لبنان
28 تشرين الثاني 2022, 06:55

عوده للمسؤولين: أفيقوا من سكرتكم توبوا علّكم تصلحون ما أفسدتموه

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ، أمس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، تقيم كنيستنا المقدّسة اليوم تذكار القدّيس الشّهيد يعقوب الفارسيّ المقطّع. تعلّم يعقوب الكثير من علوم عصره، وكان دمثًا وغيورًا على خدمة النّاس ووديعًا. ربطته صداقة بالملك الفارسيّ الّذي أغدق عليه شتّى الامتيازات، فأصبح يعقوب عشيرًا لأهل القصر، وكانت غالبيّة مجالسه مع كبار القوم. أثّر كلّ ذلك في وجدانه فسكر بالمقامات والأمجاد العالميّة. كانت المسيحيّة آنذاك في بلاد فارس مرذولةً ومضطهدةً، وإذ كان على يعقوب أن يختار بين إيمانه بالرّبّ يسوع المسيح وبين أن يبقى مفضّلًا لدى الملك، إختار إمتيازات هذا الدّهر وأمجاده، وصار شريكًا في عبادة الأوثان.

عندما علم المسيحيّون بخبر سقوط يعقوب صعقوا، لاسيّما أنّ يعقوب هو أحد أعمدتهم. أمّا والدة يعقوب وزوجته فبلّغتاه أنّهما ستقطعان كلّ علاقةٍ به لأنّه آثر مجدًا زائلًا على محبّة الرّبّ ووعد الحياة الأبديّة. أرسلت المرأتان رسالةً إلى يعقوب تقولان له فيها: "عار على من هو مثلك، رفيع الحسب والنّسب والإيمان، أن يسقط في جبّ الضّلال العالميّ طمعًا بأمجادٍ تافهةٍ مزيّفة. مؤسف جدًّا أن تؤثر الملك الأرضيّ على ملك الملوك وربّ الأرباب... إنّنا ننوح من القلب ودموعنا تتساقط حزنًا على صنيعك. لكنّنا نضرع إلى الرّبّ أن يفتح عينيك المغمضتين ويلقي بنوره الإلهيّ في صدرك كي تعود عن غيّك وضلالك... جرّب أن تدرك الخطيئة العظيمة الّتي وقعت فيها. فكّر في أنّك كنت ابنًا للنّور فأصبحت ابنًا لجهنّم. لا تفوّت فرصة خلاصك، ولا تؤجّل عمل التّوبة. مدّ إلى العليّ يد التّضرّع والانسحاق. عد إلى رشدك وصوابك فيعود فرحنا بك، ولا تنس أنّ إصرارك على ما أنت فيه سيجعل بينك وبيننا قطيعةً".

عندما وصلته الرّسالة، أفاق يعقوب من خطيئته وبكى بكاءً مرًّا. أصبح همّه أن يمحو خيانته لربّه، مهما كان الثّمن، ولو دمه. لذلك، جاهر بإيمانه بالرّبّ يسوع ونبذ الأوثان، فبلغ خبره الملك نفسه، الّذي استدعاه وسأله عن الحقيقة، فاعترف ولم ينكر. في البدء لم يصدّقه الملك، ثمّ حاول إغراءه بالمناصب والمال والأمجاد، لكنّ يعقوب أصرّ ولم يبال. خرج الملك عن طوره وأسلمه إلى العذابات. لمّا أتت ساعته، حزن النّاس وبكوا، فقال لهم يعقوب: "لا تبكوا عليّ أيّها البائسون، بل على أنفسكم وشهواتكم وملذّاتكم. سأتوجّع قليلًا، ثمّ ينتهي كلّ شيء. أمّا أنتم فمصيركم هنا غير مضمون". عندما بدأ الجلّادون بتنفيذ الحكم قطعوا أطرافه، وإذ كان يعقوب في آلامٍ عظيمةٍ صرخ: "أغثني يا ربّ"، فظلّلته قوّة إلهيّة جعلته غريبًا عن الألم، وأخيرًا قطع رأسه فأسلم الرّوح.

يا أحبّة، نحن نعيش اليوم في عالمٍ مليءٍ بمن سكروا بالسّلطة والمجد الباطلين، فباعوا الضّمير والأخلاق والقيم. نأسف أنّ بعض المسيحيّين أصبحوا ذوي إيمانٍ هشٍّ، ينكسر أمام منصبٍ أو مصلحةٍ أو حفنةٍ من المال. كذلك نسمع عن أولئك الّذين يظهرون على وسائل التّواصل بمظاهر الخلاعة والبشاعة فقط من أجل جني المكاسب الزّائلة. حتّى إنّهم يسخرون من والديهم ويحقّرونهم من أجل المغانم، وبعض الأهل يشجّعون أولادهم على هذا لأنّهم سيستفيدون أيضًا. نسمع في إنجيل اليوم تذكيرًا بالوصايا الإلهيّة، ومن بينها: "أكرم أباك وأمّك"، فكيف يكرّم الأبوان اللّذان يشجّعان الأولاد على سلوك طريق الضّلال؟ كم ينقصنا أهل وزوجات مثل والدة القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع وزوجته، اللّتين لم ترضيا بسلوكه في الشّرّ، فأنّبتاه ليعود إلى الرّبّ. دور الأهل جوهريّ في تنشئة الأولاد الّذين هم بناة المستقبل وصنّاع تاريخ الأوطان. الرّخاوة في التّربية هي الّتي أوصلت الأبناء إلى التّمسّك بمفهومٍ خاطئٍ عن الحرّيّة، فأصبحوا يقدّسون المال والسّلطة والجسد وكلّ الانحرافات، ويدافعون عن الخطيئة بشراسةٍ، بدلًا من التّمتّع ب"حرّيّة أبناء الله" المقدّسة.

نوع آخر من سوء التّربية، خصوصًا في بلدنا، هو عدم تنشئة الأجيال على المواطنة وحبّ الأرض، ما أوصل بلادنا إلى أن تصبح محكومةً من ثلّةٍ لا تأبه لا بالوطن ولا بأبنائه، وجلّ اهتمامها المناصب والمراكز والمصالح ولو على حساب البلد والشّعب. ما همّ إن تعطّل البلد أو توقفت الإدارات عن العمل والإنتاج، أو ساءت حالة المواطنين أو احترقت الغابات أو نحرت بطون الجبال. المهمّ الوصول وملء الجيوب. لهذا نسمع الرّبّ قائلًا في إنجيل اليوم: "ما أعسر على ذوي الأموال أن يدخلوا ملكوت الله".  

لقد مرّ عيد الاستقلال هذا العام حزينًا، فلا رئيس للبلاد ولا حكومة ولا شعب يحاسب  طبقةً سياسيّةً ممسكةً بالقرار السّياسيّ منذ زمنٍ طويلٍ، ومعطّلةً للإصلاح، ومعرقلةً للقضاء، ومانعةً أيّة مساءلةٍ ومحاسبة، والفراغ بالنّسبة إليها أفضل من إيجاد حلولٍ، ومن المجيء برئيسٍ يقود سفينة الوطن، إلى جانب حكومةٍ تعمل على انتشال شعبٍ غارقٍ، يتخبّط بين أمواج جشع المسؤولين وانعدام المسؤوليّة لديهم.

لقد فقد لبنان منذ أيّام، روميو لحّود، أحد رجالات الثّقافة والفنّ والإبداع، الّذي عاش لبنان الماضي الجميل وساهم في تألّقه، ولعلّه رحل في ذكرى الاستقلال قرفًا وألمًا واحتجاجًا على المسرحيّة الهزليّة الّتي تتوالى فصولها أسبوعيًّا، ولا تبدو لها نهاية، لأنّ أبطالها يتجاهلون قواعد النّظام الدّيمقراطيّ، أو يريدونه معلّقًا كما جعلوا الدّستور مغيّبًا. أهي قلّة مسؤوليّةٍ أم قلّة وطنيّة؟ وأيّ وفاقٍ أو اتّفاقٍ يدعون إليه وأيّ توافقٍ يدّعونه وهو تكاذب، وأيّة ديمقراطيّةٍ يتغنّون بها وهم لا يستطيعون انتخاب رئيسٍ إلّا بعد مخاضٍ عسيرٍ ووقتٍ ضائعٍ وتراجعٍ وانحلالٍ وانهيار؟ ألا يعرفون أنّ عليهم أن يعقدوا جلسةً مفتوحةً تتوالى فيها الدّورات الانتخابيّة ويتنافس المرشّحون بوضوحٍ فيختار النّوّاب من يشاؤون والرّابح يكون رئيس البلاد؟ أمّا بدعة التّعطيل فهي جريمة بحقّ الوطن وبحقّ النّاخب الّذي أوصل النّائب للقيام بواجبه، فلا سلطة استنسابيّة للنّائب من أجل القيام بواجبه الدّستوريّ وإلّا فهو يخون ثقة الشّعب ويضرب مصلحته. حالة البلد مأساويّة والنّوّاب يتلهّون ويقاطعون ويعطّلون النّصاب ويمنعون انتخاب رئيس. وبعضهم لا يخجل من الإعتراف أنّ للخارج كلمته في هذا الأمر الوطنيّ الّذي يخصّ الدّاخل. هل تنقصنا القدرة والكفاءة لندير أمورنا بأنفسنا ونقطع الطّريق على أيّ تدخّلٍ، أم أنّ التّدخّلات الخارجيّة تناسب المصالح؟  

سمعنا في نصّ رسالة اليوم: "حجر الزّاوية هو يسوع المسيح نفسه، الّذي به ينسّق البنيان كلّه فينمو هيكلًا مقدّسًا في الرّبّ". لقد نسي المسؤولون أنّهم ليسوا حجارة الزّاوية، وأنّ البلد لا يبنى عليهم ولا من أجلهم، إنّما هم مجرّد عمّالٍ في حقل الوطن، يكدّون ويفلحون حتّى يزهر من أجل جميع أبنائه. فمتى يحين موعد الفلاحة؟ هل عندما تتصلّب التّربة ولا يعود هناك أيّ مجالٍ للغرس؟ أيّ عندما تزداد الكراهيّة والمسافات بين أبناء الأرض الواحدة أم عندما يفرغ البلد من أبنائه؟ أفيقوا من سكرتكم كما استفاق القدّيس يعقوب الفارسيّ من سكرة خطاياه، وتوبوا علّكم تصلحون ما أفسدتموه.

دعوتنا اليوم أن ننتزع كلّ الخطايا من نفوسنا، وأن نتطهّر بدموع التّوبة الحارّة، حتّى نستأهل الخلاص الآتي نحونا بميلاد ربّ المجد، آمين".