لبنان
10 تشرين الأول 2022, 05:55

عوده: نأمل أن يكون تصرّف النّوّاب في جلسة انتخاب الرّئيس القادمة أكثر نضجًا وجدّيّة

تيلي لوميار/ نورسات
مرّة جديدة رفع متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده، خلال قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، الصّوت من أجل لبنان وشعبه، مطلقًا سلسلة نداءات وطنيّة واضعًا الإصبع على الجرح في عظة جاء فيها:

"أحبّائي، لقد واجه المسيح، عند باب مدينة نايين، أحد أصعب مشاهد حياة الإنسان، حيث قابل امرأةً أرملةً ترافق ابنها الوحيد الميت إلى القبر. طبعًا، في لحظات كهذه، ليس سهلًا أن يتكلّم الإنسان مع المحزونين على الخطيئة الّتي هي علّة الموت. فالمتألّمون لا يحتملون الحقيقة كلّها، وحزنهم يشبه جرحًا يمتدّ في الجسد كلّه، وعند لمسه يحدث ألمًا كبيرًا.

المسيح تحنّن على المرأة وقال لها: "لا تبكي"، وكان يعدّها للحدث الّذي سيلغي حزنها. لم يكن كلامه فارغًا، ولا تعزيةً وهميّةً، كما يفعل أبناء هذا الدّهر عندما يقدّمون التّعازي بأحد الرّاقدين. فالبكاء طبيعيّ عند الحزانى، وهو ردّ فعل يشفي النّفس، والرّبّ يسوع نفسه بكى على صديقه لعازر أمام قبره، دلالةً على كمال طبيعته البشريّة، وعلى أنّ البكاء ليس من المحرّمات. أراد المسيح أن يوقف حزن المرأة حالًا، لذلك حيّاها بعبارة: "لا تبكي" الّتي نقلت معها التّعزية، كونها انبثقت من شفاه الّذي هو القيامة والحياة.

إنّ قراءة إنجيل اليوم تعطينا الفرصة لنوضح بعض الأمور المتعلّقة بموقفنا أمام المحزونين. فمقاربة النّاس الحزانى هي إحدى أهمّ أوجه عمل الكنيسة الرّعائيّ. قيامة المسيح هي أساس كنيستنا، وفعلها هو إبطال الموت الرّوحيّ، أمّا عقيدتها فهي الإيمان بقيامة الأجساد المائتة. إذًا، لا تحاول الكنيسة أن تجعل النّاس ينسون الموت، بل تساعدهم على تخطّيه. لا تهدف إلى جعلهم متّزنين نفسيًّا فقط، بدفعهم إلى قبول هذا الواقع وهذه الحقيقة الصّعبة كأمر طبيعيّ، بل تعلّمهم طريقة إبطال الموت. نقرأ في الإنجيل إنّ الموت هو عدوّ، لا بل إنّه آخر عدوّ سيبطل، ونحن نأتي إلى الكنيسة لكي ننعتق منه انعتاقًا يبدأ منذ الآن، إلّا أنّه سيكتمل بالقيامة العامّة لأجساد الأموات كلّها في المجيء الثّاني للمسيح.

تحنّن المسيح واقترب من الأرملة. هكذا نقترب نحن من المحزونين لنشاركهم أحزانهم، ولكي نبكي مع الباكين. الموت سرّ: كيف تنفصل النّفس عن الجسد قسرًا، كيف ينفكّ التّناسق والتّوافق! بالغريزة يدوم الرّابط الطّبيعيّ وبالمشيئة الإلهيّة ينفكّ، كما يقول الآباء القدّيسون. تجاه هذا الحدث الّذي لا مفرّ منه لدى جميع البشر، يتزعزع كيان الإنسان ويضطرب. هذا أمر طبيعيّ، وخاصّيّة الطّبيعة الّتي تقاوم انحلالها.

يتألّف الحزن من إحساس مضاعف: الإنفصال عن الشّخص المحبوب، والإحساس بالجحيم مبتلعًا الجميع، أيّ اليقين بأنّ هناك موتًا، وأنّ الحياة البيولوجيّة تنتهي. عندئذ يبدو كلّ شيء تافهًا لا معنى له، وينقلب مشهد الحياة كلّها، على حسب ما يقول القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ: "الكلّ ظلّ ومنام". في هذه الحالة لا تلقى المواعظ في الشّجاعة والصّبر ترحيبًا دائمًا، بل تولّد أحيانًا اعتراضًا قد يصل إلى الكفر بالله. إذا لم يكن المحزون ناضجًا نفسيًّا وروحيًّا، لا يستطيع أن يفهم مشيئة إله المحبّة في الموت. لا يقدر مثلًا أن يقبل بأنّ الله استدعى هذا الإنسان لأنّه وجده في أفضل ساعة له، أو لأنّه لم يرد أن تفسده إحدى الشّرور المستقبليّة، أو ليمنع شرًّا ما قد بدأ يتطوّر، أو أخيرًا لكي يصبح شاهدًا في محيطه، أيّ ليعلّم بموته الأمور الّتي لم يستطع أن يعلّمها بحضوره. ثمّ إنّ المحزون قد لا يستطيع دائمًا أن يميّز بين ما هو بسماح من المشيئة الإلهيّة، وبين ما هو ناتج عن مسؤوليّة الإنسان نفسه والّتي تخرج عن مشيئة الله. في هذه الحالة لا يمكن جعل حضور الله ملموسًا عند الحزانى إلّا من خلال الإيمان الّذي لا يأتي عن طريق الخطابات، بل عن طريق المحبّة والمشاركة في الحزن. المحبّة الّتي يلدها الإيمان الحقيقيّ هي أقوى من الموت، وكلمتها تأتي بالتّعزية والرّجاء، لا تحدث جرحًا، ولا تنكأ الجراح، بل تبلسمها.

إنّ الكنيسة ترسل دائمًا كلمة صلاة إلى البيت الّذي عنده شخص راقد. هذه الكلمة يحتاجها ذوو الرّاقد كما الرّاقد نفسه. من هنا عادة قراءة سفر المزامير لكي يتّجه الذّهن نحو الله. هذا ما تفعله الكنيسة، الّتي تعرف حاجات نفس الإنسان الحقيقيّة عندما يكون في الجسد، كما عندما ينفصل عنه. غير أنّ العالم يرى عكس ذلك. ينشغل بشتّى الأمور التّافهة للحياة اليوميّة، إلى أن يحلّ يوم الدّفن أو إلى أن تنتهي التّعازي التّقليديّة، ناكرًا كلّ مساعدة للرّاقد. لقد قال الرّبّ للأرملة: "لا تبكي"، ثمّ أقام ابنها الميت. فلكي يجلب حضورنا تعزيةً للمحزونين ينبغي أن نقبل تعزية الله إلى حدّ ما. ينبغي أن نختبر، ولو قليلًا، الحزن الرّوحيّ الّذي يقبل التّعزية الإلهيّة. القدّيس غريغوريوس بالاماس يجد في إقامة ابن الأرملة نموذجًا لتجديد أذهاننا. نفسنا أرملة للختن السّماويّ بسبب الخطيئة، وعندما تندب ابنها الوحيد، أيّ الذّهن، الّذي يموت عن الأهواء محمولًا خارج مدينة الأحياء، تقبل زيارة المعزّي الّتي تمنح التّعزية الأبديّة.

يا أحبّة، عندما نقرأ إنجيل اليوم، لا يسعنا إلّا أن نفكّر بالأمّهات الثّكالى اللّواتي فقدن فلذات أكبادهنّ في تفجير العاصمة، الّذي لم تفكّ أحجيته بعد وما زال التّحقيق فيه معطّلاً. أيضًا، نفكّر باللّواتي لا يزلن يفقدن أولادهنّ بسبب الجوع والفقر أو انقطاع أدوية الأمراض المزمنة، وبسبب الهجرة الشّرعيّة وغير الشّرعيّة، الّتي لا تفرّق الأمّهات بين مرارتها ومرارة فراق الموت. فإلى متى هذا الاستهتار بمشاعر البشر؟ متى سينعم بلدنا بسلام تامّ واستقرار دائم، بعيدًا عن المصالح الذّاتيّة الّتي لا تؤدّي سوى إلى الموت المحتّم؟  

للأسف دولتنا تتفرّج على معاناة المواطنين وآلامهم عوض أن تبادر وتقوم بخطوات عملية من أجل إنقاذهم، وإبعاد المعاناة عنهم، كي لا يتحوّلوا إلى مجرمين أو خارجين على القانون، يحصّلون حقوقهم بأيديهم، بالتّرهيب والقوّة والعنف.

هنا لا بدّ من التّشديد على دور المسؤولين والمصارف معًا في جلاء حقيقة وضع أموال الدّولة والمودعين. فمن حقّ المواطن الّذي يعاني الفقر والحاجة أن يعرف مصير وديعته في المصرف، ومن واجب الدّولة والمصارف معًا حماية أموال اللّبنانيّين وإعادتها الى أصحابها. لقد ائتمن اللّبنانيّون المصارف على أموالهم، والأمانة حقّ يسترجع متى شاء صاحبه. فهل يتصرّف المؤتمن بالأمانة أم يحافظ عليها كأثمن ما لديه؟ وهل يجوز للدّولة أن تستبيح أموال مواطنيها؟

بعض المسؤولين قد يفتقرون إلى الأمانة وإلى الجدّيّة والرّصانة في رؤيتهم إلى الأمور ومعالجتها، ما يدفع المواطن إلى التّصرّف بغريزته عوض احترام النّظام والقانون. لذا نأمل أن تنخرط دولتنا، مع كلّ المعنيّين فيها، في عمليّة إصلاحيّة إنقاذيّة سريعة تدخل الطّمأنينة إلى قلوب المواطنين، وتتعامل معهم بشفافيّة ونزاهة.

كما نأمل أن يكون تصرّف النّوّاب في جلسة انتخاب الرّئيس القادمة أكثر نضجًا وجدّيّة، وأن يتحمّلوا مسؤوليّتهم في انتخاب رئيس للبلاد ضمن المهلة الدّستوريّة، عوض اللّجوء إلى الورقة البيضاء أو ما شابه، وكأنّ لا أحد يستحقّ أو هو مؤهّل لتولّي المسؤوليّة وقيادة معركة الإصلاح والإنقاذ، أو كأنّ الوضع يسمح بإضاعة الوقت.  

دعوتنا اليوم أن "نطهّر أنفسنا من كلّ أدناس الجسد والرّوح، ونكمّل القداسة بمخافة الله" كما سمعنا في رسالة اليوم، وأن نقبل تعزية الرّوح القدس المعزّي، حتّى نستطيع بدورنا أن نقدّم التّعزية للآخرين. علينا أن نسكت الأنا، ونتألّم مع المحزونين، ونصلّي من أجلهم، آمين".