لبنان
28 كانون الأول 2020, 06:55

عوده في قدّاس الأحد: ما أكثر الهيرودسيّين في أيّامنا!

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الأوّل بعد الميلاد وفي عظته خلال القدّاس الإلهيّ الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- بيروت، دعا متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده المسيحيّين للسّعي إلى "الحقّ ونحو الحرّيّة الّتي لا صوت يعلو على صوتها"، والثّبات في الرّجاء والمحبّة والحقّ، فقال:

"أحبّائي، نعيّد اليوم، في الأحد الأوّل بعد الميلاد، للقدّيس يوسف خطيب والدة الإله، إضافةً إلى النّبيّ داود الملك والقدّيس يعقوب أخي الرّبّ، كما نعيّد للقدّيس استفانوس رئيس الشّمامسة وأوّل الشّهداء.

كلّ من القدّيسين المذكورين تميّز بصفة أو أكثر، جعلته مستحقًّا قربه من المسيح يسوع، وإكليل المجد الّذي لا يفنى. القدّيس يوسف حفظ والدة الإله وحافظ عليها حتّى ولدت ابنها يسوع المسيح. وكما سمعنا في إنجيل اليوم، كان ليوسف دور كبير في مرافقة الرّبّ ووالدته مريم إلى مصر حتّى لا يقتله هيرودس الخائف على كرسيّ حكمه، الّذي أتاه المجوس سائلين عن ملك جديد مولود، فارتعب من فكرة فقدانه الملك، ورعبه هذا أدّى إلى مجزرة راح ضحيّتها آلاف الأطفال في بيت لحم. هؤلاء الأطفال الأبرياء نعيّد لهم في التّاسع والعشرين من كانون الأوّل.

بعد موت هيرودس عاد يوسف بمريم ويسوع إلى النّاصرة حيث كان أمينًا في المهمّة الّتي أوكلها إليه الرّبّ، الأمر الّذي يبدو جليًّا في الخوف الّذي أظهره هو والعذراء مريم عندما ضاع منهما الرّبّ يسوع ابن الثّانية عشرة سنةً. ما أكثر الهيرودسيّين في أيّامنا، الّذين لا يهمّهم أحد في العالم بقدر عروشهم. لبناننا عانى، ولا يزال، حكمًا هيرودسيًّا منذ ما يزيد على الثّلاثة عقود، خسر فيها اللّبنانيّون مئات، لا بل آلاف الأحبّة، آخرهم الّذين سقطوا ضحيّة العروش الفاسدة الّتي تسبّبت بكارثة 4 آب. اليوم نصلّي كي يتشفّع بنا القدّيس يوسف ويحافظ علينا جميعًا من كلّ مكيدة هيرودسيّة أساسها محبّة السّلطة الّتي تدفع صاحبها إلى القيام بأيّ أمر كي لا يفقدها، حتّى سفك الدّماء أنهارًا.

النّبيّ داود الملك أخطأ كهيرودس في فترة حكمه، فاشتهى زوجة أوريّا أحد حرّاسه، فزنى معها وحبلت. وصادف أن عاد أوريّا من المعسكر بعد فترة طويلة قضاها في ساحة الحرب، إلّا أنّه عوض الذّهاب إلى بيته وزوجته فضّل البقاء أمام قصر ملكه لحراسته. كان أوريّا أمينًا لملكه، على عكس تصرّف الملك تجاهه، حتّى إنّ داود أوعز إلى قادة الجنود أن يجعلوا أوريّا في طليعة المحاربين لكي يصاب ويموت، وهكذا حصل. ألا يحدث الأمر نفسه مع حكّامنا الّذين يشتهون كلّ ما لدى الشّعب، ولا يتردّدون في العمل على قهره وإذلاله حتّى إماتته من أجل الحصول على مبتغاهم؟ الفرق بين داود الملك وحكّامنا أنّ داود تاب وعاد إلى ربّه، أمّا هم فلا ربّ لهم سوى مراكزهم ومصالحهم. نصلّي من أجلهم كي يتعلّموا من النّبيّ داود الملك كيف يندمون ويتوبون ويعودون إلى الدّرب الصّحيح قبل فوات الأوان.

القدّيس يعقوب أخو الرّبّ كان رجل صلاة، واجتذب بسيرته التّقيّة كثيرين إلى المسيحيّة، فحقد عليه اليهود وقتلوه رامين إيّاه عن سطح أحد المنازل. ألا يحدث الأمر نفسه في أيّامنا؟ ألا يغتال كلّ صادق ونظيف؟ الفاسدون يخافون من كلّ نزيه وصادق ونظيف، لأنّهم يفضحون فسادهم، فيتخلّصون منهم إمّا معنويًّا أو جسديًّا. ألا تلاحظون أنّه كلّما شهد بلدنا فضيحةً أو تفجيرًا أو أيّ حدث كبير مريب، تكثر بعده الأنباء عن مقتل فلان وتصفية فلان. ذو الضّمير الحيّ والفكر النّقيّ والكفّ النّظيف أصبح مقموعًا، يخاف قول الحقّ، لأنّ مثل هؤلاء منبوذون ومكروهون. لذا أصبحنا نشهد اشتدادًا لموجة الفساد بين المواطنين الّذين رأوا أنّ غير الفاسد هو من يحاسب، وقد يطاله القانون دون سواه. أمّا من اقترف خطأً أو أساء استعمال المركز أو السّلطة فحصانته تمنع عنه المساءلة والمحاسبة، وكأنّه فوق القانون، وممنوع عنه العقاب. لقد كرّس مبدأ شريعة الغاب، حيث الأقوى يلتهم الأضعف، بدل أن تكون النّزاهة والصّلاح والصّدق هي المقياس.

القدّيس إستيفانوس أوّل الشّهداء ورئيس الشّمامسة الّذي نعيّد له اليوم أيضًا عانى الوشاية والشّهادة الكاذبة، إذ دسّ اليهود رجالاً كذبةً ليقولوا إنّ إستيفانوس يجدّف على الله ويخالف الشّريعة. هذا الأمر يعاني منه كثيرون في عالمنا اليوم، خصوصًا في بلدنا، إذ عندما يبدي صاحب الرّأي الحرّ، من الّذين لا يتزلّفون أو يتزلّمون، رأيه بصدق وشفافيّة، ينخس الفاسدون في قلوبهم، فيجيّشون جيوشهم الإلكترونيّة على وسائل التّواصل الاجتماعيّ من أجل تشويه سمعته ورميه بشتّى النّعوت، وصولاً إلى نحره اجتماعيًّا أو نفسيًّا. هكذا يحكم على شرفاء بلدنا بالإعدام رجمًا بالشّائعات، والمؤسف أنّ كثيرين ينجرّون وراء الكلام الفاسد في وجه نظافة الكفّ والفكر والرّأي.

دعوتنا كمسيحيّين أن نقتدي بالرّبّ وقدّيسيه، وأن نسير على الدّوام في الدّرب الصّحيح، حتّى لو تمّ قمعنا أو تهديدنا. علينا أن نسعى دائمًا نحو الحقّ ونحو الحرّيّة الّتي لا صوت يعلو على صوتها. المهمّ ألّا يخاف الأحرار، وأن يبقوا الصّوت صدّاحًا، وألّا ييأسوا ويسيروا وراء الفاسدين أو يتعلّموا منهم، لأنّ خلاص بلادنا لن يأتي إلّا بتكاثر المنادين بالحرّيّة والعدالة للجميع، لا لفئة محدّدة من الشّعب فقط. القدّيسون لم تردعهم تهديدات الطّغاة، بل تمسّكوا بقول الحقّ ولم يحيدوا عنه رغم كلّ التّهديدات، وكثيرون منهم قطعت رؤوسهم أو أعدموا أو أغتيلوا.

أخيرًا، أثبتوا في الإيمان والرّجاء والمحبّة والحقّ. كونوا من محبّي الحقيقة مهما اشتدّت أمواج الفساد والحقد على الصّالحين والأحرار. تشدّدوا في هذا الموسم المبارك مهما قست الظّروف، لأنّ المسيح ولد والملائكة بشّرتنا في ولادته بالرّجاء الصّالح لبني البشر. لقد تجسدّ المسيح ليخلّص الإنسان من الخطيئة ويدلّه على طريق القداسة. تجسّد ليحرّر المأسورين ويبشّر الحزانى والمقهورين ويبلسم قلوب المظلومين. تجسّد لينشر عدله وسلامه على الأرض فتعمّ المسرّة العالم. بالميلاد أصبح كلّ شيء جديدًا، إذا أراد الإنسان أن يتجدّد، أن يخلع إنسانه القديم ويلبس المسيح ويتشبّه به محبّةً وتواضعًا. الله يبحث عن وجه الإنسان وعن قلبه، لا عن مركزه وماله. هدفه تغيير قلب الإنسان من أجل أن يزيد الإنسان إنسانيّةً. ومهما اشتدّت الأزمات، يد الله حاضرة لتتلقانا. أمّا من يسأل أين الله في هذه الأوقات الصّعبة فنقول له أين أنت من الله؟ الله يريد قلبًا ينبض محبّةً ورحمةً لا قلبًا حجريًّا لا يهتزّ لمصائب غيره.

رجاؤنا أن يلمس الرّبّ قلوب حكّامنا ويجعلها قلوبًا لحميّةً لا حجريّة، لأنّ الشّعب لم يعد يحتمل أكثر. بارككم الرّبّ يا محبّيه ومنحكم كلّ شهوة صالحة في هذا الزّمن الرّديء، آمين."