لبنان
14 حزيران 2021, 05:55

عوده للمسؤولين: أتركونا نعيش بسلام وكرامة وارحموا هذا البلد وشعبه!

تيلي لوميار/ نورسات
مرّة جديدة أعلى متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده الصّوت، خلال قدّاس الأحد من كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- بيروت، من أجل إنقاذ لبنان وشعبه.

وفي تفاصيل العظة، قال عوده بعد الإنجيل المقدّس:

"أحبّائي، منذ أيّام ودّعنا الفصح المجيد المقدّس، وعيّدنا لصعود ربّنا وإلهنا ومخلّصنا يسوع المسيح إلى السّماوات، وجلوسه عن يمين الله الآب.

إنّ صعود المسيح إلى السّماوات يأتي مكمّلًا للعمل الخلاصيّ، الّذي أراد به الله أن يرفعنا من الهاوية الّتي سقطنا فيها بسبب خطايانا وشهواتنا، ويعيدنا إلى المجد الأبويّ. لذلك رفع جسدنا الّذي أخذه، وأجلسه عن يمين الله الآب، في فردوس النّعيم. هنا تكمن مسؤوليّتنا العظمى، في بقائنا ضمن هالة المجد هذه من خلال التّوبة ونبذ الأنا، أو الخروج من هذه الهالة والعودة إلى حياة الخطيئة بحرّيّة وإرادة شخصيّة. صعود الرّبّ هيّأ لنا المصعد إلى السّماء، فهل نسمو أم نختار البقاء في شقائنا البشريّ والمادّيّ؟

ولكي نعرف الطّريق الصّحيح نحو الملكوت السّماويّ، ألهم الرّبّ الآباء القدّيسين الّذين نعيّد لهم عدّة مرّات سنويًّا لكي يرسموا لنا درب القداسة ويعلّمونا بحياتهم كيف نقرن الإيمان بالأعمال. اليوم أحد تذكاراتهم، ونعيّد فيه للآباء الثّلاثمئة والثّمانية عشر المجتمعين في المجمع المسكونيّ الأوّل، في مدينة نيقية. سبب تحديد هذا العيد، هو أنّ آباء المجمع الأوّل، حدّدوا الإيمان الّذي أعلنه عيد الصّعود، كعقيدة في الكنيسة. فالأعياد الكنسيّة، خصوصًا السّيّديّة منها، أيّ المختصّة بالرّبّ يسوع، ليست مجرّد تذكّر بسيط لحدث معيّن، بل تحمل مضمونًا لاهوتيًّا عميقًا، لذلك يكون الاحتفال الواعي بها اعترافًا إيمانيًّا.

تعترف الكنيسة، في عيد الصّعود، بأنّ ابن الله المتّحد بالجسد البشريّ، بعد أن أتمّ كلّ تدبير بشكل لا يوصف، وأتمّ على الأرض كلّ مهمّة زوّده بها الآب، عاد إلى العرش الأبويّ. فهو المساوي للآب في الكرامة، والإله الحقّ الّذي، بفضل ألوهته، أصبحت طبيعتنا متألّهةً، بإجلاسه إيّاها على عرش الثّالوث القدّوس. مع الوقت، بدأت الآراء اللّاهوتيّة تظهر إلى العلن، منها ما كان مستقيمًا، ومنها ما كان مصابًا بسمّ الهرطقة. أبرز هراطقة ذاك الزّمن كان المدعوّ آريوس، الّذي قال إنّ ابن الله مخلوق. لذا، اجتمع آباء المجمع المسكونيّ الأوّل، الّذين نعيّد لهم اليوم، وأقرّوا بإيمان الكنيسة القائل بأنّ ابن الله مساو للآب في الجوهر. فلو لم يكن إلهًا حقيقيًّا، لتعذّر القول إنّ الإنسان "على صورة الله"، لأنّ هذا الكلام مرادف لتألّه الإنسان، على حسب ما قال القدّيس أثناسيوس الكبير: "هو تأنّس ليؤلّهنا نحن". الإيمان بأنّ يسوع المسيح إله وإنسان هو شرط لخلاصنا. لذا، فإنّ إنجيل اليوم، الّذي هو جزء من صلاة الرّبّ يسوع الكهنوتيّة، يدلّنا على بعض الحقائق الهامّة لإيمان صحيح بما يختصّ بشخص المسيح.

أتى المسيح إلى العالم ليعطي الإنسان الفاني الحياة الأبديّة. والحياة الأبديّة هي "أن يعرفوك أنت الإله الحقيقيّ وحدك ويسوع المسيح الّذي أرسلته" (يو 17: 3). الرّبّ يسوع، في صلاته، علّم تلاميذه أنّ الحياة الأبديّة هي معرفة الله الآب، ويسوع المسيح، الإله- الإنسان. لقد علّمنا الآباء القدّيسون أنّ هذه المعرفة ليست عقليّةً، بل هي ثمرة شركة مع الله. فمن عرف الله كان متّحدًا به. والحياة الأبديّة تمنح لمن يحبّ المسيح ويحفظ وصاياه، ويحاول أن يعيش في هذا العالم مثلما عاش المسيح أثناء حضوره على الأرض. يجب أن توجّه محبّة المسيح تصرّف الإنسان وسلوكه في هذا العالم، وبما أنّ محبّة المسيح تضحية في سبيل أن يعيش الآخر الحياة الحقيقيّة، هكذا على محبّة الإنسان لإخوته البشر أن تكون، عندئذ يكون صورةً حيّةً للمسيح وسط عالمنا المظلم. المسيحيّة ليست خطابات رنّانةً عن حقوق المسيحيّين، أو تجييشًا طائفيًّا ومذهبيًّا للمسيحيّ ضدّ أخيه الإنسان، إنّما هي محبّة تتجلّى بإفراغ الذّات، مثلما فعل يوحنّا المعمدان الّذي كان ينقص ليزيد المسيح. حبّذا لو تنتفي الخطابات، ويبدأ عهد الأفعال الحقيقيّة، لأنّ من كان كلامه صادقًا، يقرنه بالأفعال الّتي تجسّد القول على شكل أفعال محبّة. لقد تنازل المسيح وتجسّد وتألّم ومات، من أجل أن يقيمنا ويصعدنا معه إلى السّماوات، ويجلسنا عن يمين أبيه. لم يعلّم المسيح بالأقوال فقط، فهل من يتعلّم منه؟

يا أحبّة، إنّ دستور الإيمان الّذي سنتلوه بعد قليل، وضعه آباء المجمعين المسكونيّين الأوّل (325) والثّاني (381)، وقد جاء ردًّا على الهرطقات الّتي حامت حول المجتمع المسيحيّ وإيمانه، خصوصًا في ما يتعلّق بشخص ابن الله، يسوع المسيح، وبالرّوح القدس، ومساواة الأقانيم الثّلاثة في الجوهر. لقد جاء عمل آباء الكنيسة على مرّ العصور متكاملًا، لذلك حدّدوا الإيمان والعقائد وسلّموها لنا "تسليمًا جليًّا" على حسب ما سمعنا في تراتيل صلاة سحر اليوم. الكنيسة، منذ نشأتها، تعمل بتكامل، سعيًا إلى الكمال بيسوع المسيح. على عكس العالم، وحكّام العالم، الّذين نسمعهم دائمًا ينتقدون ويخوّنون بعضهم بعضًا، ولهذا السّبب لن يصلوا ببلادهم إلى أيّ برّ أمان. لماذا؟ لأنّهم يسعون إلى إبراز أنفسهم كاملين، خالين من العيوب، قائمين بواجبهم، فيما هم يعملون لمصالحهم ومكاسبهم. مرض الأنا تجذّر بحكّامنا. لو تكاتف مسؤولونا، المسيحيّون منهم قبل سواهم، لكان بلدنا رائدًا في شتّى المجالات. المطلوب يد واحدة تعمل للخير العامّ، وهكذا يصل الكلّ، مسؤولون ومواطنون، إلى جمهوريّة فاضلة هدفها كرامة الإنسان أوّلًا. ألا يزعج أحدًا مشهد الذّلّ المتنقّل في كلّ مكان؟ عند محطّات المحروقات، في الأفران والصّيدليّات والسّوبرماركت؟ لقد وصل اليأس بالشّعب إلى حدّ القرف. الهراطقة اعتمدوا قديمًا على جهل النّاس بالإيمان، فقاموا ببثّ سمومهم، إلى أن جاء الآباء القدّيسون وثقّفوا الشّعب إيمانيًّا، عندئذ استتبّت الأوضاع في الكنيسة. اليوم، لدينا من يسمّم حياة الشّعب، ونحن بحاجة إلى من يرفع الظّلم عنهم ويبثّ فيهم روح التّفاؤل والأمل لئلّا يضيع النّاس وقد ضاع البلد. لذا أدعو المسؤولين إلى التّجوّل في شوارع العاصمة ليلمسوا حقيقة ما وصل إليه اللّبنانيّون من تعاسة وضيق وقرف. طوابير السّيارات حول المحطّات، المرضى يستعطون الدّواء، مرضى غسيل الكلى مهدّدون بالموت، الأطبّاء يستغيثون، المستشفيات مهدّدة بالإغلاق، ونحن على أبواب كارثة صحّيّة، وفي المقابل هناك من لا سيّارة لديه، ولا سقف،  ولا قيمة لصحّته لأنّه يفتّش في القمامة على ما يسدّ به رمقه.

فخامة الرّئيس، أستحلفك بأحفادك الّذين ترى الحياة في عيونهم أن انزل إلى الشّارع واستمع إلى شعبك وعاين الذّلّ الّذي يعيشه. هل تقبل أن يموت إنسان جوعًا أو مرضًا في عهدك؟ هل تقبل أن يعاني طفل في عهدك؟ هل تقبل أن يهان مواطن في عهدك؟ هل تقبل أن يضمحلّ لبنان في عهدك؟

الدّعوة نفسها موجّهة إلى رئيس الحكومة المستقيل منذ أشهر طويلة ولم يقم مع حكومته بأدنى واجبات الحكومة، ولم ينفطر قلبه وجعًا على حال اللّبنانيّين، وإلى الرّئيس المكلّف المطلوب منه التّعالي عن الأحقاد والخصومات، والإسراع في تأليف الحكومة رحمةً بالوطن والمواطنين، وإلى رئيس مجلس النّوّاب ونوّاب الأمّة ربّما يدركون حجم الكارثة.

ولجميع المسؤولين والزّعماء نقول بإسم الشّعب: إذا أردتم أن تتقاتلوا أو تتنازعوا وتتشاتموا فأنتم أحرار، إنّما قوموا بذلك بعيدًا عن حياتنا ومستقبل أولادنا، واتركونا نعيش بسلام وكرامة. وإلّا تناسوا خصوماتكم وادفنوا أحقادكم وقوموا بواجبكم. ألا يستحقّ لبنان تنازلًا وتضحية؟ هل بسبب وزير أو حقيبة يدمّر وطن وينحر شعب؟ هل تقبلون أن يموت عزيز عليكم جوعًا أو مرضًا أو يأسًا وأنتم تتقاتلون على ملك زائل؟ كفى اغتيال لهذا البلد الجميل ولهذا الشّعب العزيز. كفى جشع وكبرياء وتعنّت. إرحموا هذا البلد وشعبه.

عندما نسمع أنّ نائبًا في البرلمان البريطانيّ استقال لأنّه تأخّر عن موعد الاجتماع، وأنّ وزير الصّحّة في الأردنّ استقال بسبب وفاة أشخاص جرّاء نقص الأوكسجين، أخجل من حكّام يصيب بلدهم ما أصاب لبنان وهم لم يتنحّوا خجلًا واعتذارًا من الشّعب، بل لم يحرّكوا ساكنًا لتحسين الوضع ووقف الاستنزاف.

ربّنا يسوع المسيح دفع دمه الثّمين لإنقاذ الإنسان الخاطئ، وعبيده على الأرض لا يضحّون بمكتسباتهم ومصالحهم من أجل إنقاذ بلدهم. ألا يفكّرون بأولادهم وأحفادهم الّذين سيعيشون في لبنان؟ أم أنّ بلدًا آخر يحملون جنسيّته سيأويهم ويحفظ كرامتهم؟ لكنّ حكم التّاريخ بالمرصاد وعدالة السّماء أيضًا.

ملاحظة أخيرة، أين الدّولة من قرار فرديّ لرئيس حزب يلزم الدّولة كلّها، وماذا تفعل الدّولة إذا قرّر كلّ رئيس حزب التّفرّد بقراراته والتّطاول على هيبة الدّولة؟ ألم يحن الوقت بعد لتحزم الدّولة أمرها وتستعيد قرارها وتفرض هيبتها على الجميع؟

دعوتنا اليوم أن نبقى على إيماننا، راسخين على الصّخرة يسوع المسيح، وألّا نيأس أو ننجرّ وراء من يريدنا أن نيأس ونفرغ بلدنا. المسيحيّ كان دائمًا ينبوعًا للأمل، لأنّ المسيحيّة مؤسّسة على القيامة. فقوموا من موت يأسكم، وعاودوا نشر الأمل، مؤمنين أنّ المسيح قد قام ونحن حتمًا قائمون، آمين."