عوده: من اختار الإلحاد أو الكفر طريقًا فهو حرٌّ باختياره، إنّما لا حُريّة له عندما يمُسُّ جوهر إيماننا
"في الرّسالة التي تُليت على مسامعنا اليوم، من الرّسول بولس إلى أهل رومية (12: 6-14)، حديثٌ عن المواهب المختلفة باختلاف النّعمة المُعطاة لنا. يعني الرّسول بكلامه أنّ كلّ موهبة، أو كلّ وزنة نملكها، هي آتية من فوق، من لدن الله، وهي نعمة معطاة لنا بواسطة الرّوح القدس. لقد عيّدنا عيد العنصرة منذ زمن ليس ببعيد، ورتّلنا قائلين إنّ الرّوح القدس "مُوزّع للمواهب". طبعًا، يمنحنا الرّبّ المواهب حسب استطاعتنا، هو العارف بكلّ واحد منّا وبقدرته على الاحتمال: "لأنّ كلّ من له يُعطى فيزداد، ومن ليس له فالذي عنده يُؤخذ منه" (مت 25: 29)، لأنّ الذين ينالون النّعمة الإلهيّة يرثون بركات لا تُعدُّ، إضافةً إلى الحياة الأبديّة ورضى الله، أمّا الذين يستهينون بغنى لطف الله وإمهاله وطول أناته، ويتعلّقون بمتاع هذه الدُّنيا الزّهيد الزّائل، فسيخسرون كلّ ما يملكون.
يحثُّنا الرّسول على أن تكون محبّتُنا بلا رياء. كيف ذلك؟ المحبّة لا تعني أن أُدلّل المحبوب طوال الوقت، بل تعني أن أبغي خلاصه، أن أقوم بتأنيبه وتوعيته إذا وجدتُه مخطئًا في الكلام أو التّصرّف، حتّى يصطلح ويعود إلى استقامة الرّأي. لذلك، يُردف الرّسول بولس قائلًا: "كونوا ماقتين للشّر ومُلتصقين بالخير".
المسيحيّ، يا إخوة، مدعوٌّ إلى مقت الشّرّ، لا إلى كره الإنسان الذي يقوم بهذا الشّرّ، لأنّه ربما يقوم بهذا العمل أو ذاك عن جهل، لذلك تقع على المؤمن الذي يعيش حياةً روحيّةً مع المسيح أن يُساعد إخوته البشر على الوصول إلى ملكوت السّماوات. من هنا قول الرّسول بولس إلى أهل غلاطية: "يا إخوتي، إن وقع أحدكم في خطأ، فأقيموه أنتم الرّوحيّين بروح الوداعة" (6: 1).
وتختم رسالة اليوم بدعوة، هي زبدة المسيحيّة، ونابعة من المحبّة العظيمة التي علّمنا إيّاها ربُّنا. يقول الرّسول بولس: "باركوا الذين يضطّهدونكم، باركوا ولا تلعنوا". ولأنّ المسيحيّة تدعو دائمًا وأبدًا إلى المحبّة والتّسامح، يُساء فهمها ونجدُها معرّضة على الدّوام لهجمات الشّرير. يقول القدّيس نكتاريوس العجائبيّ أسقف المدن الخمس، واصفًا حال المسيحيّة في عالم اليوم: "أيّتُها الأرثوذكسيّة (ويعني استقامة الرّأي والإيمان المُستقيم بالله)، تعصف بك آلاف الرّياح، وتحاربُك آلاف القوّات المُظلمة وتثور، تُريد اقتلاعك من العالم، وتُكافح لانتزاعك من قلوب النّاس. أرادوا أن يجعلوا منك أملًا مفقودًا، متحفًا وماضيًا مأسويًّا وتاريخًا مرّ عليه الزّمن وانتهى. إلّا أنّ الله القدير، الثّالوث القدّوس المُحسن الكليّ الوداعة والحكمة، هو الذي يسيطر على هذه الفوضى، ويرميك في زاوية أبعد ما يمكن عن التّوقُّع، ويُغطّيك كوردة تحت صخرة. إنّه يُحافظ عليك في نفوس أبسط النّاس، الذين ليست لهم أيّة سلطة أو معرفة دُنيويّة. وها أنت باقية حتّى اليوم. ها أنت لا تزالين حيّةً موجودةً تُغذّين الأجيال النّاشئة، وتفلحين كلّ بقعة جيّدة من الأرض، وتُوزّعين قوّةً وحياةً وسماءً ونورًا، وتفتحين للنّاس أبواب الأبديّة.
والمؤسف أنّنا نتفاجأ كلّ فترة، في بلدنا الذي يدّعي أنّه بلد الحريّة والتّسامح والتّعايش بقول أو بفعل يضعه كثيرون في مجال حرّيّة الرّأي والتّعبير، لكنّه في الحقيقة لا يُمثّل سوى التّعدّي على الحرّيّة أو الكرامة أو المُعتقد. لقد أصبح سهلًا في عصر التّواصل الاجتماعيّ الرّائج في أيّامنا أن يشتم الإنسان أخاه أو يلفق التّهم والأضاليل، ويروّج الشّائعات، أو أن يسخر بعضهم من معتقدات البعض أو من أنبيائهم وقدّيسيهم، ويعتبرون فعلهم من ضمن الحرّيّة التي هي حقّ لهم. لكنّهم يتجاهلون عن قصد أو عن غير قصد أنّ حدود حرّيّتهم تقفُ عند حدود حريّة الآخرين وكرامتهم وإيمانهم. في السّنوات الأخيرة، لمع نجم المهرجانات الصّيفيّة، التي يدفع اللّبنانيّ كثيرًا، أو قليلًا، ثمن البطاقة لحضورها، وهو لا ينفكُّ يتذمّر في كلّ لحظة من عدم توافر سعر ربطة الخبز في جيبه. لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام أنّنا ضدّ الفنّ أو الثّقافة أو السّياحة. نحنُ ضدّ الفنّ الهابط، الذي يتخفّى خلف قناع حريّة التّعبير لكي يبثّ في عقول شبابنا سمًّا، مثلما فعلت الأفعى مع آدم وحواء قديمًا عندما شجّعتهما على عصيان الرّبّ.
الشّيطان، يا أحبّة، منذ سقط بسبب كبريائه، لا يغمض له جفن، مفتكرًا بطرق يجتذب بها إليه كلّ أبناء الله المخلوقين على صورته ومثاله. مع ظهور الفنون الجميلة، كالموسيقى والرّسم والأدب والمسرح وغيرها، إنجذب النّاس إلى هذا النّوع من الجمال، لكنّ الشّيطان أدخل لمسته بواسطة كبرياء بعض الفنّانين الذين استخدمهم كمصيدة. لقد حدث هذا الأمر في زمن آباء الكنيسة القدّيسين، على مثال باسيليوس الكبير ويوحنّا الذّهبيّ الفم وأفرام السّريانيّ، الذين حذّروا المؤمنين من ارتياد المسارح لأنّ الهراطقة تسلّطوا عليها وأخذوا يبُثّون أفكارهم من خلالها. إنّ الجمال هبة من الله، والتّعبير الجميل نعمةً من نعمه، والإنسان المُثقّف يُقدّر الفنّ والجمال، لكنّ النّفس الصّافية الجميلة تتقيّأ عند سماعها أو رؤيتها الشّرّ والتّطاول والقباحة التي تتجلّى في بعض ما يُسمّى فنًّا في أيّامنا. فنحن نرى بعض الشّباب ينجرفون، من دون تفكير، وراء أمور لا يُمكننا وضعها إلّا في خانة الشّرّ المُتربّص بالإنسان. ونرى الدّفاع المُستميت هنا وهناك عن حرّيّة الفكر والتّعبير والتّصرُّف، ولو تخطّت الحدود لتمسّ كرامة الآخر أو حرّيّة تفكيره ومعتقده. آخر هذه "الصّرعات" الاستهتار بالمُقدّسات والاستهزاء بها كمثل الصّورة التي سرت بين النّاس، وقد استبدلت فيها والدة الإله الحاملة الطّفل يسوع كما في الأيقونة البيزنطيّة، بصورة مُغنّية، أو كمثل أنواع من الأغاني المُشجّعة على أشكال من الانحراف، يُؤدّيها شباب اختاروا ميلًا مُعيّنًا في حياتهم.
وبدءًا، إذا كنّا نُنادي بحرّيّة الرّأي والتّعبير، لماذا نمنعها عن الآخرين وننعتهم بالتّديُّن والتّزمُّت؟ لماذا يحقُّ لشخص لا يمتُّ إلى المسيح بصلة، أن يهين المُقدّسات، ولا يحقُّ لمُكرّمي هذه المُقدّسات أن يفتحوا فمهم، وإلّا يصبحون من قامعي الحرّيّات؟ هل هذه هي الحرّيّة الحقيقيّة؟ هل يجرؤ أحد، من أي دين كان، على ذكر إسم إمرأة موقرة ومُكرّمة أو إسم أي رجل يتّقي الله ويُحبّه من أجل رضاه، في أيّ تمثيليّة أو أغنية من النّوع الذي عاينّاه؟ من منكم يسكُت عن إهانة أمُّه أو أبيه؟ من منكم يقبل أن يسخر أحدهم من إبنته أو أخته؟ إنّ العذراء مريم بالنّسبة لنا هي والدة الإله ووالدتنا لأنّنا أبناء الله بالتّبنّي.
العذراء مريم هي أمُّي ويسوع المسيح هو ربّي، ونحن لا نسمح بإهانة أُمّنا ولا نسكت عن أيّ مسّ بها أو بيسوع المسيح ربّنا وإلهنا.
أمّا من اختار الإلحاد أو الكفر طريقًا فهو حرٌّ باختياره، إنّما لا حُريّة له عندما يمُسُّ جوهر إيماننا.
يقولُ ربُّنا في الإنجيل، بحسب يوحنا: "هذه هي الدّينونة: إنّ النّور قد جاء إلى العالم، وأحبّ النّاس الظُّلمة أكثر من النّور، لأنّ أعمالهم كانت شرّيرة" (3: 19)، ويقول الرّسول بولس: "دعيتم للحُرّيّة أيُّها الإخوة، غير أنّه لا تصيروا الحرّيّة فرصةً للجسد، بل بالمحبّة اخدموا بعضكم بعضًا" (غل 5: 13). إذًا، الحرّيّة قوامُها النّور والمحبّة والخدمة، لا الظّلمة والشّرّ والحقد على الخالق والمخلوق.
نحن المسيحيّين نؤمن بأنّ الله قد خلقنا أحرارًا وأعطانا نعمة التّمييز بين الخير والشّرّ، كذلك نصّ دستور بلادنا على "احترام الحرّيّات العامّة، وفي طليعتها حريّة الرّأي والمُعتقد"، فعوض أن يستخدم اللّبنانيّ حُريّته ليُطالب، بالطُّرق السّلميّة والحضاريّة، بحقوقه البديهيّة وبتحسين معيشته، يستعمل بعض مواطنينا هذه الحرّيّة في وجه الله والكنيسة (جسده)؟ هل نُقاتل الله لأنّه مُحبّ للبشر ورؤوف ورحوم وحنون؟ هل نقاتله لأنّه خلقنا ليشاركنا المحبّة العظيمة؟ أنظروا حولنا ماذا اقترفت أيدينا بحقّ خليقة الله التي نظرها فرآها "حسنةً جدًّا". أنظروا إلى أولادكم. أنظروا إلى شبيبة اليوم وقد باع بعضهم أنفسهم للشيطان واستسلم آخرون للمُخدّرات وابتعد غيرهم عن الله وسواء السّبيل. أنظروا إلى الآفات التي تضرب مجتمعنا وتودي بأولادنا. أنظروا إلى الانحلال الأخلاقيّ والانحرافات التي لا عدّ لها، التي هي سبب التّردّي في أوضاعنا، والانحطاط العامّ الذي نشهده. والمؤسف أنّ بعض النّاس يُشجّعون على الآفات ويُصفّقون لكلّ تخطّ للأعراف والتّقاليد، كي لا نقول يزدرون بالله وأنبيائه وقدّيسيه والمؤمنين به.
هنا، أودُّ لفت النّظر إلى أمر نعاني منه نحن المسيحيّين، لأنّنا نعرف جميعنا أنّ إخوتنا المُسلمين لا يتساهلون مع من يمسُّ معتقداتهم، وخير دليل على ذلك ما حصل في 5 شباط 2006، عندما ثارت ثائرة بعضهم بسبب كاريكاتور يُسيء إلى النّبيّ محمد ظهر في الدانمارك، وتلقّينا نحن نتائجه، إذ أحرقت سفارة الدانمارك في الأشرفيّة، ورُشقت الكنائس بالحجارة، وأُنزل الصّليب عن الباب الرّئيسيّ لمطرانيّتنا. هذا لا يعني أنّنا نُرحّب بأيّ تطاول على إيمان إخوتنا ونبيّهم، بل نرفضه ونُدينه، ولا نُشجّع السُّخرية من معتقداتهم ومعتقداتنا، كذلك لا نُشجّع العنف وتحميل الآخرين مسؤوليّة ما لم يقترفوه. لكنّنا أيضًا نتمنّى أن يحترم الآخرون حرّيّتنا وإيماننا ومقدّساتنا، وأن يرفضوا المساس بها كما نرفض نحن المساس بمُقدّساتهم. فوالدة الإله بالنّسبة إلينا هي أُمُّ الإله المُتجسّد، ونحن نُكرّمُها ونرفض أيّ إهانة لقُدسيّتها.
كذلك، فإنّ الثّالوث القدّوس هو أساس إيماننا ولا نسمح لأحد بإقحامه في أغانيه وما يدّعي أنّه فنّ.
ولمن يتّهمُنا بالحدّ من حرّيّته نقول: إنّنا نحترم حريّة الجميع، لكن على الآخرين أن يعوا أنّ حريّتهم لا تكون بالتّعدّي على الآخرين بل باحترامهم. عندما يحترم واحدُنا الآخر، وعندما نغرسُ محبّة الله في نفوسنا ونفوس أولادنا، حينئذ لن نخاف على الأجيال المُقبلة من انعدام الأخلاق والمحبّة أو من تكاثر الحروب والنّزاعات والحقد والتّطرُّف والتّخوين وما شابه. الحرّيّة مسؤوليّة وليست تفلّتًا من كلّ قيد وانفلاشًا على حساب الآخرين وتجربة للابتعاد عن الله.
والمسيحيّ، يا إخوتي، يُحبُّ الآخر كائنًا من كان، وإلهنا أوصانا بأن نُحبّ أعداءنا ونُبارك لاعنينا ونُحسن إلى مُبغضينا، لكنّه قال أيضًا إنّ علينا ألّا نلقي جواهرنا أمام الخنازير لئلّا تدوسها بأرجلها. لذلك، الحُرّيّة هي حُريّة أبناء الله لأنّ الخليقة نفسها أيضًا ستعتق من عبوديّة الفساد لتُشارك أبناء الله في حرّيّتهم ومجدهم، كما يقول الرّسول بولس في رسالته إلى أهل رومية (رو8: 21)، لأن الله هو الحرّيّة بذاتها. كلّ عبادة لغير الله هي استعباد، إلّا أنّ الحرّيّة الحقيقيّة تتجلّى في عبادة الإله الحقيقيّ الذي يريدُ منّا أمرًا واحدًا فقط في علاقتنا معه، مثلما قال في سفر الرّؤيا، وهو أن نكون إمّا حارّين (أي معه) أو باردين (أي ضدّه) لا أن نكون فاترين (أيّ نتأرجح بين الميلين). المسيحيّ الحقّ شاهد للمسيح، يُدافع عن إيمانه بالمسيح مهما كانت الظّروف، ولا يُساوم ولا يُهادن. لذلك نقول لبعض المسيحيّين الذين لا يفقهون معنى إيمانهم، إقرأوا الكتاب المُقدّس، إقرأوا سير القدّيسين، واظبوا على الصّلاة والصّوم والتّأمُّل لكي تتنبهوا إلى عظم الرّسالة المُلقاة على عاتق المسيحيّ.
ودعائي، يا أحبّة، أن نذكر دائمًا دعوة المسيح لمرتا عندما قال لها: "مرتا مرتا، إنّك تهتمّين وتضطّربين لأجل أمور كثيرة، ولكنّ الحاجة إلى واحد" (لو 10: 41-42). حاجتُنا الواحدة هي خلاص أنفسنا، وهذا لا يتمّ إلا بسماع كلمة الرّبّ والعمل بها، مثلما فعلت مريم أخت مرتا التي "اختارت النّصيب الصّالح الذي لا ينزع منها" (لو 10: 42). دعوتنا اليوم هي أن نعرف مواهبنا، ونُدرك أنّها آتية من العلاء، وواجبنا أن نُثمرها ونجعل منها طريقًا إلى تمجيد المُعطي، بحسب ما نقول في القدّاس الإلهيّ: "التي لك، ممّا لك، نُقدّمها لك". بارككم الله، وبارك مواهبكم، وبارك عقولكم، حتّى تعرفوا كيف تستغلّوا هذه المواهب في خلاص نفوسكم والآخرين، آمين".