عوده: ما الّذي أعمى بصائر حكّام العالم وأخرس ضمائرهم ليسكتوا عمّا يجري في أرض المسيح؟
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عظة جاء فيها: "أحبّائي، نقرأ في سفر إشعياء النّبيّ: "روح السّيّد الرّبّ عليّ لأنّ الرّبّ مسحني وأرسلني لأبشّر الفقراء وأجبر منكسريّ القلوب وأنادي بإفراج عن المسبيّين، وبتخلية للمأسورين" (إش 61: 51). هذا ما تنبّأ به إشعياء النّبيّ عن مسيح الرّبّ الّذي تجسّد وصار إنسانًا ليعتق الإنسان من نير الخطيئة والموت، ويفتح له باب الملكوت. الله يتدخّل لينقذ خليقته. بابنه المتجسّد تدخّل من أجل خلاص العالم الّذي ابتعد عن الله فأصيب بالأمراض والعاهات وأمسى بحاجة إلى من يقتلعه من ضياعه ويعيده إلى أحضان الله.
في العهد القديم عرف البشر الله إلهًا خالقًا، قويًّا، غيورًا على اسمه القدّوس، يعاقب على كلّ خطأ. بالمسيح يظهر إنسانًا محبًّا، رحومًا، حنونًا، يشفي المرضى ويخرج الشّياطين ويرجع البصر إلى العميان والنّطق إلى فاقديه. يشفي النّفوس المريضة والأجساد المخلّعة لأنّ شفاء الجسد لا يتمّ إلًا بشفاء النّفس، والعين لا ترى بوضوح إذا كان القلب مظلمًا والبصيرة عمياء.
قصد الله خلاص الإنسان، لكنّ البعض، بالحرّيّة الّتي أعطاها الله لأبنائه، رفضوا عمل يسوع الخلاصيّ، ونطقوا بكلام التّجديف ضدّه قائلين: "إنّه برئيس الشّياطين يخرج الشّياطين". لم يسمعوا الكلمة المحيية فلبثوا عميان القلب رغم عيونهم المنفتحة، فيما عرف أعميا إنجيل اليوم المخلّص وتبعاه، ولم يحتاجا إلى من يرشدهما إليه رغم عمى عيونهما. قلباهما الواعيان وبصيرتهما أرشدوهما إلى ابن الله فنطق اللّسان صارخًا "إرحمنا يا ابن داود". سألهما يسوع مختبرًا إيمانهما: "هل تؤمنان أنّي أقدر أن أفعل ذلك؟" وعندما أجابا "نعم يا ربّ" لمس أعينهما قائلًا لهما: "كإيمانكما فليكن لكما". نالا الشّفاء لأنّ إيمانهما كان كبيرًا. إنفتحت أعينهما وراحا يخبران تلك الأرض كلّها بمجد الله فيما بقي الفرّيسيّون المنفتحو العيون عميانًا ولم يصدّقوا أنّ ما حصل هو من فعل الله فجدّفوا.
سمعنا أيضًا في الإنجيل عن أخرس قدم إلى يسوع وبه شيطان، فلمّا أخرج يسوع الشّيطان تكلّم الأخرس. ذو النّفس الصّمّاء لا يعرف الله لذلك هو أبكم غير قادر على التّعبير عمّن لا يعرفه. النّفس البكماء غير قادرة أيضًا على الحوار وتبادل الخبرات بين الأنت والأنا لأنّها نفس مريضة لا ترى إلّا ذاتها، ولأنّها ممتلئة من ذاتها لا تتّسع لغيرها. من احتوى يسوع في قلبه لا يصمت لأنّ النّور لا يوضع تحت المكيال وإن وضع لا يحجب نوره. هكذا شعّ نور الله في الرّسل والقدّيسين. وفي رسالة اليوم يعلّمنا بولس الرّسول كيف نتقوّى "في النّعمة الّتي في المسيح يسوع" لكي ننقل البشارة ونعكس نور المسيح.
إنّ الّذين أنعم الرّبّ عليهم بنعمة البصر يدركون صعوبة أن يكون الإنسان أعمى ويخافون من مجرّد فكرة فقدان البصر. كلّ من يتمتّع ببصر جيّد يعرف معنى العمى عندما يقف عاجزًا أمام صعوبات ومستقبل مظلم، مفتكرًا بأمور كثيرة تدعو إلى الخوف. كذلك عندما يمرض أحد أحبّائنا وننتصب في مواجهة الموت نصبح عاجزين عن التّفكير، ونصاب بعمى البصر والبصيرة معًا لأنّ الخوف والفراغ الرّوحيّ يعطّلان إدراكنا لما نحن مدعوّون له.
دعوتنا أن نتبع المسيح وأن نصرخ مع الأعميين "إرحمنا يا ابن داود"، وإذا كان إيماننا صادقًا لا يبقى إلهنا صامتًا، بل يستجيب صراخنا النّابع من الظّلمة والخوف، ويعيدنا إلى دعوتنا الحقيقيّة. كلّ شخص مدعوّ لأن يصير إنسانًا كاملًا مثل يسوع المسيح، وأن يشبهه لكي يتألّه، فتتجلّى فيه الصّورة والمثال اللّذان خلقه الله عليهما.
من الضّروريّ أن ندرك أنّ دعوتنا ليست طريقًا مختصرًا نلتفّ به حول مصاعبنا الحياتيّة، بل هي اتّباع المسيح فيما نحن داخل ظلمة العالم، داخل الموت نفسه، لكي نصل إلى الملكوت. ولا عذر لدينا إذ إنّ كلمة الله تجسّد متّخذًا جسدًا مثلنا، وكإله تامّ وإنسان تامّ أظهر لنا أنّ الطّريق إلى الحياة الأبديّة هي طريق الصّليب. لم نخلق لنكون خوّافين أو فارغين روحيًّا، بل دعينا لنصبح آنيةً لنعمة الله لا توضع على الرّفّ أو في متحف ليتأمّلها النّاظرون، إنّما آنيةً تستخدم لنقل الدّواء الشّافي لمحتاجه، أيّ لنقل المسيح ونعمة روحه القدّوس. عندما نتناول جسد الرّبّ ودمه نصبح مشابهين للكأس المقدّسة، وعلينا أن نعمل عملها، أيّ أن نحمل المسيح للتّائقين إليه، ونمنح المحبّة والرّحمة وحقيقة المسيح لمن يحتاجها.
عندما سمع الرّبّ صراخ الأعميين أعاد إليهما البصر محرّرًا إيّاهما من الظّلمة والخوف. ثمّ حرّر الأخرس حتّى يهتف بالحمد لله ويخبر عن صنائعه العظيمة. عندما نقبل النّعمة الإلهيّة نبصر ونتكلّم ونتحرّر من كلّ ما يعيق طريقنا، فنصبح نقلةً لكلمة الله، آنيةً مملوءةً نعمةً، كما قال رئيس الملائكة لوالدة الإله حين بشّرها: "السّلام عليك يا ممتلئةً نعمةً، الرّبّ معك."
يتجلّى سرّ الكنيسة في دعوة الرّبّ لنا جميعًا، رغم ضعفاتنا وأحزاننا ومخاوفنا. يدعونا ليشفينا بجزيل محبّته للبشر. في الكنيسة نتساعد على الشّفاء، ونكمّل بعضنا بعضًا، لنظهر كنيسةً واحدةً، عروسًا نقيّةً يفرح بها ختنها.
أحبّائي، بعد أيّام تطلّ علينا الذّكرى الخامسة للتّفجير الآثم الّذي طال مدينتنا الحبيبة بيروت، عاصمة بلد مدعوّ للحياة، إلّا أنّ كثيرين فيه يتعامون عن الحقّ والحقيقة ويصمتون خوفًا أو جبنًا أو تواطؤًا أو بسبب المصلحة. كذلك منطقتنا غارقة في الدّماء والدّموع والعالم أعمى، لا يرى موت الأطفال ولا يبصر عذاب الأبرياء لأنّه مغموس بالشّرّ والخطيئة وبعيد عن الله. هل مسموح تجويع البشر أو تهجيرهم من أرضهم أو قتلهم؟ ما الّذي أعمى بصائر حكّام العالم وأخرس ضمائرهم ليسكتوا عمّا يجري في أرض المسيح؟ وفي كلّ هذه المنطقة؟ أليس بعدهم عن الله وانغماسهم في مصالحهم؟ قال لنا الرّبّ يسوع: "أنا هو نور العالم، من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). فهل يتخلّى عاقل عن هذا النّور الّذي لا يعروه مساء من أجل مصلحة آنيّة؟ وبم سيجيب الله، الدّيّان العادل، في يوم الدّينونة الرّهيب؟
عندما شفي الأعميان وأبصرا النّور راحا يحدّثان الجميع بمجد الله رغم تحذيره ألًا يعلما أحدًا. من عاين النّور لا يخبّئه ومن احتوى يسوع في قلبه لا يصمت عن الحقّ، بل ينبذ الشّرّ ويحاربه ويحاذر الوقوع في فخاخ الشّرّير.
في تعاليمه وفي أعماله ابتغى يسوع أن نصير خليقةً جديدة، أن يحلّ محلّ القلب الحجريّ فينا قلب لحميّ محبّ ورحوم. فلنطهّر قلوبنا وننقّ ذواتنا طالبين غفران خطايانا وشفاء نفوسنا صارخين بإيمان كالأعميين "إرحمنا يا ابن داود" آمين."