لبنان
15 آذار 2021, 06:55

عوده للمسؤولين: وضع البلد مأساويّ وأنتم تتفرّجون كنيرون عليه يحترق

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، جدّد خلاله دعوته للمسؤولين في لبنان إلى نسيان مصالحهم وطموحاتهم ولو مرّة، والاجتماع والتّحاور حتّى الوصول إلى تشكيل حكومة تكون الخطوة الأولى في طريق الإنقاذ، وتطبيق الدّستور بحذافيره، محذّرًا من أن يفتّش الشّعب عن الحلّ في أيّ مكان آخر، فقال:

"تتذكّر كنيستنا المقدّسة اليوم كيف طرد آدم من الفردوس بسبب معصيته وعدم اتّباعه وصيّة الرّبّ. ننطلق من هذا الحدث لنبحر في الرّحلة الخمسينيّة المؤدّية إلى القيامة المجيدة، الّتي بها خلّص آدم الجديد، الرّبّ يسوع المسيح، آدم الأوّل السّاقط وكلّ ذريّته، وأعادهم إلى الفردوس الّذي فقدوه بسبب الخطيئة. بالخطيئة، تعرّى آدم من لباس المجد، فجاء ابن البشر ليلبسه الحلّة الأولى، كما سمعنا في مثل الإبن الشّاطر. نسمع في رسالة اليوم: إنّ خلاصنا الآن أقرب ممّا كان حين آمنّا. قد تناهى اللّيل واقترب النّهار، فلندع عنّا أعمال الظّلمة ونلبس أسلحة النّور؛ لنسلك سلوكًا لائقًا كما في النّهار، لا بالقصوف والسّكر، ولا بالمضاجع والعهر، ولا بالخصام والحسد، بل البسوا الرّبّ يسوع المسيح ولا تهتمّوا بأجسادكم لقضاء شهواتها. يدعونا الرّسول بولس إلى خلع لباس الشّهوات والخطايا، ولبس المسيح حتّى نحصل على الخلاص، لأنّنا إن تمسّكنا بخطايانا، نقضي على نفوسنا، مثلما فعل آدم قديمًا.

آدم الأوّل سقط، ونحن نسقط كلّ يوم. السّقوط هو اقتراف خطيئة، تنفيذ عمل يتعارض مع المشيئة الإلهيّة، رغم معارضة الله لهذا العمل، ومنع الضّمير القيام به. السّبب الرّئيسيّ للسّقوط هو حرّيّة النّفس ووعيها، واختيارها الحرّ في أن تخضع للأفكار القتّالة الّتي تهاجمها فتترجمها أفعالاً سيّئة. إذا سقط الإنسان وتاب فليشكر الرّبّ المتحنّن الّذي قبله مجدّدًا بنعمته الإلهيّة ورحمته. إلّا أنّ هناك خطرًا يتربّص بالإنسان، إذ يستغلّ الشّيطان الغاش رحمة الرّبّ، ليضلّ الإنسان ويهلكه ويوقعه في سقطات جديدة. يقنع الشّيطان الإنسان بأنّ الله رحيم، وكما قبله مرّة بعد أن تاب، يمكنه أن يسقط مرارًا والله سيقبله برحمته. طبعًا، رحمة الرّبّ لا تقاس، لكن السّقطات المتعاقبة تقود النّفس إلى إدمان الخطيئة والقسوة وفقدان الفضائل. هكذا، يوصلنا الشّيطان إلى درجة السّقوط في الخطيئة من دون توبة، فلا نعود نحزن على خطيئتنا ونتخشّع، فنحرم من الرّحمة الإلهيّة.

غدًا تبدأ رحلتنا الفصحيّة، بصوم خمسينيّ. سمعنا في إنجيل اليوم خريطة طريق للصّوم: أمّا أنت فإذا صمت، فادهن رأسك، واغسل وجهك، لئلّا تظهر للنّاس صائمًا، بل لأبيك الّذي في الخفية، وأبوك الّذي يرى في الخفية يجازيك علانيّة. أيضًا يخبرنا إنجيل اليوم أنًه علينا أن نغفر للنّاس كما يغفر لنا الرّبّ، وأن نكنز كنوزًا في السّماء لا على الأرض. ليست الأصوام في الكنيسة مجالاً للفخر والتّباهي، على حسب ما فعل الفرّيسيّ المتكبّر الّذي رجع إلى بيته غير مبرّر. الصّوم دعوة إلى الانسحاق والتّواضع والمحبّة والتّعالي عن كلّ مادّيّات الأرض وشهواتها. نحن نصوم لكي نلبس الإنسان الجديد، لذلك كانت المعموديّات تتمّ في سبت النّور، بعد الصّوم وقبل الفصح. الصّوم الكبير طريق إلى قيامتين: قيامة المسيح، وقيامتنا من موت الخطيئة إلى الحياة مع المسيح القائم.

الإنسان الّذي جاع قديمًا إلى العظمة فأكل من الثّمرة المحرّمة وسقط، يصوم اليوم لأنذه يجوع إلى لقاء الرّبّ القائم وإلى نعمه الإلهيّة. الأكل أوصل الإنسان إلى الهلاك، واليوم الصّوم يوصله إلى القيامة، شرط أن يقترن بالتّوبة والمحبّة وأعمال الرّحمة. كثيرون لا يأكلون اللّحوم أو المنتجات الحيوانيّة طيلة حياتهم، لكن هذا ليس صومًا إن كان هدفه الرّغبة في المحافظة على الجسد سليمًا. الصّوم الحقيقيّ هدفه الشّعور مع جوع الآخر، وهذا يدفعنا إلى مساعدته كي يشبع. إن لم يشعر الإنسان بالآخر فباطل صومه، لأنّه يكون فقط كمن يبرّر نفسه فرّيسيًّا أمام الله. من هنا، نقدّم صومنا هذا، لكي يترأّف الرّبّ على شعبه، ويبعد عنه الأوبئة وكلّ الشّرور. كما ندعو المسؤولين إلى تجربة خبرة الصّوم والانقطاع عن المواد الأساسيّة، وخبرة عدم وجود الكهرباء والمولّدات في بيوتهم، وعدم القدرة على الذّهاب إلى المستشفيات في حال مرضهم، علّهم يشعرون بجزء بسيط ممّا يشعر به الشّعب. مسؤولونا صوّموا الشّعب عنوة وجوّعوه، وهذا يدعى إرهابًا وإجرامًا. الصّوم عمل اختياريّ وحرّ، أمّا التّجويع فقتل. أنتم تأكلون وتشبعون. ماذا عن المواطن؟ ما ذنب الأطفال الرّضّع الّذين يبحث أهلهم عن الحليب لإطعامهم فلا يجدون؟ ما ذنب الأولاد الّذين يعجز أهلهم عن تأمين غذاء متكامل لهم لكي يكبروا ويصبحوا المستقبل الواعد لهذا الوطن؟ ما ذنب كبار السّنّ الّذين يحتاجون إلى الغذاء الصّحّيّ لكي يبقوا على قيد الحياة؟ العالم منشغل بالابتكارات العلميّة والتّكنولوجيّة ويبحث في قضايا متطوّرة، أما نحن، في لبنان، فنبحث عن الغذاء الّذي هو حقّ للجميع، ولا نزال نطالب بالكهرباء الّتي أصبحت من الأمور البديهيّة في بلدان العالم.

متى يستعيد إنسان بلادي إنسانيّته من يد مسؤولين غير مسؤولين؟ متى تعود الكرامة لتكلّل رؤوس أطفالنا وشبابنا وشيوخنا؟ هل الشّعب عدوّ السّياسيّين والمسؤولين؟ لامبالاة السّياسيّين، المنفصلين عن الواقع الّذي يعيشه الشّعب، تستدعي هذا السّؤال. فمنذ 17 تشرين وحتّى الأسبوع الماضي، حين عمّت الاحتجاجات لبنان من أقصاه إلى أقصاه، لم نشهد خطوة عمليّة واحدة تخفّف عن كاهل الشّعب المعاناة، أو مبادرة جدّيّة واحدة تخرجنا من المأساة.

أخبرنا رئيس الحكومة المستقيل أنّ لا حلّ للأزمة الاجتماعيّة من دون حلّ الأزمة الماليّة، ولا حلّ للأزمة الماليّة من دون استئناف المفاوضات مع صندوق النّقد، ولا مفاوضات دون إصلاحات. كلام منطقيّ ولكن هل بذلت الحكومة جهدًا من أجل القيام بكلّ هذا؟ أليست هذه مسؤوليّتها؟ لكنّها لم تقم بالإصلاحات المطلوبة ولا تصرّفت بجدّيّة واستقلاليّة، بل كانت معظم قراراتها تتناسب مع الوصاية السّياسيّة الّتي جاءت بها، فبلغ الانهيار في عهدها أوجه، والدّولار أفلت من كلّ الضّوابط. أملنا ألّا تستخدم القوى السّياسيّة والحزبيّة التّحرّكات الشّعبيّة من أجل إثبات حضورها، بغية المضيّ في تقاسم المكاسب. كما نأمل ألّا يصغي الشّعب إلى هؤلاء ويصدّق ادّعاءاتهم وقد خبرهم طويلاً وكشف ألاعيبهم. فمن أجل وقف الانهيار الماليّ والاقتصاديّ والسّياسيّ، نحن بحاجة إلى حكومة تقوم بالإصلاحات اللّازمة من أجل استقطاب المساعدات، وتعمل على إعادة تكوين المؤسّسات المفكّكة والإدارات المهترئة، بغية وقف انهيار ما تبقّى من مقوّمات الدّولة والمجتمع. هنا لا بدّ من توجيه تحيّة إلى قائد جيشنا الوطنيّ الّذي يدرك معاناة الشّعب، وقد رفض تدخّل السّياسيّين في شؤون المؤسّسة العسكريّة، وجعل الجيش مطواعًا لهم، أو وضع عناصره الّذين هم من الشّعب في وجه الشّعب.

الجيش هو الحامي الوحيد للوطن، وولاؤه للوطن وحده، فلا تقحموه في نزاعاتكم. الجيش جزء من الشّعب وهو يعاني مثله فلا تضعوه مقابل الشّعب، وحافظوا على هذه المؤسّسة الوطنيّة الّتي هي ضمانة الوطن. إعملوا على حماية هيبتها ووحدتها واستمراريّتها، كما طالبناكم سابقًا برفع يدكم عن القضاء وحماية حرّيّته واستقلاليّته، لأنّ هاتين المؤسّستين هما آخر ما تبقّى لنا في هذه الدّولة المفكّكة المسلوبة الإرادة، المطلوب تحريرها من كلّ نير وتدخّل خارجيّ لأنّ الخارج، كائنًا من كان، يعمل لمصالحه، لذلك علينا نحن ألّا نعمل إلّا لمصلحة وطننا وأن نكفّ كلّ يد إلّا يد المؤسّسات الشّرعيّة. أيّ بلد يمكنه أن يستمرّ بلا حكومة تدير شؤونه؟ أيّ بلد صغير كلبنان، محدود الإمكانات، يسكت عن تهريب السّلع المدعومة من مال الشّعب، والمواطن الفقير لا يجد المواد الضّروريّة لبقائه على قيد الحياة؟ ماذا ننتظر لضبط المعابر ووقف التّهريب والمحافظة على أموال النّاس؟ ما هو الثّمن الّذي يجب أن يدفعه الشّعب بعد، لكي تفكّوا أسر الحكومة ولكي يتحمّل كلّ مسؤول مسؤوليّته؟ هل تريدونه أن يتوسّل إليكم، وهو مصدر سلطتكم؟ وضع البلد مأساويّ وأنتم تتفرّجون كنيرون على البلد يحترق. أنسوا مصالحكم وطموحاتكم ولو مرّة، واجتمعوا وتحاوروا حتّى الوصول إلى تشكيل حكومة تكون الخطوة الأولى في طريق الإنقاذ، وطبّقوا الدّستور بحذافيره، وإلّا فشعبكم سيفتّش عن الحلّ في أيّ مكان آخر.

دعاؤنا أن يتقبّل الرّبّ صومنا، وصلواتنا، ويجعلنا أهلاً للاشتراك في فصحه السّرّيّ. بارككم الرّبّ، وبارك بلدنا وشعبه، ومن عليه بمسؤولين واعين ينتشلونه من هوّة اليأس العميق الّذي وصل إليه".