدقع، فيما يدعوه الرّبّ إلى التّوبة عن خطاياه، وسلوك طريق البرّ والمحبّة، والاشتراك في قدساته، مسهّلًا عودته إلى حضنه الأبويّ، تمامًا كما فعل والد الابن الشّاطر.

إنّ فترة التّهيئة لميلاد الرّبّ يسوع مليئة بأعياد الأنبياء الّذين أخبروا عن هذا الحدث الإلهيّ، وهيّأوا الأرضيّة لاستقبال المخلّص الآتي ليرعى شعبه ويخلّصه. في العهد القديم، أرسل الله أنبياءه الأمناء لكي يدعوا الملوك ورؤساء الشّعب إلى سلوك حياة الفضيلة والعدل، وإلى نجدة المستضعفين. مثلًا، نقرأ لدى النّبيّ زكريّا: "ولا تظلموا الأرملة ولا اليتيم ولا الغريب ولا الفقير، ولا يفكّر أحد منكم شرًّا على أخيه في قلبكم" (7: 10). كما نسمع في سفر المزامير: "أقضوا للذّليل ولليتيم، أنصفوا المسكين والبائس" (82: 3). إلّا أنّ هؤلاء المسؤولين عن الشّعب لم يهتمّوا لدعوة الله عبر الأنبياء، بل تابعوا غيّهم وبطشهم وسعيهم نحو المادّة الزّائلة. أعرض الله عن دعوته لأولئك، ثمّ وجّه أنبياءه نحو أعضاء الشّعب المسكين المهمل، الّذين لبّوا دعوته وجلسوا إلى مائدته في الملكوت السّماويّ، في أحضان إبراهيم، كما نقرأ في مثل الغنيّ ولعازر.

في هذه الأيّام يظنّ بعض المسيحيّين أنّ مجرّد كونهم مسيحيّين يضمن لهم مائدة الملكوت. التّسمية لا تفيد بشيء إذا كان صاحبها لا يشعر بانتمائه إلى الجماعة، ولا يعيش حياةً صالحةً في ظلّ نعمة الله وحفظ وصاياه وتطبيقها. لهذا، فإنّ الدّعوة إلى مائدة الرّبّ قائمة لجميع الرّاغبين بالانضمام إليها، لكنّ اللّباس الرّسميّ لحضور هذا العشاء الإلهيّ هو لباس الفضيلة، لباس المعموديّة الّتي وشّحنا به الرّبّ يوم تغطيسنا، والّذي يجب أن نحافظ عليه أبيض، نقيًّا، بهيًّا، ومشرقًا بلمعان الفضيلة، على حسب ما نذكر في صلواتنا.

أحبّائي، منذ بضعة أيّام حلّت الذّكرى العاشرة لرقاد أبينا المثلّث الرّحمة البطريرك إغناطيوس الرّابع. لقد أحبّ هذا الرّجل الأنطاكيّ الكبير لبنان كثيرًا، وكان يخاف عليه ويصلّي من أجله، ويحذّر مسؤوليه حاثًّا إيّاهم على نبذ كلّ المكاسب من أجل مصلحة الوطن. كان يقول: "أنا أرى أنّ الأوضاع الأمنيّة انقلبت من شيء يمسّ جوهر الأمور، جوهر الكيان اللّبنانيّ، إلى نوع من الألعوبة السّياسيّة الّتي وراءها مكاسب. آمل ألّا يكون لبنان ثمنًا لهذه المكاسب الّتي هي تحديدًا أقلّ منه قيمةً وقدرًا" (12-12-1984). إذا تأمّلنا في التّاريخ اللّبنانيّ نجد أنّه يعيد نفسه، من فراغ إلى فراغ، ومن حرب دمويّة إلى حروب مقنّعة باردة. لقد قال المثلّث الرّحمة البطريرك إغناطيوس: "نحن مع الشّرعيّة، لأنّنا لا نعتقد أنّه يجوز أن يكون هناك فراغ على هذا المستوى... نظرتنا إلى لبنان هي نظرة وحدة أراضيه، ووحدة شعبه، ووحدة مؤسّساته الدّستوريّة...  ليس  المطلوب أن يصبح اللّبنانيّ مجرّد آلة تستعمل من أجل سواها" (24-1-1984). للأسف، وقع لبنان في ما كان يحذّر منه كثيرون، ومنهم أبينا البطريرك الرّاحل الّذي قال: "نريد وطنًا يرسخ حتّى لا نصل في المستقبل إلى مرحلة قرع الباب للحصول على حقوقنا. نأمل من المعنيّين في المستقبل أن يراعوا هذه المسألة بالنّسبة للجميع... لبنان ضرورة وجوديّة وهو باق وسيبقى" (23-12-1985).

مع انقضاء الجلسة التّاسعة لمجلس النّوّاب دون انتخاب رئيس، ومع استمرار التّدهور العامّ، وازدياد الكلفة على البلد وأبنائه، نأمل من النّوّاب وعي مسؤوليّتهم، وتطبيق الدّستور، والقيام بواجبهم الوطنيّ والاقتراع في الجلسة القادمة لمن يرونه مناسبًا، والوصول إلى انتخاب رئيس مع ما يستتبع من خطوات دستوريّة تضع البلاد على طريق الإصلاح والتّعافي.

نحن نسأل الله الآتي ليولد في المذود أن يرحم نفس عبده، أبينا المثلّث الرّحمة البطريرك إغناطيوس، ونأمل ألّا يذهب تعب كلّ من صرخ أو تألّم أو مات من أجل هذا الوطن الحبيب كالهباء الّذي تذرّيه الرّيح.

دعوتنا اليوم أن نشترك في مائدة الرّبّ، وألّا نستعفي متعلّلين بعلل الخطايا. إنّ إجماع المدعوّين المذكورين في المثل على الاستعفاء دليل على جهل الإنسان الّذي يظنّ أنّ الأرضيّات الزّائلات مصدر غنىً وراحة، وعلى تملّك الخطيئة فيه الّذي يعميه عن رؤية الخير والصّلاح، فيستغني بالممتلكات والسّلطة والأهواء، ويهمل خلاصه. إذا أدركنا أنّ كلّ شيء زائل، ما عدا الله، عندئذ سوف نسعى جاهدين لأن نطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ، ونستعدّ لاستقبال ملك الكلّ، الآتي متجسّدًا من أجل خلاصنا، آمين."