عوده: لو وضعنا نحن اللّبنانيّين ثقتنا في الرّبّ واعتمدنا عليه وحده لكنّا تحرّرنا من رباطات الشّرّ
وللمناسبة، كانت لعوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، يخبرنا الإنجيليّ متّى اليوم عن شابّ جاء إلى الرّبّ وسأله عمّا يعمل من الصّلاح ليرث الحياة الأبديّة. سؤاله بذاته يبدو صالحًا، إذ هو نابع من قلب يبحث عن الحياة الأبديّة وعن الخلاص. لكنّ الرّبّ العارف خفايا القلوب أراد أن يكشف له عمق الحياة، فأجابه أوّلًا بما يتوافق مع فكر الشّريعة: "إحفظ الوصايا". وعندما سأله الشّابّ: "أيّة وصايا؟" عدّد له الرّبّ الوصايا الأخلاقيّة في النّاموس: "لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزّور، أكرم أباك وأمّك، أحبب قريبك كنفسك". أجاب الشّابّ بثقة أنّه حفظها منذ حداثته، وتساءل عمّا ينقصه بعد، وكأنّه يعلن أنّه أتمّ النّاموس كلّه. مع ذلك كان يشعر بأنّ شيئًا لا يزال ناقصًا. هنا لمس الرّبّ الوتر الحسّاس في قلب الشّابّ، أيّ التّعلّق بالغنى. لم يطلب منه عمل رحمة عابرًا، بل أن يتخلّى تمامًا عمّا يملك، وأن يضع كلّ رجائه في المسيح وحده. يخبرنا الإنجيل أنّ الشّابّ مضى حزينًا لأنّ أمواله كانت كثيرةً، ولم يكن مستعدًّا أن يتخلّى عنها لأنّ قلبه كان معلّقًا بخيرات الأرض. عندئذ قال الرّبّ لتلاميذه "إنّه يعسر على الغنيّ دخول ملكوت السّماوات" و"إنّ مرور الجمل من ثقب الإبرة لأسهل من دخول غنيّ ملكوت السمّاوات". تعجّب التّلاميذ وفقدوا الأمل في خلاص أيّ أحد، لكنّ الرّبّ أجابهم: أنّ هذا عند النّاس غير مستطاع، وأمّا عند الله فكلّ شيء مستطاع.
يكشف لنا هذا الحدث أوّلًا أنّ الحياة الأبديّة ليست مسألة أعمال صالحة مجرّدة من القلب، بل هي اتّباع للمسيح بكلّ الكيان. كان الشّابّ مستقيمًا بحسب النّاموس، لكنّه لم يكن حرًّا في قلبه من رباط حبّ المال. يعلّمنا الآباء القدّيسون أنّ الخطيئة ليست فقط في كسر الوصايا ظاهريًّا، بل أيضًا في عبوديّة القلب للأهواء. يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفم إنّ الغنى ليس شرًّا في ذاته، لكنّ الخطر يكمن في أن نصير عبيدًا له، وأن نتعلّق به فيصير إلهًا آخر في حياتنا. لا يقتصر الغنى هنا على المال، بل قد يكون أيّ أمر نضعه قبل الله، أكان مركزًا أو كرامةً أو مقتنيات إو راحةً أو حتّى رأيًا أو موقفًا.
لم يدع المسيح جميع النّاس ليبيعوا كلّ ما عندهم بشكل حرفيّ، بل دعا كلّ إنسان إلى وضع الله أوّلًا في حياته، وأن يكون مستعدًّا للتّخلّي عن أيّ شيء يقف حاجزًا بينه وبين الملكوت. يقول المغبوط أغسطينوس: "لم يطلب من الشّابّ أن يوزّع ماله على الفقراء فقط، بل أن يتبع المسيح بعد ذلك، لأنّ العطيّة بلا اتّباع المسيح لا تخلّص". المطلوب إذًا ليس فقط فعل الرّحمة، بل تسليم الحياة بكاملها لله.
يا أحبّة، في حياتنا اليوم، قد نجد أنفسنا مكان هذا الشّابّ. قد نحفظ الوصايا والعقائد وأقوال الآباء وسير القدّيسين، لكن يبقى في القلب أمر نحبّه أكثر من الله، شيء نتمسّك به ونرفض أن نتركه. المسيح يقف أمامنا اليوم كما وقف أمام ذلك الشّابّ سائلًا: هل أنت مستعدّ أن تملّكني قلبك بالكامل؟ هذا السّؤال ليس نظريًّا، بل عمليّ، لأنّ التّخلّي عن الغنى بكلّ أشكاله، أيّ التّعلّق بالمادّيّات الزّائلة وبالألقاب والمراكز والمنافع، يتطلّب جهادًا حقيقيًّا.
هنا نفهم كلام الرّبّ على صعوبة دخول الغنيّ إلى الملكوت. ليست المشكلة في الغنى، بل في القلب الممتلئ بمحبّة المال، الفارغ من محبّة الله. الإنسان الّذي يعتمد على ما يملك، يصعب عليه أن يشعر بالحاجة إلى النّعمة. لذلك قال الرّبّ إنّ الأمر مستحيل على البشر، لأنّ قلب الإنسان لا يستطيع أن يحرّر نفسه من أهوائه بقوّته الخاصّة، لكنّ المستحيل يصبح ممكنًا بالنّعمة الإلهيّة. هذا ما أكّده القدّيس مكاريوس الكبير بقوله: "النّفس إذا لم تأت إليها النّعمة من فوق، لا يمكنها أن تتحرّر من رباطات الشّرّ."
أحيانًا، قد نجرّب بأن نضع ثقتنا في ما نملك من شهادات وخبرات ومعارف، أو حسابات مصرفيّة ومراكز عالية، أو ارتباطات نستقوي بها، لكنّ الرّبّ يذكّرنا بأنّ كلّ هذا زائل، وأنّ كنزنا الحقيقيّ في السّماء. قال الرّبّ للشّابّ: "إن كنت تريد أن تكون كاملًا فاذهب وبع كلّ شيء وأعطه للمساكين، فيكون لك كنز في السّماء، وتعال اتبعني". عندما نختبر العطاء السّخيّ، والتّخلّي الطّوعيّ، والتّواضع والمحبّة نزداد غنًى في الله. لذلك يربط الآباء القدّيسون بين هذا النّصّ وبين التّطويبة: "طوبى للمساكين بالرّوح، لأنّ لهم ملكوت السّماوات". الفقر بالرّوح هو العيش بقلب حرّ معتمد على الله وحده لا على الذّات.
يا أحبّة، لو وضعنا نحن اللّبنانيّين ثقتنا في الرّبّ، واعتمدنا عليه وحده، واستجدينا نعمته، لكنّا تحرّرنا من رباطات الشّرّ ووفّرنا على أنفسنا وعلى بلدنا الكثير من السّقطات، لكنّ بعض اللّبنانيّين يعتمدون على أموالهم ومراكزهم ومواقفهم أو على قدراتهم الذّاتيّة أو قوّتهم قبل اعتمادهم على الرّبّ، أو بعيدًا عنه، ظانّين أنّ المراكز والأموال والسّطوة وكلّ المكتسبات أبديّة، متناسين أنّ لكلّ شيء نهاية. الصّحّة والعمر والمال والأعمال والمراكز والبأس والحظوة والزّعامة كلّها زائلة وليس أبديّ إلّا الله، لذلك على الإنسان أن يحسن استعمال النّعم والوزنات والمواهب الممنوحة له من الله لكي لا تكون عثرةً له بل بابًا للخلاص.
إنّ دعوة المسيح للشّابّ الغنيّ موجّهة لكلّ منّا. ليست دعوةً للحزن كما فعل الغنيّ، بل دعوة للفرح الّذي لا يسلب، لأنّ من يترك كلّ شيء لأجل المسيح، يأخذ أضعافًا هنا وحياةً أبديّةً هناك. فلنتذكّر أنّ ما نتركه في سبيل المسيح لا نخسره، بل نحفظه في السّماء حيث لا يفسد ولا يسرق ولا يزول.
يريد الرّبّ أن يحرّر قلوبنا من كلّ رباط حتّى نحبّه بكلّ كياننا، وحتى نخلص. فلنسأل نعمة الرّبّ ورحمته، وهو ينير سبيلنا ويعتقنا من كلّ قيد ويجعل المستحيل ممكنًا، ويحوّل محبّتنا من أرضيّة إلى سماويّة، آمين."