عوده: لبنان أيضًا بحاجة إلى توبة حقيقيّة
وللمناسبة، ألقى عوده عظة جاء فيها:
"أحبّائي، سمعنا اليوم، في الأحد الّذي يسبق عيد الظّهور الإلهيّ، مقطعًا من الإنجيل بحسب مرقس الإنجيليّ، يعرّفنا على النّبيّ السّابق المجيد يوحنّا المعمدان وعلى طريقة عيشه وعمله. فالمعمدان كان أبرز أنبياء الفترة الّتي سبقت استعلان المسيح أمام الجميع بصوت الآب. كان يوحنّا يعتبر قائدًا قويًّا إذ لم يكن يهاب أحدًا، لكنّه كان يتحلّى بالتّواضع الكبير الّذي جعله يقول: "إنّه يأتي بعدي من هو أقوى منّي وأنا لا أستحقّ أن أنحني وأحلّ سير حذائه. أنا عمّدتكم بالماء وأمّا هو فيعمّدكم بالرّوح القدس". كان النّبيّ يوحنّا يشهد بأنّه جاء ليعدّ الطّريق للمسيح فظهر "صوتًا صارخًا في البرّيّة: أعدّوا طريق الرّبّ".
بعد معموديّة الرّبّ يسوع، كأنّنا أمام لحظة تسلّم وتسليم، ليس من النّبيّ السّابق إلى المسيح الرّبّ وحسب، بل بالأخصّ من العهد القديم إلى عهد النّعمة والفداء، تطبيقًا لما جاء بالنّبيّ القائل: "هاءنذا مرسل ملاكي أمام وجهك يهيّء طريقك قدّامك، صوت صارخ في البرّيّة، أعدّوا طريق الرّبّ واجعلوا سبله قويمة".
لم يفتتح الإنجيليّ مرقس إنجيله بعرض أحداث الميلاد أو نسب المسيح، لكنّه، إذ كان يكتب للرّومانيّين، قدّم المسيح على أنّه ابن اللّه وصاحب سلطان، وقويّ، لأنّ الرّومانيّين كانوا يحبّون القوّة، فعمل مرقس في كلّ إنجيله على إظهار قوّة الرّبّ، وأنّه يعطي قوّةً للمؤمنين به. الإنجيليّ مرقس هو الوحيد الّذي يسمّي كتابه إنجيلًا، أيّ بشارةً سارّةً، إذ يقول في آيته الأولى: "بدء إنجيل يسوع المسيح ابن اللّه" (مر1: 1)، مبشّرًا الوثنيّين بمخلّص يدعى يسوع، وبملك ممسوح قويّ ليس من بني البشر، بل هو ابن اللّه، الإله الوحيد. كذلك يبدأ إنجيل مرقس بمعموديّة الرّبّ يسوع، ويختم بدعوة التّلاميذ لأن يكرزوا، ويبشّروا الأمم، أيّ أن يحملوا إليهم الإنجيل ويعمّدوهم. لقد جاء المسيح وعلّمنا ما يجب علينا القيام به، ثمّ صعد إلى السّماوات بعدما منحنا البنوّة للّه الآب، وهذه البنوّة تنتقل عبر المعموديّة الّتي هي السّرّ الأوّل الّذي يعطى للإنسان المسيحيّ، فيكون مدخلًا إلى سائر الأسرار الّتي أسّسها الرّبّ يسوع من أجل خلاصنا.
يا أحبّة، يستعير الإنجيليّ مرقس من النّبيّ إشعياء قوله: "صوت صارخ في البرّيّة" دلالةً إلى يوحنّا المعمدان الّذي كان يزأر كأسد في برّيّة إسرائيل، حيث أصبح الشّعب قاحلًا وغير مثمر، وكأنّه عاد إلى الصّحراء الّتي تاه فيها أربعين سنةً، وهذا الشّعب لن يثمر إلّا إذا سقي بماء المعموديّة وبدموع التّوبة معًا. ولأنّ الإنجيليّ مرقس يكتب للرّومانيّين، نجده يقدّم المعمدان كسابق للملك المسيح ليعدّ الطّريق أمامه، تمامًا كما كانوا هم يفعلون مع ملوكهم الأرضيّين، إلّا أنّ يوحنّا السّابق كان أسدًا ذا صوت عظيم. فإذا كان المرسل هكذا فكم تكون قوّة الملك الآتي؟!
كذلك، يستعير الإنجيليّ مرقس من النّبيّ ملاخي قول اللّه على لسانه: "هاءنذا أرسل ملاكي فيهيّئ الطّريق أمامي" (3: 1)، لكنّه يغيّر صيغتها قائلًا: "هاءنذا مرسل ملاكي أمام وجهك يهيّى طريقك قدّامك"، وهذا ليس مصادفةً، بل ليظهر أنّ المسيح هو نفسه الإله المتجسّد.
إنّ قوّة معموديّة يوحنّا ليست في ذاتها بل في تهيئتها لمعموديّة المسيح. لهذا يقول يوحنّا للنّاس إنّه سيأتي من سيعمّدهم بالرّوح القدس بدلًا من الماء. فالمعمدان يشبه النّاموس اليهوديّ في وظيفته الّتي هي دفع الإنسان للتّمتّع بالمسيح وقيادة الجميع إليه فقط، لا إلى أيّ مخلوق أرضيّ. يقدّم لنا المعمدان خلاصة العهد القديم الّتي تجلّت عبر عمل الأنبياء جميعًا في دعوة الشّعوب إلى التّوبة واتّباع الرّبّ وتمليكه على حياتهم. كان يخرج إلى يوحنّا جميع أهل اليهوديّة وأورشليم إذ كانت مشاعرهم تتحرّك بسبب كلامه النّاريّ، فيقدّمون توبةً ويعتمدون رمزًا للاغتسال من الخطايا.
دعوتنا اليوم أن نعيد تفعيل معموديّتنا، ونقدّم توبةً لنقوم من موت الخطايا كما قمنا مع المسيح، ونخرج أنقياء من قعر جرن المعموديّة. فمن يقدّم توبةً حقيقيّةً تنفتح عيناه ويعرف المسيح ويؤمن به، ويكون ابنًا حقيقيًّا يسرّ به اللّه الآب.
يا أحبّة، لبنان أيضًا بحاجة إلى توبة حقيقيّة يقدّمها نوّابه وقادته بسبب إهمال واجباتهم تجاهه. اللّبنانيّون ينتظرون بأمل جلسة انتخاب الرّئيس بعد أيّام، ويخشون أن تكون كسابقاتها. أملنا أن يحزم نوّاب الأمّة أمرهم ويتمّموا ما كان يجب أن يتمّموه منذ أكثر من سنتين، ولا يتركوا قاعة المجلس قبل الوصول إلى إعلان اسم الرّئيس المنتخب. نسأل اللّه أن يلهمهم انتخاب رئيس يكون أمينًا للبنان، حاميًا فعليًّا للدّستور، يطبّقه ويمنع تجاوزه، يعمل بوحي إيمانه باللّه وأمانته لوطنه، بتواضع ونزاهة وانفتاح وحزم، على بناء دولة عصريّة عادلة، خالية من الفساد، ويؤسّس لنهج جديد فلا تكون محسوبيّة في عهده ولا استزلام ولا استقواء ولا ظلم، ولا تسويات وصفقات على حساب لبنان، بل القوانين تطبّق على الجميع، والمحاسبة تطال الجميع.
صلاتنا أن يستجيب الرّبّ دعاء اللّبنانيّين. آمين".