عوده: في بلد يحترم نفسه يستقيل المسؤول إذا لم يحسن القيام بواجبه
"أحبّتي، أبدأ كلامي بشكر الله على كلّ شيء. أشكره لأنّنا ما زلنا على قيد الحياة، وما زلنا قادرين على تمجيد اسمه رغم كلّ المحن التي نمرّ بها. كما أسأله أن يتقبّل نفوس من فقدناهم ويغمرهم بمحبّته ورحمته ويتقبّلهم في ملكوته. كما أسأله أن يمنح الصّحّة والشّفاء لكلّ من أصيب نتيجة هذا الانفجار، ويبلسم قلوبهم جميعًا.
إنّ ما عشناه في الأيّام الأخيرة كان تجربة صعبة ومريرة. عاصمتنا في ذهول. أحياء بكاملها دمّرت وأصبح أبناؤنا بلا مأوى، مشرّدين، عاجزين عن استيعاب ما حلّ بهم، وكأنّ الانهيار الاقتصاديّ والجوع والبطالة وفيروس كورونا لا تكفيهم. من المسؤول عمّا حصل؟ لا نعرف. كيف تعالج الأمور؟ لا نعرف. ماذا يفعلون للمشرّدين والجياع؟ لا نعرف. هل سيجرى تحقيق دقيق؟ هل سيحاكم المسؤولون عن هذه المجزرة؟ هل سيعطى هذا الشّعب الجريح حقّه ولو لمرة؟ إنّ لم نعتمد سياسة الثّواب والعقاب لن تستقيم الأمور وستستمر الاعتداءات على الشّعب وحقوقه.
شعبنا يستحقّ حياة أفضل، يستحقّ حكّامًا ينصتون إليه، يخدمونه بصدق ونزاهة ومحبّة، ويعتذرون منه إذا أساؤوا إليه أو أخطأوا، عوض استغلاله وإماتته مرّات كلّ يوم. وعندما يسحب الشّعب ثقته التي منحهم إيّاها ينسحبون بكرامة وكبر. في بلد يحترم نفسه يستقيل المسؤول إذا لم يحسن القيام بواجبه أو إذا قصّر في مكان ما. هنا المسؤولون يتربّعون على كراسيهم والشّعب يتلقّى المصيبة تلو الأخرى ويعاني. لكن ما يعزّي أنّ هؤلاء الطّيّبين، شعبنا يعزّي أفراده بعضهم بعضًا، ويساعدون بعضهم بعضًا ويظهرون محبّة أشكرهم عليها وأشكر الله.
الحكم مسؤوليّة. الحكم استشراف. الحكم استباق للأحداث. أين كان مسؤولونا عندما خزّنت مواد متفجّرة في المرفأ، في قلب العاصمة؟ أين هم ممّا أصاب الشّعب؟ ممّا أصاب أبناءنا، شعبنا وأطفالنا، أمل المستقبل؟ ما بثّ بعض الأمل والفرح في قلوبنا المكسورة هو رؤية هؤلاء الشّبان والشّابات يجولون في الشّوارع المنكوبة، يقدّمون العون مع المحبّة إلى كلّ محتاج، يساهمون في رفع الأنقاض ومحو آثار الدّمار، مصمّمين على إعادة عاصمتهم إلى الحياة، فيما المسؤولون ينظرون ويطلقون الوعود، ولم يتجرأوا على النّزول إلى الشّارع لأنّهم يعرفون أنّ الشّعب لن يتقبّلهم، كي لا أقول شيئا آخر. يقول بولس الرّسول في رسالته إلى أهل روميه: "أفتظنّ أيّها الإنسان ... أنك تنجو من دينونة الله؟ أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أنّ لطف الله إنّما يقتادك إلى التّوبة؟ ولكنّك من أجل قساوتك وقلبك غير التّائب تدخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب واستعلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كلّ واحد حسب أعماله" (رو2: 3 – 5).
هنا لا بد ّمن شكر الرّئيس الفرنسيّ الذي أظهر مسؤوليّة كبيرة ومحبّة عميقة للبنان تجلّت في زيارته لعاصمتنا الجريحة، والتّجوال في شوارعها المنكوبة، والتّعاطف مع أهلها، ومخاطبتهم بمحبّة وصراحة ومسؤوليّة. جاء في سفر الأمثال: "الملك الحاكم بالحقّ للفقراء، يثبت كرسيه إلى الأبد" (29: 14). وربّنا يسوع المسيح قال: "كلّ ما فعلتموه بإخوتي هؤلاء الصّغار فبي قد فعلتموه" (متّى25: 40).
أبناؤنا، أبناء هذه العاصمة، أبناء لبنان، مسؤوليّة في أعناقكم أيّها الحكّام والمسؤولون، وهم يطلبون منكم وقفة شجاعة، وقفة ضمير ومسؤوليّة. ضعوا جانبًا مصالحكم وأحقادكم وهبّوا لنجدتهم. كفاهم الحروب والصّراعات وتقاسم المغانم على حسابهم. إنّهم يريدون منكم دولة مستقلّة، سيّدة، حرّة، كريمة، تسودها العدالة والمساواة، يحكمها القانون، يحترم فيها الدّستور ولا يترجمه كلّ فريق بما يناسبه. يريدون حكمًا واحدًا وجيشًا واحدًا وشعبًا واحدًا، واهتمامًا كلّيًا بالشّعب، وانتماء جدّيًا للوطن دون غيره. يريدون أبناء وطنهم، كلّ أبناء وطنهم، ملتصقين بلبنان لا بغيره، أمناء له وحده، والبارحة سمعناهم يطالبون بعاصمة منزوعة السّلاح. فهل يطلبون المستحيل؟ أمّا أبنائي في أبرشيّة بيروت الذين فقدوا بيوتهم وأشغالهم، ودمّرت كنائسهم ومدارسهم ومؤسّساتهم وعلى رأسها دار المطرانيّة ومستشفى القدّيس جاورجيوس الذي نذر نفسه منذ قرن ونصف لخدمة هذا البلد، وقد فقد ممرّضات عزيزات على قلوبنا ومرضى أعزّاء، فأقول لا تخافوا. معًا سنعيد بناء كلّ شيء، وبمساعدة الطّيّبين والخيّرين في لبنان والعالم. إتّكالنا على الله وحده، وهو لا يخذل محبّيه. من كان الله معه فمن عليه؟ لا تخافوا. لا تيأسوا. إتّكلوا على الله وهو يزرع الرّجاء والفرح في قلوبكم".
وإختتم عوده قائلًا: "المسيح قام. بيروتنا ستقوم من تحت الأنقاض والرّكام. لبناننا سيقوم رغم كلّ المبغضين والحاقدين ومن يضمر له الشّرّ والحسد".