عوده: لنلحظ الخشبة في عيننا قبل التّصويب على القذى في عين الآخر، فنستحقّ الفرح القياميّ
"أحبّائي، نسمع في إنجيل اليوم امرأةً كنعانيّةً، غير يهوديّةٍ، تستغيث بالرّبّ يسوع طالبةً الرّحمة والخلاص لابنتها من براثن الشّيطان: «إرحمني يا ربّ يا ابن داود فإنّ ابنتي بها شيطانٌ يعذّبها جدًّا». فلم يجبها الرّبّ، لكنّها لم تعتبر صمته تخلّيًا عنها، بل تابعت إظهار إيمانها وثقتها به كمخلّصٍ حقيقيٍّ صارخةً مجدّدًا: «أغثني يا ربّ». عندما أظهر تلاميذه عدم محبّةٍ وعدم رحمةٍ، طالبين منه أن يصرفها، قال لهم: «لم أرسل إلّا إلى الخراف الضّالة» مؤكّدًا لهم أنّه أتى لخلاص الجميع، خصوصًا من ضلّ الطريق المستقيم.
يلفتنا موقف المرأة الكنعانيّة عندما قال لها الرّبّ يسوع: «ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويلقى للكلاب». لم تنفر، ولم تحزن، بل قالت بتواضعٍ تامٍّ: «نعم، يا ربّ، فإنّ الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الّذي يسقط من موائد أربابها». هذا الحوار القصير، إن دلّ على شيءٍ فعلى معرفةٍ عميقةٍ بالذّات، الأمر الّذي يقود إلى التّواضع، أساس التّوبة الحقيقيّة.
كان اليهود يعتبرون الوثنيّين نجسين كالكلاب، لأنّهم لا يؤمنون باللّه الواحد، ولا يعرفون الشّريعة والوصايا، تمامًا كما يفعل بعض النّاس في هذه الأيّام، الّذين يعتبرون أنّ الحقيقة لديهم وحدهم. لكنّ رحمة الرّبّ ومحبّته واسعتين. فقد واجه المرأة بما يقال عن جنسها في المجتمع لكي تظهر إيمانها، فأظهرت قبولًا وتواضعًا عظيمين، أسّسا لخلاصها هي وابنتها فسمعت من الرّبّ: «يا امرأة، عظيمٌ إيمانك، فليكن لك كما أردت».
المرأة الكنعانيّة عرفت ذاتها جيّدًا، لذلك لم تمتعض من قول الرّبّ لها، بل أكملته. طبعًا، لم يرد المسيح إهانة المرأة كما يعتقد البعض. فاليهود نعتوا الأمميّين بالكلاب، لأنّ الكلاب، عدا عن أنّها نجسةٌ في معتقدهم، هي مرتبطةٌ بالجهل، لإنّ الأمميّين بنظر اليهود يجهلون الإله الحقّ ويعبدون الأوثان، وهم نجسون كونهم لم يمارسوا طقوس التّطهير، كالختان مثلًا. إذًا، أكّدت الكنعانيّة أنّها غير يهوديّةٍ، أيّ ينقصها أن تعرف الإله الحقّ، إلّا أنّها، بهذا الاعتراف، أظهرت تواضعًا عظيمًا أظهرها أكثر إيمانًا من أبناء الشّعب اليهوديّ، وحتّى من التّلاميذ أنفسهم. الجاهلة بنظر اليهود، عرفت المسيح، وجاءت إليه طالبةً الخلاص لابنتها. أمّا التّلاميذ الّذين كان المسيح معهم وقتًا طويلًا، فلم تنفتح عيونهم إلّا بعد القيامة. نقرأ في إنجيل يوحنّا قول الرّبّ: «أنا معكم زمانًا هذه مدّته ولم تعرفني يا فيليبّس؟» (14: 9). كذلك نقرأ في الأناجيل عن عددٍ من التّلاميذ الّذين لم يتعرّفوا على المسيح مع أنّهم عايشوه، مثل يهوذا الإسخريوطيّ الّذي أسلمه، ومريم المجدليّة الّتي لم تعرفه عندما ظهر لها بعد قيامته وظنّته البستانيّ، إضافةً إلى تلميذي عمواس اللّذين «أمسكت أعينهما عن معرفته».
أساس التّواضع هو معرفة الذّات، لكن كيف نعرف ذواتنا وأنّنا نسير في الظّلمة؟ لا يحدث هذا إلّا عندما نسعى إلى معرفة المسيح والتّقرّب منه والاعتراف به جهارًا مثلما فعل زكّا العشّار، والمرأة الكنعانيّة، وبطرس الرّسول وغيرهم. عندما يسطع نور المسيح في حياتنا يضيء ظلمتنا، فندرك مكامن خطايانا. عندئذٍ نرذل إدانة الآخرين والتّدقيق في خطاياهم، ونسعى إلى الخلاص من خطايانا، الأمر الّذي سيشغلنا طيلة العمر، فلا نعود نهتمّ بإدانة الخطأة كالفرّيسيّ الّذي ظنّ أنّه بارٌّ وأنّ العشّار خاطئٌ، بل إنّنا لن نجد أنّ أحدًا يخطئ تجاه الرّبّ بقدرنا، كما يقول القدّيس سمعان اللّاهوتيّ الحديث: «إنّني أعلم أيّها المخلّص أن ليس أحدٌ غيري أخطأ إليك كما خطئت أنا، ولا فعل الأفعال الّتي فعلتها أنا».
يا أحبّة، حبّذا لو يعرف كل طرفٍ في هذا البلد نفسه كما فعلت الكنعانيّة، بدلًا من إلقاء اللّوم على الآخرين واتّهامهم بشتّى الإتّهامات. مؤخّرًا، أصبح كلّ خاطئٍ في حقّ لبنان وشعبه ديّانًا للآخرين الّذين لا يريدون سوى خلاص الأرض وشعبها. أصبح البعض يستلّون سيف التّخوين والعمالة تجاه من يخالفهم الرّأي، متجاهلين حرّيّة الرّأي والتّعبير، والحقّ في إبداء الرّأي. لم يسلم من تخوينهم رجال السّياسة الشّرفاء القليلون، ولا الفنّانون الّذين يرفعون اسم لبنان في سماء العالم أجمع، ولا الكتّاب والأدباء والصّحافيّون، ولا حتّى رجال الدّين على مختلف مشاربهم. ليت الجميع ينظرون إلى أنفسهم في مرآة الوطنيّة، ويكيلون بميزان الحقّ والعدل. ليتهم يراجعون أعمالهم، السّوداء منها والبيضاء، مقلّلين من الأولى، ومكثرين من الثّانية، علّ خلاص البلد يتمّ عندما يعترف كلّ إنسانٍ بأخطائه، ويدرك أنّ ثمّة آخر أمامه، يشاركه الأرض وحبّ الوطن، وأنّ الجميع يتمتعون بنفس الحقوق كما عليهم نفس الواجبات، وأوّلها احترام وطنهم، والولاء له، وإبعاده عن كلّ شرٍّ وخطر، وصونه من كلّ عثرة.
بلدنا يتقهقر لأنّه يخسر مقوّمات ديمقراطيّته، وينحدر إلى العشوائيّة والغوغائيّة والتّسلّط والفوضى. كيف ينمو بلدٌ ويزدهر وهو بلا رئيسٍ يقوده بحسب ما يمليه دستوره؟ كيف يبنى بلدٌ جيشه مستضعفٌ؟ كيف ينعم بلدٌ بالإستقرار والإزدهار والسّلاح منتشرٌ وحدوده مستباحةٌ وقضاؤه مقموعٌ، وإداراته قد أفرغت من الكفاءات، وقرار الدّولة مصادرٌ، والحرب تفرض عليها وعلى المواطنين؟ وما ذنب المدنيّين الأبرياء الذين يسقطون يوميًّا جراءها؟ كيف تبنى الدّولة عندما يستقوي البعض عليها، ويتخطّى البعض قراراتها، ويتجاهل البعض الآخر وجودها؟ كيف تبنى دولةٌ والجميع يستغلّها؟ وكيف يكون المواطنون متساوين في الحقوق والواجبات فيما الرّأي لمن في يده القوّة والمال والسّلطة؟
يا أحبّة، الصّوم الكبير على الأبواب، فلنستغلّ هذه الفترة المهيئة له، حتّى نتوب عن كلّ شرٍّ وخطيئةٍ، ونبتعد عن كلّ إدانةٍ، وعن الكلام البطّال، ونسعى إلى التّواضع، ونلحظ الخشبة في عيننا قبل التّصويب على القذى في عين الآخر، فنستحقّ الفرح القياميّ، آمين."