لبنان
10 تشرين الثاني 2025, 13:30

عوده في عيد رؤساء الملائكة: يذكّرنا العيد بدعوتنا نحن أيضًا لأن نكون "ملائكةً على الأرض"

تيلي لوميار/ نورسات
هذا ما ذكّر به متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده في عظة عيد رؤساء الملائكة، خلال قدّاس إلهيّ ترأّسه السّبت، في كنيسة رئيسي الملائكة ميخائيل وجبرائيل- المزرعة.

وفي تفاصيل العظة، قال عوده: "أحبّائي، يظهر لنا المقطع الإنجيليّ الّذي سمعناه اليوم فرح الرّبّ يسوع بخلاص الإنسان، وفرح السّماء بمشاركة الإنسان في إرادة الله. يقول الرّبّ لتلاميذه: "من سمع منكم فقد سمع منّي، ومن رذلكم فقد رذلني"، ثمّ "تهلّل يسوع بالرّوح وقال: أعترف لك يا أبت، ربّ السّماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه عن الحكماء والعقلاء وكشفتها للأطفال". هنا، تتجلّى لنا علاقة عميقة بين السّماء والأرض، بين الله وملائكته من جهة، وبين الله والإنسان من جهة أخرى، في وحدة الطّاعة والمحبّة والخدمة.

الملائكة الّذين نكرّمهم اليوم، وعلى رأسهم رئيسًا الملائكة ميخائيل وجبرائيل، ليسوا سوى صورة حيّة للطّاعة الكاملة لله. إنّهم "أرواح خادمة مرسلة للخدمة لأجل العتيدين أن يرثوا الخلاص" (عب ١: ١٤). يرسلهم الله ليكونوا رسله وأعوانه في التّدبير الخلاصيّ، فيحملون إلى البشر إرادة الله، ويدافعون عنهم ضدّ قوى الظّلمة، ويرفعون صلواتهم أمام العرش الإلهيّ. الرّبّ يسوع نفسه، إذ يرى تلاميذه يفرحون لأنّ الأرواح خضعت لهم، يكشف لهم أنّ هذا السّلطان ليس منهم بل من الله، ويحذّرهم من الوقوع في الكبرياء قائلًا: "رأيت الشّيطان ساقطًا مثل البرق من السّماء".

إذًا، الملائكة شهود على سقوط الكبرياء وعلى مجد الطّاعة. رئيس الملائكة ميخائيل صرخ قائلًا: "من مثل الله؟" في وجه الشّيطان المتكبّر الّذي قال: "أصعد إلى السّماء... أصير مثل العليّ" (إش ١٤: ١٣-١٤). هذا الصّراع بين التّواضع والكبرياء هو لبّ الحياة الرّوحيّة. فالمتواضع، كالأطفال الّذين تحدّث عنهم الرّبّ، يعرف الله ويفرح به، أمّا المتكبّر فيعميه وهم الحكماء والفهماء في ذاته. لذلك، يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "حيث يوجد التّواضع، هناك يسكن الله، لأنّ التّواضع هو عرشه على الأرض."

إنّ تهليل الرّبّ يسوع بالرّوح في هذا النّصّ ليس انفعالًا عاطفيًّا، إنّما إعلان فرح سماويّ يربط بين عمل الملائكة وخدمة الرّسل. يقول القدّيس كيرلّس الإسكندريّ: "الرّسل صاروا شركاء الملائكة في خدمة الكلمة، لأنّهم يحملون إلى العالم البشرى عينها الّتي يحملها الملائكة، أيّ إعلان إرادة الآب". فكما أرسل رئيس الملائكة جبرائيل إلى العذراء مريم ليبشّرها بالتّجسّد الإلهيّ، كذلك يرسل الرّسل والكهنة ليبشّروا النّفوس بميلاد المسيح فيها. من يسمع منهم يسمع من المسيح، لأنّهم ينطقون بما يسبغه عليهم الرّوح القدس.

في المقابل، كما أنّ الملائكة يحاربون قوى الشّرّ في السّماء، كذلك المؤمنون مدعوّون إلى الجهاد ضدّ قوى الظّلمة في العالم. يقول الرّسول بولس: "فإنّ مصارعتنا ليست ضدّ دم ولحم، بل ضدّ الرّؤساء والسّلاطين، ضدّ ولاة العالم، ضدّ ظلمة هذا الدّهر، ضدّ أجناد الشّرّ الرّوحيّة في السّماويّات" (أف ٦: ١٢). لذلك يذكّرنا عيد رؤساء الملائكة بأنّ حياتنا الرّوحيّة ليست ساكنةً، بل هي معركة دائمة، لا بالسّيف ولا بالغضب، بل بالطّاعة والتّواضع والإيمان العامل بالمحبّة.

لعلّ أجمل ما في إنجيل اليوم أنّ الرّبّ يدعو تلاميذه إلى الفرح الحقيقيّ قائلًا: "لا تفرحوا بأنّ الأرواح تخضع لكم، بل افرحوا لأنّ أسماءكم قد كتبت في السّماوات". هنا، نلمس جوهر الحياة الملائكيّة نفسها، لأنّ الملائكة لا يفرحون بسلطانهم، بل باتّحادهم الدّائم بالله. إنّهم يعيشون في التّسبيح المستمرّ، ليس لأنّهم أقوياء، إنّما لأنّهم طاهرون في المحبّة والطّاعة.

الفرح السّماويّ الّذي يتحدّث عنه الرّبّ هو اشتراك في معرفة الآب، لأنّه يقول: "أعترف لك أيّها الآب، ربّ السّماء والأرض، لأنّك أخفيت هذه عن الحكماء والعقلاء وكشفتها للأطفال". الطّفولة هنا رمز للقلب النّقيّ البسيط الّذي لا يتّكل على ذاته. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "الإنسان المتواضع صار مساويًّا للملائكة، لأنّه بتواضعه جعل نفسه مسكنًا لله."

لذا، عندما نعيّد لرؤساء الملائكة، لا نكرّم كائنات بعيدةً عنّا في السّماء، بل نحتفل بدعوتنا نحن أيضًا لأن نكون "ملائكةً على الأرض"، أيّ خدّامًا لإرادة الله، حاملين سلامه إلى إخوتنا، ساهرين على صون قلوبنا ضدّ تجارب العدوّ. فالملاك ليس طبيعةً غريبةً عنّا، بل هو الصّورة الّتي نحن مدعوّون للتّشبّه بها، بالنّعمة لا بالطّبيعة. لذا تشبّه الكنيسة بعض القدّيسين بالملائكة فترتّل للنّبيّ إيليّا مثلًا "أيّها الملاك بالجسم، قاعدة الأنبياء وركنهم..."، وللقدّيسين النّسّاك "لقد ظهرت في البرّيّة مستوطنًا، وبالجسم ملاكًا، وللعجائب صانعًا...".

الرّبّ الّذي رأى الشّيطان ساقطًا كالبرق، يدعونا أن نثبت في النّور الّذي لا يغرب، في طاعة تفرّح قلب الله وتسكن السّلام في قلوبنا. لذا نحن مدعوّون أن نحيا في يقظة روحيّة لا تعرف التّهاون، وأن نحمل بشارة الخلاص إلى كلّ من نلتقيهم، ونحفظ من فخاخ العدوّ، حتّى نستحقّ أن نكتب في السّماء مع الأبرار والملائكة، آمين."