لبنان
15 أيار 2023, 05:55

عوده: لو عاد مسؤولونا إلى الكتاب المقدّس وقرأوا ما كتب فيه عن لبنان لعرفوا قيمته وكان ولاؤهم له وحده

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، لقد عيّنت كنيستنا المقدّسة هذا الأحد الرّابع بعد الفصح للقاء المسيح بالمرأة السّامريّة. لم يعطنا النّصّ الإنجيليّ اسم المرأة السّامريّة، إلّا أنّنا نعرف من التّقليد أنّها تدعى "فوتيني"، أيّ "منيرة". هذه المرأة الّتي أظلمتها الخطيئة، أصبحت، بعد لقائها بالرّبّ يسوع، نورًا مشعًّا للعالم أجمع، وليس لأبناء بلدها فقط.

لقد حضرت السّامريّة إلى البئر بهدف إحضار الماء لقضاء أعمال يومها. هذا اليوم العاديّ من حياة المرأة السّامريّة تحوّل إلى نهار روحيّ غيّر حياتها، إذ قابلت عند البئر رجلًا جالسًا طلب منها أن تسقيه، ولم تكن تعلم من هو. بعدما سألته سؤالًا واحدًا، سمعت من الرّجل جوابًا تجاوز حدود المعقول، فرأت فيه نبيًّا، ثمّ أيقنت أنّه المسيح، مخلّص الجميع بلا استثناء أو تفرقة. لم تضع النّور تحت المكيال، بل سارعت كي تنير لجميع أهلها. عندما لمست كلمة الله قلبها، وذاقت حلاوتها، واستنارت بهديها، لم تشأ أن تنعم بالفرح وحدها، ولا رغبت في القيام من موت الخطيئة بمفردها، بل شاركت الجميع بهذه النّعمة الإلهيّة. من هنا نشعر بالنّفحة القياميّة في إنجيل اليوم.

تذكّرنا المرأة السّامريّة بالعذراء القدّيسة مريم. بعيدًا عن موضوع خطيئة الأولى ونقاوة الثّانية، نستطيع أن نستشفّ شيئًا من التّشابه. فكما ولدت العذراء المسيح لخلاص الجميع، فكان ماءً حيًّا يروي ظمأ العالم المظلم بالخطايا، معيدًا إيّاه إلى الحياة الحقيقيّة، كذلك فعلت المرأة السّامريّة بغرسها كلمة الله في شعبها واجتذابهم من الموت إلى الحياة. ومثلما أعلى المسيح شأن المرأة في اليهوديّة، بولادته من عذراء كانت ثمرةً لزوجين عقيمين، كذلك عاد الرّبّ ليعلي شأن المرأة السّامريّة الّتي أعقمتها الخطيئة، إذ يتحدّث الإنجيل عن أزواجها، لكنّه لم يأت على ذكر أيّ ثمار لهذه الزّيجات، وهذا يعني أنّها كانت عقيمةً بالخطيئة الّتي منعتها من إنتاج أعمال برّ ومحبّة. هذا الأمر تغيّر حالما التقت المسيح فتحوّل عقمها إلى ولادة حياة، بجلبها شعبًا بأكمله ليولد في المسيح، ويولد المسيح فيه. بسبب والدة الإله العذراء تحوّل ماء عرس قانا إلى خمر مبهج، وبسبب السّامريّة أصبح الماء الّذي لا يروي ماءً حيًّا، كلّ من يشرب منه لا يعود يعطش أبدًا.

هنا، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ جميع القدّيسين عاشوا شيئًا من خبرة لقاء السّامريّة بالرّبّ يسوع. كلّ واحد منهم التقى الرّبّ في لحظة من حياته، فأصبحت هذه اللّحظة مفصليّةً، ونقطة تحوّل لا رجوع بعدها إلى الحياة السّابقة، إلى الإنسان القديم. بولس الرّسول مثلًا، الّذي كان مضطهدًا للمسيحيّين، أصبح رسولًا للأمم بعد لقائه مع المسيح على طريق طرسوس، تمامًا كالسّامريّة رسولة الأمم. قدّيسون كثيرون تركوا إنسانهم القديم وتبعوا المسيح، بعد أن كانوا عشّارين أو زناةً أو سارقين أو حتّى قتلة. عندما يقيمنا المسيح القائم من بين الأموات معه، لا نعود نبحث عمّا يميتنا مجدّدًا، بل نتلذّذ بطعم الحياة به ومعه. لهذا منحنا الرّبّ نعمة سرّ التّوبة والاعتراف، كي نقوم من موت الخطيئة، ونعود إلى الفرح القياميّ الّذي يحاول الشّيطان دومًا أن ينتزعه منّا. فبفضل النّعمة الإلهيّة يستطيع البشر أن يحقّقوا ما يراه العالم مستحيلًا، أيّ أن يحيوا على صورة الله ومثاله في عالم مظلم بالخطيئة، وأن يحملوا كلمة الحقّ إلى الآخرين الّذين قد لا يصدّقونهم في البداية.

تعلّمنا السّامريّة اليوم أن نبقي نافذةً مفتوحةً في حياتنا لاستقبال الكلمة الإلهيّة والاستنارة بالنّور الإلهيّ، رغم كثرة انشغالاتنا الدّنيويّة أحيانًا. بهذه الطّريقة نصبح مطهّرين، أنقياء، فيشعّ نور كلمة الله في قلوبنا، ونصبح منارات تضيء عتمة هذا الدّهر الخدّاع.

إنّ كل الآحاد الّتي تتبع الفصح المقدّس تحمل جدّة القيامة ونلمس في طيّاتها تحوّلًا من إنسان قديم إلى آخر جديد قائم مع المسيح. ففي الأحد الجديد يتحوّل الرّسول توما من الشّكّ إلى الإيمان، بعده تصبح حاملات الطّيب رمزًا للشّجاعة بعد أن كنّ خائفات. ثمّ يقوم المخلّع من مرضه صحيحًا، واليوم السّامريّة تترك جرّتها لتشرب ماءً جديدًا. كلّ المذكورين أعلنوا إيمانهم بالرّبّ يسوع، وحملوا بشارته إلى العالم أجمع. كلّهم كان لهم لقاء شخصيّ مع المسيح، حوّلهم خلاله إلى ما أصبحوا عليه. جميعهم أمثلة حيّة لنا، لكي نسعى إلى هذا اللّقاء مع المسيح القائم، كي يقيمنا معه، نحن الّذين اعتمدنا به ولبسناه، ثمّ جاءت الخطيئة فلطّخت ثوب معموديّتنا، وخلّعتنا، وأبعدتنا عن الكلمة الإلهيّة، وجعلتنا خائفين، كما خاف آدم القديم من عريه بعد السّقوط.

يا أحبّة، بلدنا اليوم يماثل السّامريّة في خطيئتها، فزيجاته المتعدّدة، أيّ ارتباطات معظم الزّعماء والمسؤولين فيه وتعلّقهم بهوًى خارجيّ أوصلاه إلى قاع الهوّة الّتي يقبع فيها اليوم. لو عاد مسؤولونا إلى الكتاب المقدّس وقرأوا ما كتب فيه عن لبنان، لعرفوا قيمته وكان ولاؤهم له وحده، لأنّ الله اصطفاه، ومن أرزه بني هيكله. الدّول المحيطة كانت ترنو إلى لبنان، بعضها يحبّه، وبعضها يسعى أن يكون مثله، والبعض الآخر يحسده. أمّا الآن فقد سبقوه جميعهم، وأصبحوا يفتّشون عن حلّ لقضيّته بسبب تقصير أبنائه وخلافاتهم وانقساماتهم. فهم يقولون ما لا يفعلون. يطلقون المواقف والشّعارات المرتكزة على المبادئ والقيم، لكنّ أعمالهم تفضح نيّاتهم. الجميع ينادي بضرورة انتخاب رئيس ويحدّدون مواصفاته. ماذا ينتظرون؟ ما هذه الاستحالة في انتخاب شخصيّة تترأّس الدّولة؟ هل خلا البلد من الرّجالات الّذين ينبض قلبهم بحبّ لبنان؟ أليس حريًّا بجميع المسؤولين أن يعودوا إلى الرّبّ، ويطلبوا معونة الرّوح القدس، الّذي كما ساعد الرّسل في انتخاب خلف ليهوذا، سيلهم سائليه ويدلّهم إلى الدّرب المؤدّية إلى خلاصهم؟

تدعونا الكنيسة اليوم إلى الارتواء من ينبوع الماء الحيّ، المسيح القادر وحده أن يحيي نفوسنا وأجسادنا، ونحن مدعوّون أن نحمل كلمة الله ونسارع نحو العطاش إليها، مثلما فعلت "منيرة" السّامريّة، الّتي أضاءت عتمة قلوب شعب أظلمه البعد والتّغرّب عن الله، فكانت السّبب في خلاصه، آمين".