لبنان
06 آب 2025, 12:30

عوده في عيد التّجلّي: مدعوّون لنصير شهودًا له في وسط عالم مظلم

تيلي لوميار/ نورسات
في صباح عيد التّجلّي، احتفل متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده بالقدّاس الإلهيّ، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط- بيروت.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها:

"يا أحبّة، نعيّد اليوم لسرّ عظيم نحن مدعوّون ليس إلى أن فهمه بعقولنا فقط، بل إلى الاغتناء به في قلوبنا وعيشه بنعمة الله في حياتنا. إنّه عيد التّجلّي المجيد، تلك اللّحظة الفريدة حيث تجلّت الألوهة في جسد يسوع النّاسوتيّ، لكي نرى لمحةً عن قيامتنا الآتية، وندرك أنّ الله المتجسّد لم يكن فقط معلّمًا صالحًا، بل هو ابن الله الحيّ، الإله المتأنّس.

حدث التّجلّي هو إعلان لاهوتيّ عميق، يعيد تشكيل نظرتنا إلى المسيح، وإلى ذواتنا وخلاصنا. أراد الرّبّ، قبل الآلام والصّلب، أن يكشف لتلاميذه عن مجده الإلهيّ، كي لا تزعزعهم صدمة الصّلب ويعاينوا نور القيامة منذ الآن. يقول القدّيس يوحنّا الدّمشقيّ: "تجلّى يسوع، ليس بأخذه شيئًا لم يكن له، بل بأنّه أظهر لتلاميذه ما كان فيه دائمًا، لكنّهم لم يكونوا قادرين على رؤيته". فالمسيح لم يصبح نورًا على الجبل بل أظهر نوره الّذي كان محتجبًا وراء ستار الجسد، كما تشرق الشّمس من خلف السّحاب.

تتلاقى على ثابور السّماء والأرض ويلتقي العهدان. يظهر موسى معطي النّاموس وإيليّا النّبيّ النّاريّ، في حوار مع الرّبّ، وكأنّهما يشهدان على أنّه هو الموعود به، وتحقيق الشّريعة والنّبوءات، والمسّيّا الآتي. الآب نفسه يعلن أبوّته للمسيح من السّحاب، وكأنّ كلّ التّاريخ الخلاصيّ، من الخروج إلى المجيء الثّاني، يتجمّع على جبل ثابور ليعلن أنّ يسوع هو الكلمة الأخيرة لله إلى الإنسان، وأنّ مجده صار قابلًا للرّؤية عن كثب في شخص الإبن المتجلّي.

النّور الّذي أضاء الجبل ليس مخلوقًا بل هو نور المجد الإلهيّ الّذي اختبره بطرس ويوحنّا ويعقوب فسقطوا على وجوههم رهبةً. هذا النّور نفسه كان يلمع من وجه موسى بعد حديثه مع الله، فلم يقدر بنو إسرائيل النّظر إليه. إنّه النّور الّذي تعاينه النّفوس النّقيّة والّذي قال عنه القدّيس غريغوريوس اللّاهوتيّ إنّه "يسكن في النّفوس المتطهّرة، ويضيء في قلوب من نقّوا ذواتهم بالتّوبة."

التّجلّي دعوة إلى الارتفاع عن ضجيج العالم والسّير مع المسيح إلى حيث ينفرد بنا كما فعل مع تلاميذه. هذا الصّعود يتطلّب جهدًا وصبرًا ونسكًا لكنّنا لا نعاين مجد الرّبّ في ضجيج الشّهوات بل في سكون الطّاعة والنّقاوة. يقول القدّيس إسحق السّريانيّ: "حين تتطهّر العين الدّاخليّة للإنسان يرى نور الله كما هو ويعاين أسراره ويصبح كلّ شيء له نورًا".

التّجلّي هو أيضًا كشف لهويّتنا الحقيقيّة، لأنّ المسيح لم يأت ليظهر مجده فقط بل ليعطينا إيّاه. يدعونا المسيح لأن نشترك في مجده، وهذا هو السّرّ العظيم. لا يكتفي بأن ينيرنا خارجيًّا، بل يسكن فينا ويجعلنا شركاء طبيعته الإلهيّة ويلبسنا بهاء نوره غير المخلوق، ويحوّلنا بالنّعمة إلى ما لا نستحقّه بالطّبيعة.

نبلغ هذا المجد بالصّليب. يقول القدّيس مكسيموس المعترف: "حصل التّجلّي قبل الصّليب ليعرف التّلاميذ أنّ المتألّم هو ربّ المجد، ويفهموا أنّ طريق المجد تمرّ بالصّليب". ما من إنارة حقيقيّة بلا توبة، ولا قيامة بلا موت عن الخطيئة. فكما صعد الرّبّ إلى جبل التّجلّي نحن مدعوّون إلى الصّعود معه، حاملين صليبنا كلّ يوم، واثقين أنّ النّور الّذي أضاء وجهه على ثابور، سيشرق فينا أيضًا إن ثبتنا فيه.

يا أحبّة، لمّا رأى بطرس المجد الإلهيّ على الجبل صاح من أعماقه: "حسن أن نكون ههنا"، كأنّه نسي العالم كلّه واشتاق فقط إلى الثّبوت في النّور والبقاء في الحضرة الإلهيّة. هذا هو شوق القلب البشريّ حين يذوق الله. لكن، لم يسمح لبطرس أن يبقى هناك، بل نزل مع المسيح إلى السّفح، حيث ينتظره الصّليب والخدمة والرّفض. نحن أيضًا مدعوّون إلى حمل هذا النّور معنا في دروب الحياة، فنصير شهودًا له في وسط عالم مظلم، نصير نحن أنفسنا ثابورًا جديدًا، تنعكس عليه أنوار السّماء، فيعاين النّاس فينا وجه المسيح، ويمجّدوا الآب الّذي في السّماوات. فلنصعد مع المسيح إلى جبل تجلّيه بأجنحة الرّوح، ولنسمح له أن يبدّلنا وينيرنا ويقدّسنا، آمين."