لبنان
02 آب 2021, 05:55

عوده: لإنشاء لجنة تحقيق دوليّة للنّظر في أفظع جريمة حصلت في هذا العصر

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ في كنيسة القدّيس نيقولاوس- الأشرفيّة، أقام خلاله جنّازًا لراحة نفوس جميع ضحايا انفجار مرفأ بيروت، شارك فيه مطران جبيل والبترون سلوان وأهالي الضّحايا وفوج الإطفاء وجموع من المصلّين.

بعد الإنجيل المقدّس تلا المتروبوليت الياس عوده العظة التّالية:

«أحبّائي،

نرفع اليوم الصّلاة معًا من أجل راحة نفوس جميع الأحبّة الّذين أودى بهم انفجار 4 آب، هذا الزّلزال الّذي ضرب عاصمتنا، وبشكل خاصّ منطقة الأشرفيّة، وحصد أرواحًا بريئةً، وأصاب الآلاف بجروح جسديّة ونفسيّة عميقة، ودمّر البيوت والمؤسّسات، وقضى على تراث وتاريخ، والأهمّ أنّه قضى على مستقبل عائلات فقدت معيلها أو فجعت بفلذة كبدها أو خسرت سقفًا يحميها وملاذًا تأوي إليه.

الكارثة عظيمة. مئات الضّحايا وآلاف الجرحى والبيوت المنكوبة والمؤسّسات المدمّرة، ولم نعرف حتّى الآن سبب ما حلّ بنا والمسبّبين. شبح الموت ما زال مخيّمًا على بيروت الحبيبة، وأنين المصابين والمتألّمين ما زال يملأ آذاننا، وما زلنا نعيش في غموض مميت. سنة انقضت ولم تكشف الحقيقة. سنة آلام ودموع وغضب مرّت على أهل هذه المنطقة ولم يتوصّل المعنيّون إلى جواب يشفي غليل المصابين، أو يطرد الخوف من قلب طفل يتيم، أو يبرّد حرقة أمّ ثكلى أو أب مفجوع أو عائلة منكوبة. أتراه صدفةً أم عملًا مقصودًا منع ظهور الحقيقة؟ وهل بذل الجهد المطلوب من أجل كشفها؟ أم أنّ العصيّ في الدّواليب تتضاعف كلّما تقدّم التّحقيق واقترب من بعض الحقيقة؟ أليس هذا ما يفضحه تقاعس كلّ من يتهرّب من مساعدة التّحقيق وكشف المعلومات والتّلطّي وراء عراقيل وحصانات هي ساقطة أمام دم الأبرياء وأرواح الضّحايا؟ كيف بإمكان هؤلاء النّظر في عيون من أدمى قلوبهم الانفجار؟ هل فكّروا مرّةً واحدةً لو كانوا مكانهم ما كانت ردّة فعلهم؟ وما كان عليه وضعهم وشعورهم؟ هل فكّر كلّ واحد منهم بما يشعر من فقد أبًا أو أمًّا أو ولدًا أو زوجًا أو رفيقًا؟ وبما يشعر من دمّر بيته أو فقد نظره أو أحد أعضائه؟ وبعد، هل بإمكانه أن يستلّ سيف حصانته ليبعد عنه كأس التّحقيق؟ وهل يتسلّح بمكانته ومركزه وطائفته ليتهرّب من الإدلاء بشهادته؟ هذه الشّهادة الّتي قد تنير التّحقيق وتساعد المحقّق في الوصول إلى الحقيقة؟ وهل مثول المسؤول أمام القاضي بهذه الصّعوبة؟ كيف يواجه الشّعب وهو يخلّ بأبسط واجباته؟ ولو لم يكن لديه ما يخشاه هل يتردّد لحظةً؟

عيب أن يتقاعس إنسان ويتعامى عن واجبه. ألا يحرقكم دم الطّفلة البريئة ألكسندرا؟ ألم يمزّق أحشاءكم رحيل الشّابّ الياس المشبع بالحياة؟ ألا يؤرق مضجعكم سقوط الممرّضات في مستشفى القدّيس جاورجيوس، وغيره من المستشفيات، وهنّ يضمّدن جراح من قد يكون أحد أقربائكم؟ أو سقوط المرضى الّذين جاءوا يتوسّلون الشّفاء فإذا بهم ضحايا عمل آثم لا يد لهم فيه؟ ألا يؤنّب ضمائركم يوميًّا سقوط أبطال فوج الإطفاء الّذين استدعوا ولبّوا النّداء، لكنّهم لم يعودوا لأنّ أشلاءهم اختلطت بركام المرفأ؟ ما ذنب هؤلاء الأبرياء؟ وما ذنب أهلهم؟ وما ذنب كلّ ضحايا هذا الانفجار المجنون؟ أليس من واجبنا جميعًا، مسؤولين ومواطنين، ألّا يهدأ لنا بال قبل أن نعرف بوضوح ما حلّ بعاصمتنا وأبنائها، ولماذا، ومن كان وراء هذه الكارثة المشبوهة؟ ومن أتى بالموادّ القاتلة؟ إعتمادنا على القضاء كبير وأملنا أن يتابع المحقّق عمله بنزاهة وصدق وشجاعة. كما نأمل أن تتضافر الجهود من أجل مساعدته على جلاء الحقيقة. وليتذكّر كلّ قاض أنّه صوت العدالة والضّمير، وهذا الصّوت يكون عاليًا. وإذا لم يتوصّل القضاء اللّبنانيّ إلى قول كلمة العدل بإسم الشّعب اللّبنانيّ، بسبب التّدخّل السّياسيّ وإعاقة التّحقيق، نشجّع الأهالي ونطالب معهم بإنشاء لجنة تحقيق دوليّة للنّظر في أفظع جريمة حصلت في هذا العصر.    

حرام، بل جريمة الاستهانة بأرواح اللّبنانيّين ودمائهم. هؤلاء لم تلدهم أمّهاتهم للموت، واللّبنانيّ لم يبن بيته ليراه ينهار، ونحن لم نشيّد مؤسّساتنا لتكون طعمًا للخراب. إنّ ما قاله فخامة الرّئيس من أنّ "لا أحد فوق العدالة مهما علا شأنه" يجب أن يدفع الجميع إلى الإدلاء بشهاداتهم تسهيلاً للتّحقيق واحترامًا لدماء الضّحايا.

سمعنا في الرّسالة الّتي تليت علينا قول بولس الرّسول "كونوا ماقتين للشّرّ وملتصقين بالخير، محبّين بعضكم بعضًا حبًّا أخويًّا، مبادرين بعضكم بعضًا بالإكرام". أين نحن من مقت الشّرّ ومحبّة بعضنا بعضًا وقد مرّت سنة كاملة ولم نتقدّم خطوةً واحدةً إلى الأمام؟ أين دولة القانون والعدالة والمساواة والحقّ، دولة المواطنة الّتي تحمي المواطن وتعطيه حقوقه كلّها وتفرض عليه القيام بكافّة واجباته؟ نحن بحاجة إلى مواطنين في دولة واحدة، متساوين في الحقوق والواجبات، لا إلى شعوب على أرض واحدة يتناتشون ثروات الدّولة ويسرقون مقدّراتها. لكنّنا ما زلنا نشهد انعدام المسؤوليّة وغياب الأخلاق وموت الضّمير. ما زلنا نسمع بالحصص والحقوق والمكتسبات، أمّا المواطن فليتدبّر أمره. مسكين إبن بلادي، من مات ظلمًا وقهرًا واغتيالًا وتفجيرًا، ومن لم يمت، لكنّه يعاني الألم والحزن والجوع والذّلّ واليأس. وكأنّ البلد متروك على قارعة الأمم لأنّ ذوي القلوب الحجريّة المملوءة حقدًا وثأرًا وكيديّةً ولا مبالاةً يسدّون كلّ نافذة أمل ويصدّون كلّ إمكانيّة مساعدة أو حلّ.

ما حصل في 4 آب لم يستأهل استنفار الدّولة كلّها من أجل كشف الحقيقة، مع أنّ أركان الدّولة وعدوا ليلة الكارثة بعدم تمريرها دون محاسبة. وما يحصل منذ قيام الانتفاضة الشّعبيّة الّتي رفضت الواقع المرير يؤكّد أنّ ما يلزمنا هو تغيير جذريّ في الذّهنيّة وفي ممارسة السّلطة. لم يعد مسموحًا الاستهانة بحياة المواطنين ومستقبلهم. لم يعد مقبولاً تقديم المصلحة الخاصّة على مصلحة المواطنين، وتيئيس الشّعب وتهجيره. أين المصلحة الوطنيّة في كلّ ما نعيش؟ ألا يستحقّ هذا الشّعب الّذي ذاق الأمرّين مسؤولين يعون عظم المسؤوليّة ويعملون بإنسانيّة وأخلاق وتصميم على رسم طريق الخروج من الجحيم الّذي نحن فيه؟ ممارسة السّلطة يجب أن تخضع للأخلاق، وتلتزم القيم والمبادئ الإنسانيّة، وتهدف إلى خدمة الإنسان والمجتمع.

نحن بحاجة إلى مسؤولين يحترمون الدّستور ويطبّقونه بلا استنسابيّة. نحن بحاجة إلى احترام أسس الدّيمقراطيّة، وفصل السّلطات، وتحصين القضاء، واحترام القانون، واعتماد المساءلة والمحاسبة دون تمييز. والمحاسبة تكون من الشّعب أوّلًا. إن لم يكن الشّعب واعيًا واجباته لن يتمكّن من تحصيل حقوقه.

فيا أبناء بيروت ويا أيّها اللّبنانيّون لا تيأسوا ولا تهجروا أرضكم ووطنكم بل تشبّثوا بالأرض الّتي جعلكم الرّبّ فيها. بيروت دمّرتها الخطيئة مرّات، لكنّها في كلّ مرّة كانت تعود أبهى ممّا كانت. لبنان كرم غرسه الرّبّ، وسنوه تمتدّ إلى العهد القديم، وهو مذكور أكثر من سبعين مرّةً في الكتاب المقدّس. وهو باق بمشيئة الله وبمحبّة بنيه الأمناء له.

لا تخافوا لأنّ القيامة لا بدّ آتية بعد الآلام الّتي تعيشونها. ثقوا بالله الّذي هو أكبر من كلّ من يعتبر نفسه كبيرًا وسيّدًا على إخوته البشر. السّيّد الحقيقيّ هو الرّبّ يسوع المسيح الّذي صلب من أجل خلاص البشر وأسسّ لهم نهج المحبّة والتّضحية والقيامة والحياة.

لا تنسوا أحبّاءكم وما حلّ بهم وبكم ولكن تشبّثوا بالأمل وليكن رجاؤكم بالله عظيمًا. لا تدعوا أحدًا يسرق طموحكم وسعادتكم. أرفضوا الذّلّ والإهانة والاستهتار بحياتكم ومستقبل أولادكم. لا تتهاونوا في كلّ ما يخصّ حياتكم ووطنكم. إرادة الحياة ستنتصر. الحقّ سينتصر. بيروت لا تستحقّ إلّا الحياة، ومن صمد على غدر الزّمان سينتصر على غدر البشر، لأنّ الخلاص لا يأتي إلّا من لدن الرّبّ. أصمدوا، تشبّثوا بالأمل. بيروت عصيّة على العابثين بها وبأولادها لأنّ الله معينها ومنقذها. إتّكلوا عليه وهو لا يخذل محبّيه.

ألا رحم الله كلّ الأحبّاء وعزّى قلوبكم وبلسم جراحكم الجسديّة والنّفسيّة وحفظكم وحفظ هذا البلد من كلّ إثم وشرّ.

وفي عيد الجيش، نسأل الله أن يحفظ جيشنا ويمنحه كلّ قوّة وبركة لكي يبقى حامي الوطن ودرعه الأمين. آمين."