عوده: كلّ مؤمن سيحصل على النّعم إذا كان على مثال والدة الإله
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده العظة التّالية:
"يا أحبّة، من المهمّ لنا أن نتعلّم عن أعيادنا المقدّسة، تاريخيًّا ولاهوتيًّا، حتّى نعرف الكنز الموضوع بين أيدينا، وندرك أنّ علينا المحافظة عليه وعدم التّفريط به، أو جعله دنيويًّا. ففي حين تحتفل الكنيسة بأعيادها بخفر وخشوع، نجد البعض يستغلّون الأعياد المسيحيّة مادّيًّا، فيقيمون المآدب والحفلات الفنّيّة وكأنّهم يحتفلون بأعياد وثنيّة. نحن نرى النّاس يتململون إذا جلسوا ساعتين في الكنيسة، لكنّ نشاطهم يزداد عندما يشاركون في الحفلات والموائد، الّتي نأسف أنّ كنائس كثيرةً أصبحت توليها أهمّيّةً أكبر من القدّاس الإلهيّ، وتعطيها حيّزًا كبيرًا ضمن الاحتفالات اللّيتورجيّة.
أحبّائي، إنّ أقدم مصدر تاريخيّ وصلنا عن مولد والدة الإله هو إنجيل يعقوب المنحول. أمّا تفاصيل خبر الولادة فقد أثبتها تقليد الكنيسة في نصوص لعدّة كتّاب شرحوا أهمّيّة الحدث ومكانته في حياة الكنيسة. وقد اتّخذ هذا العيد أهمّيّةً خاصّةً، حتّى إنّه رافق بدء السّنة الطّقسيّة في مطلع شهر أيلول، وعدّ فاتحةً للأعياد السّيّديّة، أيّ الأعياد المختصّة بالرّبّ يسوع، والأعياد الوالديّة، أيّ المتعلّقة بتمجيد والدة الإله والاستشفاع بها والاعتراف بالدّور الفريد الّذي أدّته في جلب الخلاص للعالم.
أدرج عيد ميلاد العذراء في عداد أعياد السّيّدة الكبرى منذ مطلع القرن الخامس، ويعود أساس الاحتفال به إلى مدينة أورشليم، تحديدًا إلى كنيسة القدّيسة حنّة الّتي شيّدت بالقرب من البركة الغنميّة المذكورة في إنجيل يوحنّا (5: 2)، حيث كان يقع منزل القدّيسين يواكيم وحنّة جدّيّ المسيح الإله كما يؤكّد لنا تقليد الكنيسة. ويؤكّد القدّيس رومانوس المرنّم، في كتاباته في القرن السّادس، أنّ الاحتفال بهذا العيد شاع في القسطنطينيّة في مطلع القرن السّادس، بعدما بلغها عبر الأراضي السّوريّة ومدينة أنطاكية العظمى.
مع ميلاد السّيّدة، ابتدأ تحقيق وعد الله بخلاص البشر، إذ إنّه "بشّر بالفرح كلّ المسكونة، لأنّه منها أشرق شمس العدل المسيح إلهنا، فحلّ اللّعنة ووهب البركة وأبطل الموت ومنحنا حياةً أبديّة"، كما سمعنا في ترنيمة العيد.
تكمن أهمّيّة هذا الحدث الخلاصيّ في ما يليه من أحداث. فالطّفلة المولودة اليوم ستكون مسكنًا لسيّد الخليقة، ومنها سيتجسّد ابن الله الّذي تسمّيه كتب العهد القديم "ابن البشر". وبما أنّ دور العذراء في عمليّة خلاص البشر مهمّ، فلا بدّ من أن يكون الحبل بها استثنائيًّا.
كان أبواها يواكيم وحنّة طاعنين في السّنّ، وحنّة كانت عاقرًا. لكنّهما، بنعمة الله، ورغم سنّهما، رزقا بالطّفلة مريم، "فحلّ (ميلادها) اللّعنة ووهب البركة". في ميلاد السّيّدة، بدأت تباشير إبطال الموت، وإعطاء الحياة الأبديّة الموعودة لكلّ البشر. حصلت مريم على هذه النّعم في رقادها إذ نقلها ابنها "من الموت إلى الحياة" بما أنّها أمّ الحياة. هذه النّعم سيحصل عليها كلّ مؤمن إذا كان على مثال والدة الإله، أمينًا للرّبّ وطائعًا له وحافظًا كلامه وعاملًا به. لذا، يختتم عيد رقاد السّيّدة في ١٥ آب الأعياد السّيّديّة للسّنة الطّقسيّة لأنّنا فيه نعطى أن نتذوّق مسبقًا نتائج عمل الرّبّ يسوع الخلاصيّ.
يأتينا مولد والدة الإله في مطلع السّنة الطّقسيّة كونه بزوغ فجر الخلاص والملكوت الآتيين، وباكورة الفرح الّذي وهبه الله للخليقة، والّذي يهبنا إيّاه مع كلّ ولادة جديدة في الكنيسة لابن أو بنت لنا. تصير كلّ ولادة بشارةً متجدّدةً لوعود الله لنا بالخلاص ولحلول النّعمة وزوال كلّ أثر أو نتيجة للّعنة الّتي حلّت على الأرض كلّها بسبب معصية آدم وحوّاء القديمة (تك 3: 17). يصير تاريخ البشر بشارة العهد الأبديّ الّذي قطعه الله مع الخليقة (إش 24: 5)، ومجالًا للتّفاؤل والثّقة بعناية الله الّتي لا تتخلّى عن محبّي الله والّذين يرجون خلاصه وبرّه بأمانة.
عيد العذراء هذا هو فاتحة للخلاص الّذي وعدنا الله به قائلًا: "إنّي أسكن فيهم، وأسير فيما بينهم، وأكون لهم إلهًا، وهم يكونون لي شعبًا" (2كو 6: 16، خر 25: 8، رؤ 21: 3)، لأنّ مجيء السّيّدة إلينا هو إطلالة "سحابة النّور" الّتي تمهّد لفيض غزارة النّعمة على قلوب الّذين يحبّون يسوع المسيح ويحفظون وصاياه الإلهيّة من كلّ قلوبهم (مز 118: 2)، آمين."