عوده في قدّاس الميلاد: رجاؤنا أن يكون لنا رئيس تبدأ معه مسيرة إنقاذ هذا البلد من التّراجع والتّحلّل
بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده العظة التّالية:
""المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام وفي النّاس المسرّة.
أحبّائي، يوم ولد المسيح في مغارة حقّق الصّورة الأجلى للإنسانيّة المتسامية ببلوغها التّواضع الحقيقيّ. بتنازله فضح كلّ زيف البشر الكامن في الاستعلاء المبدّد للمحبّة. كانت الكبرياء علّة سقوط الإنسان وانفصاله عن محبّة الآب، فارتضى ابن الله الوحيد، المستريح على الشّيروبيم، وربّ المجد، أن يتّخذ صورة الطّفل الفقير المضجع في مذود، من أجل تأديبنا وتعليمنا أنّه لا بدّ للإنسان من فضيلة الاتّضاع أو التّخفّي الّتي لطالما رافقت السّيّد وقدّيسيه.
كان الرّبّ يسوع شديد الابتعاد عن أمجاد العالم، ودائم التّخفّي. يقول عنه إشعياء النّبيّ إنّه "مزدرىً ومخذول من النّاس، رجل أوجاع" (53: 3). جاء من بيت لحم المعتبرة "صغرى بين رؤساء يهوذا" (مت 2: 6)، ونشأ في النّاصرة الّتي قال عنها نثنائيل "أمن النّاصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟" (يو 1: 46). قبل، وهو الكائن "قبل كوكب الصّبح" (مز 110: 3) أن يولد بين النّاس في ظروف صعبة، وجاء في وقت لم ينتظره فيه أحد، ثمّ هرّبه يوسف ووالدته من أمام وجه هيرودس (مت 2: 14)، وهو "الّذي من وجهه هربت الأرض والسّماء ولم يوجد لهما موضع" (رؤ 20: 11). إبن الله، الّذي يملأ السّماوات والأرض مجدًا، جاء وديعًا، متواضعًا، "جرح لأجل معاصينا وسحق لأجل آثامنا... قدّم وهو خاضع ولم يفتح فاه، كشاة سيق إلى الذّبح وكحمل صامت أمام الّذين يجزّونه" (إش 53: 5 و7).
تجاسر الشّيطان، الّذي خدع آدم بالكبرياء أن يختبر مدى تمسّك المسيح بتخفّيه، فأشار عليه: "إن كنت ابن الله فقل أن تصير هذه الحجارة خبزًا". حاول العدوّ أن يستفزّ السّيّد الّذي أعطى الحياة للموتى ووهب البصر للعميان، وأضاف وهو يريه "جميع ممالك العالم ومجدها وقال له أعطيك هذه كلّها إن خررت ساجدًا لي" (مت 4: 1-11). لكنّ السّيّد حافظ على تواضعه، غير مكترث بالتّجربة، فصعق الشّيطان وارتعد، وأدرك أنّ المواجهة ستكون أصعب بكثير ممّا كان يظنّ، لأنّ ابن الله الوحيد لم يعتبر نفسه سوى ابن الإنسان. بقي هذا التّواضع سمةً، لا بل نهجًا، للقدّيسين في جهاداتهم كما يقول الرّسول بولس: "نحن جهّال من أجل المسيح أمّا أنتم فحكماء في المسيح" (1كو 4: 10).
جاء المسيح في عتمة اللّيل، مولودًا من فتاة بسيطة، عذراء نقيّة، موضوعًا في مذود البهائم، ليعلّمنا أنّ "من رفع نفسه اتّضع، ومن وضع نفسه ارتفع" (مت 23: 12)، وأنّ "من أراد أن يكون فيكم عظيمًا فليكن لكم خادمًا" (20: 26). تواضع لا نجده عند معظم رؤساء هذا العالم وزعمائه المتعطّشين إلى بسط سلطتهم بالقوّة والظّلم وإهراق الدّماء وزهق الأرواح. تواضع لا نجده عند المستأثرين بالسّلطة ولا يتخلّون عنها مهما طال الاستئثار. تواضع لا نجده عند المعطّلين والمعرقلين والمؤجّلين والّذين لا تهمّهم سوى مصالحهم ومكتسباتهم، وعند المنصّبين أنفسهم حماةً للشّعب ومخلّصين، فيما هم يبنون أمجادهم على حساب هذا الشّعب المقموع حينًا، والمظلوم أحيانًا، والمستغيب في كلّ الأحوال. نعجب لأمر هذا الشّعب الّذي لا يحاسب ممثّليه رغم المآسي الّتي عاشها والآلام الّتي ذاقها والخسائر الّتي تكبّدها، ولا يبتعد عن الأحزاب الّتي تتغنّى بالطّائفة والمذهب فيما الله بعيد عن تصرّفات زعمائها ومناصريهم. الإنسان الّذي يطلب الله يرذل المديح والإكرام وصدارة المجالس، ويبتعد عن المهاترات والمحاصصات والمكاسب، يحبّ ويعطي ويضحّي متيقّنًا أنّ الله أمين، يرى ما في الخفية وينمّي ثمر الزّرع، طبعًا إذا كان الزّرع مغروسًا في حقل الرّبّ، ومسقيًّا من عرق الجهاد في سبيل الحقّ والعدل والصّلاح والخير للجميع.
رجاؤنا، في ميلاد المخلّص، أن تزهر المحبّة في نفوس أبناء هذه الأرض، ويسكن السّلام القلوب لكي يعمّ الحقّ والعدل والخير والإخاء. علّ هذا الميلاد، الّذي يأتي في عام كان حافلًا بالأحزان والمآسي، يعلّمنا أنّ سيادة الله تختلف عن سيادة البشر. نصلّي كي يهبنا الرّبّ رئيسًا، بعد طول مخاض، مملوءًا بالنّعمة الإلهيّة، يكون نجمًا ساطعًا في غياهب هذا البلد، ينتشله من كبوته، منقّيًا مؤسّساته من كلّ درن الفساد والاستزلام، عاملاً على إرساء مبدأ العدالة والمواطنة الحقيقيّة. رجاؤنا أن يكون لنا رئيس تبدأ معه مسيرة إنقاذ هذا البلد من التّراجع والتّحلّل.
متغيّرات كثيرة تحصل في المنطقة، ولبنان يقف على عتبة حقبة جديدة نأمل أن يصار خلالها إلى إعادة بناء المؤسّسات واستعادة العافية الاقتصاديّة والماليّة. هذا يستلزم ذهنيّةً جديدةً ورؤيةً واضحةً تعالج ترهّل الدّولة وتفكّك إداراتها. نحن بحاجة إلى وعي سياسيّ وقرار حكيم. نحن بحاجة إلى إعادة بناء الدّولة بعيدًا من التّسويات وتقاسم المراكز والمغانم، وإلى تطبيق الدّستور بأمانة، وفصل السّلطات مع تعاون وثيق فيما بينها، فلا تتداخل الصّلاحيّات ولا تطغى سلطة على أخرى فتضعفها. إنّ ما ساهم في انهيار مجتمعنا غياب دور القضاء وانعدام المحاسبة، فسادت الفوضى، وكثر الظّلم، وغابت العدالة. لذا يجب إصلاح القضاء وتحصينه وإبعاده عن السّياسة، أو بالحري كفّ يد السّياسيّين عنه ومنع تدخّلهم في عمله، من أجل إعادته إلى صفائه ورسالته، بعيدًا من المحاصصة والمصالح. إنّ القضاء العادل الفاعل وحده قادر على المحاسبة والمعاقبة ورفع الظّلم ومحاربة القمع والتّسلّط والفساد. الجرائم كلّها، الاغتيالات، والانهيار الماليّ، وهدر ودائع اللّبنانيّين ومدّخراتهم، والسّرقات، والحروب، وتفجير مرفأ بيروت مع ما خلّفه من خسائر بشريّة ودمار، كلّها بقيت بلا محاسبة ولا عقاب. إن لم تكشف الحقيقة لن تندمل الجراح ولن تشفى الآلام. ومهما تأخّرت العدالة لا بدّ آتية. أملنا ألّا يطول الانتظار وأن يترافق العهد الجديد مع كشف كلّ الحقائق ومعاقبة كلّ المجرمين.
نأمل أيضًا أن يتّعظ الجميع من دروس الماضي والحاضر، وأن ينصرفوا إلى القيام بواجباتهم دون مراوغة أو تأجيل، وأن يدعوا الجيش يقوم بواجبه دون تلكّؤ، ودون تشكيك بقدرته، أو اتّهامه بشتّى الاتّهامات. الجيش درع الوطن وحصنه، فليعط التّوجيه اللّازم ويترك لعمله، وله كلّ الشّكر والتّقدير.
نسأل الرّبّ أن يحفظكم جميعًا ويعيد عليكم هذا العيد المبارك وقد تغيّرت الظّروف وتحسّنت الأوضاع، وساد منطق الدّولة الّتي يحتكم إليها الجميع بثقة، وعاد المحتجزون والمخطوفون والمأسورون إلى ذويهم، وبينهم أخوانا المطرانان بولس ويوحنّا. كما نسأله أن يرشد خطانا جميعًا إلى سرّ المغارة، حيث نلقي عنّا كلّ فكر متعال وشهوة ضارّة، فيسرّ المسيح المتجسّد بتقدمتنا الّتي تفوق هدايا المجوس، قلوبنا المليئة محبّةً وتواضعًا ورجاءً صالحًا، آمين."