لبنان
21 تشرين الثاني 2022, 06:55

عوده للنّوّاب: انتخبوا رئيسًا وشكّلوا حكومة وأعيدوا الحياة للقضاء والعدالة للنّاس

تيلي لوميار/ نورسات
"إنتخبوا رئيسًا، شكّلوا حكومةً، أصلحوا المؤسّسات، أعيدوا الحياة للقضاء والعدالة للنّاس، أنيروا حياتهم بالكهرباء الغائبة وبنور الأعمال الصّالحة." نداءٌ جديد أطلقه متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خلال خدمة القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القديّس جاورجيوس، الّذي تقيم خلاله الكنيسة "تقدمةً لعيد دخول والدة الإله الفائقة القداسة إلى الهيكل"، وذلك في عظة قال فيها: "إنّ حياة العذراء القدّيسة مليئة بالدّروس الّتي على كلّ مسيحيّ أن يتّعظ منها. إذا تمعّنّا في المقطع الإنجيليّ الّذي سمعناه اليوم، يمكننا أن نفهم أهمّيّة والدة الإله.

سمعنا على لسان الرّبّ أنّ إنسانًا غنيًّا استكبر لأنّ أرضه أخصبت، ففكّر في توسيع مخازنه كي تتّسع للثّمار الّتي جناها. لم يفكّر في توزيع أيّ من تلك الثّمار، بل قال: "أصنع هذا: أهدم أهرائي وأبني أكبر منها وأجمع هناك كلّ غلّاتي وخيراتي". نسي أنّ الفضل لا يعود له في عمل الطّبيعة وإثمار الغرس، بل لمن منحه إيّاها "من فوق". راح يتكلّم وكأنّه المالك الرّسميّ لكلّ خيرات الأرض، فقال لنفسه: "يا نفس، إنّ لك خيرات كثيرةً موضوعةً لسنين كثيرة، فاستريحي وكلي واشربي وافرحي". لقد طمأن الغنيّ نفسه أنّه لن يجوع لسنين طوال، وكأنّه ضمن أنّه سيبقى حيًّا طيلة الفترة الّتي ستكون فيها الأهراء مليئة. هنا أيضًا وضع نفسه مجدّدًا مكان الله معطي الحياة، الّذي "بيده نسمتنا" كما نرتّل في خدمة الدّفن. فجاءه الرّدّ الإلهيّ قائلاً له: "يا جاهل، في هذه اللّيلة تطلب نفسك منك، فهذه الّتي أعددتها لمن تكون؟".

كان الرّجل الغنيّ مصرًّا على أنانيّته، تمامًا كما الغنيّ في مثل الغنيّ ولعازر الّذي سمعناه منذ فترة. خطيئته كانت مزدوجةً: الافتخار أو الكبرياء، إضافةً إلى عدم التّفكير بالآخر ومشاركته عطايا الله. خطيئة الإنسان أنّه يظنّ نفسه قائمًا بذاته، وينسى أنّه مخلوق، لا يعرف متى ينتقل من هذا العالم. لذلك أنهى المسيح مثله بقوله: "هكذا من يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله"، أيّ من يجعل كنزه مادّيًّا، فيما يجب أن يكون الله كنزه.

من هنا، يمكننا أن نفهم عظمة ما قامت به العذراء القدّيسة عندما استغنت بالله، فدخلت إلى الهيكل المقدّس وعاشت فيه، وخرجت من هناك والدةً للإله. لقد كان والدا العذراء يتوقان للحصول على ثمرة بطن، مولود يكون كنزهما في هذه الحياة. إستغنيا بالله، فمنحهما ما يريدان، إلّا أنّهما فهما أنّ ما يمنحه الله للبشر ما هو إلّا نعمةً يجب أن تكون في خدمة الجميع. لم يقفلا على ثمرتهما ويحفظاها لنفسهما كما فعل غنيّ إنجيل اليوم، بل قدّماها لله في هيكله، وهناك بارك الرّبّ هذه الثّمرة، وجعلها شجرةً منها أنبت الخلاص للجميع، فتمتّعت كلّ البشريّة بثمار الفردوس.

والدة الإله أكملت ما بدأه والداها القدّيسان يواكيم وحنّة. فعندما بشّرها رئيس الملائكة جبرائيل بالحبل الإلهيّ، لم تفكّر بأنانيّة، مثلما فعل الغنيّ. لم ترفض متذرّعةً بالقوانين الأرضيّة، خوفًا على نفسها من موت محتّم تفرضه العادات الاجتماعيّة. الغنيّ خاف أن يتضوّر جوعًا، ونسي أنّ الله الّذي خلقه لن يتركه، بينما لم تتردّد العذراء في وضع نفسها بين يديّ الله "أمةً"، واثقةً بأنّ نعمته ستحفظها من الموت، مثلما حفظتها من الجوع في الهيكل حيث نشأت، إذ جاء في سيرتها أنّ ملاكًا كان يأتي إليها بالطّعام، فخدمت شعب الله أعظم خدمة في التّاريخ، كونها كانت مدخلًا للخلاص.

بعدما ولدت مريم ابنها الإله، لم نسمع قطّ بأنّها تكبّرت، بل كانت دومًا مثالًا للتّواضع وحتّى للطّاعة، بدءًا من حفظها كلّ شيء في قلبها عندما زارها المجوس، أو عندما تنبّأ لها سمعان الشّيخ بأنّ سيفًا سيجوز في قلبها. لم تهرب بعد هذا الكلام، لكنّها بقيت ثابتةً على خدمتها وعلى ثقتها التّامّة بالله حافظها. إنّها مدرسة في الرّجاء بأنّ الألم ينتفي حيث يحلّ الرّبّ، فكيف تتألّم هي وقد حفظها الله من الموت قبلًا؟ هذا الإيمان العظيم نجد ثماره في رقادها أيضًا، حيث حفظها ابنها من فساد الموت، مكرّمًا إيّاها.  

حتّى في عرس قانا الجليل، لم تتسلّط مريم على ابنها كأمّ عاديّة تأمر أولادها بطاعتها، بل تواضعت وصمتت. لم تتكبّر لأنّ ابنها، ثمرة أحشائها، يستطيع صنع العجائب. هذا ما نسمعه في نصّ رسالة اليوم الّتي يقول فيها الرّسول بولس: "إنّكم بالنّعمة مخلّصون بواسطة الإيمان، وذلك ليس منكم إنّما هو عطيّة الله، وليس من الأعمال لئلّا يفتخر أحد، لأنّا نحن صنعه مخلوقين في المسيح يسوع للأعمال الصّالحة الّتي سبق الله فأعدّها لنسلك فيها".  

على كلّ إنسان مسيحيّ أن يكون واعيًا أنّ كلّ ما يحصل عليه من نعم ما هو إلّا من عطايا الله غير المحدودة. الإمتحان الأكبر الّذي يمرّ به البشر هو أن يبقوا أوفياء للمعطي، عبر مشاركة العطايا مع إخوتهم البشر، الأمر الّذي لا يفهمه الأنانيّون والمتكبّرون الّذين يجمعون ولا يشبعون، ناسين أنّهم في لحظة، في طرفة عين، سينتقلون إلى حياة أخرى عادلة، حيث سينالون جزاءهم.

يا أحبّة، نأسف أنّ الأنانيّة تتحكّم بنفوس ذوي السّلطة في بلدنا. يسعون إلى توسيع أهرائهم ليخزّنوا فيها ما جنوه وسيجنونه، بدلًا من تحمّل مسؤوليّاتهم ومساعدة المواطنين على العيش الهانئ الكريم. المهمّ لديهم أنّ مصالحهم مصانة وأنّهم يأكلون ويشربون ويعلّمون أبناءهم في الخارج، فيما يئنّ المواطنون وأبناءهم ساعين وراء رزقهم بعرق الجبين والقهر. حتّى متى يتناسى هؤلاء أنّ الرّبّ هو المالك الحقيقيّ لكلّ ما لديهم؟ إلى متى ينسون أنّ الموت يأتي على غفلة، فيتركون ما جنوه في هذه الأرض عليها، ويرحلون فارغي اليدين؟ أما آن الأوان للعمل الجدّيّ، للتّخلّي عن الأنانيّات والمصالح الشّخصيّة والأحقاد، والنّظر بعين الرّأفة إلى شعب خارت قواه سعيًا وراء فتات يسدّ بها جوعه. إسمعوا صوت الرّبّ بواسطة صرخة الضّمير. قوموا بواجباتكم. إنتخبوا رئيسًا، شكّلوا حكومةً، أصلحوا المؤسّسات، أعيدوا الحياة للقضاء والعدالة للنّاس، أنيروا حياتهم بالكهرباء الغائبة وبنور الأعمال الصّالحة. ما يهمّ النّاس هو المستقبل، لذلك يجب تخطّي الماضي وأحقاده، والتّطلّع الى طريقة للخروج من المأزق. مراجعة الماضي ضروريّة لأخذ العبر، وعدم تكرار الأخطاء. لكنّ الإبطاء في التّقدّم ليس من مصلحة أحد. فإلى تدنّي الأداء السّياسيّ نشهد تدنّيًا في الأخلاق وجرائم وسرقات لم تنج منها حتّى أسلاك الكهرباء وأغطية المجاري الصّحّيّة الّتي أصبحت مصيدةً للعابرين. لن تستقيم الأمور إلّا بتكوين عناصر الدّولة أيّ رئيس وحكومة وإدارة وقضاء، لتصبح فاعلةً، تحكم وتحاسب وتعاقب.  

دعوتنا اليوم أن نتعلّم الدّرس الّذي أرادنا المسيح أن نحفظه قبل فوات الأوان. دعوتنا أن نتعلّم من مدرسة العذراء القدّيسة كيف نعيش التّواضع والمحبّة والرّأفة والتّخلّي عن الأنا، فنتبارك وتتبارك جميع الخليقة، آمين."