عوده: لنفتح عيون بصرنا وبصيرتنا ونقتبل المسيح نورًا لحياتنا
"أحبّائي، يأتي إنجيل أعمى أريحا في الأحد الأخير من الفترة الفصحيّة، وقبل عيد الصّعود، ليعكس مفاعيل القيامة في البشريّة جمعاء. لقد جعلت قيامة المسيح من بين الأموات الحياة حياةً جديدةً لا تعرف الفساد والموت، حياةً خاليةً من الخطيئة ما دام الإنسان يطهّر ذاته بالتّوبة والغفران اللّذين بهما يعيش المؤمن القيامة، إذ يدحرجان حجر زلّاته وخطاياه عن قلبه، فتشتعل فيه مجدّدًا شرارة نور القيامة ويشعّ من جديد.
لقد ارتبطت الحياة بالنّور منذ بدء الخليقة، وهذا ما نعبّر عنه في مجتمعنا عندما يولد إنسان جديد، فنقول إنّه "أبصر النّور"، أيّ أبصر الحياة. من هنا، يكون العمى موتًا. أعمى أريحا كان في الظّلمة، في الموت، وبشفاء الرّبّ يسوع له، أعيد إلى الحياة. هذه هي القيامة الّتي تعيدنا إلى الحياة بعد أن كنّا تحت سلطان الموت. لا يعيش إنسان من دون علاقة مع الله. وحدها العشرة مع الإله المثلّث الأقانيم تحيينا، لأنّه الحياة ومصدرها ومحورها، فيه فقط "نحيا ونتحرّك ونوجد" (أع 17: 28)، ووحده قادر أن يمنحنا الاستنارة.
سمع هذا الرّجل الأعمى الجمع مجتازًا، فشعر بأنّ هناك أمرًا غير اعتياديّ. علم أنّ الرّبّ يسوع عابر، ومع أنّه لم يره بعينيه الجسديّتين، ولم يعاين العجائب الّتي صنعها، إلّا أنّه آمن بأنّه المسّيّا المنتظر، لأنّه كان يعرف من نبوءات العهد القديم الّتي سمعها أنّ المسّيّا الآتي من نسل داود سوف يشفي أمراض البشر (إش 61: 1)، وهذا ما قرأه الرّبّ يسوع من سفر إشعياء النّبيّ في بداية مسيرته التّعليميّة قائلًا: "روح الرّبّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر المساكين، أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر" (لو 4: 18). يعيدنا هذا الحدث إلى المعموديّة، حيث الإنسان الموعوظ، الّذي لم يقتبل المعموديّة بعد، وما زال يتهيّأ لها، هو كذاك الأعمى الّذي لم ير الرّبّ يسوع بعد، لكنّه يسمع عنه في الوعظ والتّعليم والقراءات الكتابيّة، فيؤمن به مخلّصًا وفاديًا لحياته فيهتف نحوه: "يا يسوع ابن داود ارحمني" (18: 38). بعد اقتباله المعموديّة يولد الموعوظ من جديد بالماء والرّوح، فتنفتح عيناه ويبصر وجه المسيح، فيتبعه مكرّسًا ذاته له، ويصبح له تلميذًا يشهد للحقّ ويمجّد الله الّذي أقامه إلى قيامة حياة، فيؤمن آخرون بالمسيح ويأتي بثمار كثيرة وخراف إلى مائدة الملكوت.
تمثّل حادثة شفاء الأعمى حكاية كلّ إنسان مع الله. كلّنا عميان بسبب خطايانا وزلّاتنا، نتوه في برّيّة عالم فاسد تشدّه الشّرور والأنانيّات من كلّ صوب، تشتّته ذئاب المجتمعات الّتي تضلّل تحت شعار الحرّيّة والتّحرّر، فتضيّع البوصلة الطّريق الحقيقيّ. لكنّ رحمة الرّبّ أوسع من الغمام، وهي تظلّل طالبيها. ساعتئذ، يمدّ الله يده إلينا مجدّدًا ويفتح بصيرتنا ونراه النّور الوحيد، فيرشدنا إلى الطّريق والحقّ والحياة. متى شعّ نور القيامة الّذي لا يغرب في قلوبنا، ننطلق مبشّرين به العالم أنّه الإله الحقيقيّ مخلّصنا الّذي افتدانا بدمه الكريم عندما سمّر على الصّليب. نشهد له بإيمان توما الرّسول ورجائه، وشجاعة النّسوة الحاملات الطّيب وصلابتهنّ، واندفاع المرأة السّامريّة، بلا خوف من العالم والمجتمع والنّاس، وإيمان الأعمى. بنور المسيح القائم وسكناه فينا تتجدّد حياتنا فننال الفرح الّذي لا يستطيع أحد، مهما قوي، انتزاعه منّا.
إنجيل اليوم يعلّمنا من خلال الحوار بين الأعمى والفرّيسيين أنّ الخطيئة مرض يعمي البصيرة وهذا أخطر من عمى البصر. مع الفرّيسيين نتعرّف على مأساة البشريّة الّتي تتمسّك بالقشور والمظاهر البعيدة عن محبّة الله ورحمته. فعوض أن يفرحوا بشفاء الأعمى قالوا عن يسوع "هذا الإنسان ليس من الله لأنّه لا يحفظ السّبت"، مدفوعين بحسدهم وحقدهم، عائشين في ظلمة روحيّة تمنعهم من رؤية الحقيقة ومعاينة نور الله.
يا أحبّة، يصادف اليوم أيضًا تذكار وجود هامة السّابق يوحنّا المعمدان. لقد كان عمل المعمدان على الأرض تهيّئة عيون البشر الجسديّة والرّوحيّة لاقتبال نور المسيح المقبل إلى العالم ليخلّص الجميع. كان يوحنّا نورًا يرشد الضّالّين إلى شمس العدل، لذلك يرمز إليه بالشّمعة الّتي تسير أمام الإنجيل في الدّورة الصّغرى في القدّاس، لأنّه هيّأنا، بنور المعموديّة، لاقتبال نور كلمة الله في قلوبنا، وحملها إلى العالم أجمع، بجرأة وثبات، مثله، غير هيّابين قطع الهامات أو نخس الأجساد.
لذلك، دعوتنا اليوم أن نفتح عيون بصرنا وبصيرتنا، ونقتبل المسيح نورًا لحياتنا، ونشعّ بهذا النّور في العالم الّذي أظلمته الخطيئة والحقد والشّرّ، فننجو من شباك المحّال (الشّيطان) ونخلّص الآخرين معنا، آمين. المسيح قام، حقّا قام."