لبنان
14 نيسان 2025, 05:55

عوده في الشّعانين: لنضع رجاءنا على ابن الله كي يخلّص لبنان ويزرع فرح قيامته في قلوبنا

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس الشّعانين في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس بحضور حشد كبير من المؤمنين. وبعد القدّاس طاف المؤمنون مع أطفالهم حاملين الشّموع وغصون الزّيتون بزيّاح في ساحة النّجمة.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى العظة التّالية: "أحبّائي، نحتفل اليوم، في الأحد الّذي يسبق عيد الفصح المقدّس، والّذي هو بداية الأسبوع العظيم، بدخول ربّنا يسوع المسيح إلى أورشليم بعد أن أقام صديقه لعازر من بين الأموات. فإذ سمع شعب المدينة المقدّسة بمجيء السّيّد وبالأعجوبة الّتي حقّقها في بيت عنيا، وبما علّم به في اليهوديّة والجليل، خرج للقائه بسعف النّخل وهتاف التّمجيد. نحن أيضًا نلتئم اليوم لنستقبل المخلّص الآتي لينير حياتنا بآلامه الخلاصيّة.

"أيّها المسيح الإله، لمّا أقمت لعازر من بين الأموات حقّقت القيامة العامّة". سبت لعازر وأحد الشّعانين يشكّلان تذوّقًا مسبقًا للفرح الّذي يعقب أسبوع الآلام. فبيت عنيا، مكان إقامة لعازر من الموت، هي نقطة انطلاق يسوع في صعوده إلى أورشليم ليقدّم نفسه ذبيحةً طوعيّةً من أجل خلاص العالم. فلكي يغلب الخطيئة انحدر المسيح إلى القبر ليمنحنا الحياة الأبديّة الّتي خلقنا لها.

كان دخول المسيح إلى أورشليم ممجّدًا من الجموع حدثًا مسيانيًّا ينبئ بوصول المسيح المنتظر الّذي أخبر عنه أنبياء العهد القديم، والّذي بات ترقّب مجيئه ملحًّا لدى اليهود، لكي يعتق شعبه ويحقّق العدل والسّلام. بيد أنّ المدلول اليهوديّ المسيانيّ لمجيء المخلّص اتّخذ، بشخص الرّبّ يسوع، دلالةً أخرى كنهها حضور الله بين شعبه، وإعلان سلطانه وملكه على الأرض. يوافي الرّبّ يسوع ليعتقنا من كلّ مخاوفنا. يأتي ليحرّرنا من سلطان الموت بموته وقيامته، ولكي يجعلنا نبلغ الاتّحاد الكامل معه. إنّه الملك الّذي يحرّرنا من ظلمة الخطيئة وعقالات الموت.

في الشّعانين نحن مدعوّون لاستقبال المسيح الملك غالب الموت وواهب الحياة. تجاوب الإنسان مع هذه الدّعوة يكون من خلال سرّ التّوبة، أيّ التّبدّل الدّاخليّ في الإنسان، تبدّل الفكر والقلب، الّذي ينعكس تحوّلاتٍ عمليّةً واضحةً في سيرة الإنسان وأخلاقه.

الشّعانين دعوة لنا لقبول ملك المسيح كهدفٍ نهائيٍّ يعطي معنًى لحياتنا، إذ نتّخذ هويّتنا من المسيح ومن ملكوته. الملكوت هو المسيح نفسه، وقدرته الفائقة الوصف، ورحمته غير المحدودة الّتي توهب للأنام. الملكوت لا ينحصر في مكانٍ أو زمانٍ، ولا هو موضوع انتظارٍ مستقبليٍّ. يعلّمنا العهد الجديد أنّ ملكوت السّماوات لم يقترب وحسب (مت 3: 2) بل هو في داخلنا (لو 17: 21). الملكوت واقع حاضر بمقدار ما هو مشروع مستقبليّ.

ملكوت السّماوات هو حياة الثّالوث القدّوس في العالم. إنّه ملكوت القداسة والخير والحقّ والجمال والمحبّة والسّلام والفرح. هذه الصّفات ليست من صنع الإنسان، بل تتأتّى من الحياة بالله وتعلن الله للنّاس. المسيح نفسه هو الملكوت، هو الإله- الإنسان الّذي أظهر الله في العالم (يو 1: 11، 14). لقد رذل من النّاس وكان مبغضًا، "أمّا كلّ الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولادًا لله، أيّ المؤمنون باسمه، الّذين ولدوا ليس من دمٍ ولا من مشيئة جسدٍ ولا من مشيئة رجلٍ بل من الله" (يو 1: 12-13).

ذكرى الشّعانين دعوة لنا لقبول المسيح الآتي، ومواكبته إلى الآلام. لا يمكننا فهم ملك المسيح من دون آلامه، فالمسيح "إذ كان في صورة الآب" (في 2: 6)، وإذ كان في محبّةٍ كاملةٍ لله الآب وللرّوح القدس وللخليقة بأسرها (يو 15: 9)، رضي في طاعته وتواضعه الأقصيين أن يخلي ذاته بالكامل، ويأخذ صورة العبد، ويتنازل حتّى موت الصّليب (في 2: 7-8).

اليهود كانوا ينتظرون المسيّا ملكًا قويًّا جبّارًً يخلّصهم بقوّته من حكم الرّومان. لم يتوقّعوا ملكًا وديعًا، متواضعًا، محبًّا، مخلّصًا النّفوس من شوائب الخطيئة والشّرّ، مبشّرًا بالمحبّة والسّلام. لم يدخل أورشليم على حصانٍ، محاطًا بالجنود والسّلاح، بل راكبًا على جحشٍ ابن أتان. حتّى تلاميذه لم يفقهوا معنى ملكه، ما دفع يعقوب ويوحنّا ابني زبدى أن يطلبا الجلوس عن يمينه وعن يساره في مجده، فأجابهما: "أمّا جلوسكما عن يميني وعن يساري فليس لي أن أعطيه إلًا للّذين أعدّ لهم". أراد الرّبّ أن يقول لطالبي التّقدّم على الآخرين أنّ المكان لا يعطى إلًا للمستحقّين. "إنّ ابن البشر لم يأت ليخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فداءً عن كثيرين" (مر10: 45). من يخدم الآخرين هو الّذي يستحقّ الأولويّة والجلوس عن يمين الرّبّ. لقد قلب يسوع كلّ المفاهيم البشريّة عندما قال: "من أراد أن يكون فيكم كبيرًا فليكن لكم خادمًا، ومن أراد أن يكون فيكم أوّل فليكن للجميع عبدًا" (مر10: 43). أراد ابنا زبدى أن يتقدّما على الآخرين فلا يسبقهما أحد إلى المجد لأنّهما ظنّا أنّ المجد الّذي يتحدّث عنه السّيّد الرّبّ مجد أرضيّ. هذان التّلميذان صورة عن كلّ إنسانٍ يحاول فرض نفسه على الآخرين، واستغلال قربه من كلّ سيّدٍ ومسؤولٍ وذي نفوذٍ، من أجل تحقيق مآربه ومصالحه. إنّهما صورة عن كلّ طالبٍ التّقدّم لنفسه ولو على حساب الآخرين، وعن كلّ مستغلّ سلطةٍ من أجل اقتناص فرصةٍ أو ثروةٍ أو مكانةٍ أو مجد. لكنّ الخطأة والعشّارين يسبقون هؤلاء إلى ملكوت السّماوات، لأنّهم بتوبتهم ومحبّتهم وخدمتهم يستحقّون المجد.

قال يسوع لتلاميذه: "ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وابن البشر يسلّم إلى رؤساء الكهنة والكتبة، فيحكمون عليه بالموت، ويسلّمونه إلى الأمم لكي يهزأوا به ويجلدوه ويصلبوه، وفي اليوم الثّالث يقوم". يسوع منطلق إلى آلامه، وسوف يقدّم نفسه ذبيحةً عن البشريّة جمعاء، ومن كان على صورته، من كان خادمًا لإخوته ومضحّيًا، تائبًا ومحبًّا، هذا يستحق أن يجلس عن يمينه. هذا هو جهاد المؤمن الّذي سوف يوصله إلى معاينة مجد الله في القيامة.

اليوم ندخل مع الرّبّ إلى أورشليم ونجدّد الرّجاء أنّ الله لا يخذل محبّيه، وأنّه سيأتي يوم فيه "سيمسح الله كلّ دمعةٍ من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد لأنّ الأمور الأولى قد مضت" (رؤيا 21 :4).

اليوم يستقبل المسيح بسعف النّخل وبـ"هوشعنا مبارك الآتي باسم الرّبّ"، وينطلق إلى آلامه وصلبه وموته، لكي يقوم في اليوم الثّالث دائسًا الموت وغالبًا الجحيم، ومقيمًا معه كلّ البشريّة المدعوّة أن تقبل المسيح وملكوت الودعاء عبر إخلاء الذّات من كلّ أنانيّةٍ وحقدٍ وشرٍّ، من كلّ كبرياءٍ وشهوةٍ ضارّةٍ، حتّى إذا بلغنا نقاوة الأطفال وبساطتهم "نحمل علامات الغلبة والظّفر" وندخل مع السّيّد، بتواضعٍ وإيمانٍ، إلى سرّ محبّته للبشر الّتي لا تحصى ولا يستقصى أثرها.

يا أحبّة، اليوم ذكرى بدء الحرب المشؤومة الّتي خلّفت دمارًا وخرابًا وحصدت أرواحًا بريئةً وندوبها لمّا تندمل بعد. صلاتنا أن يكون اللّبنانيون قد تعلّموا من دروس الماضي وأن تكون صور الحرب محفورةً في ذاكرتهم كي لا تتكرّر، وأن يشدّوا العزم من أجل بناء دولةٍ قويّةٍ موحّدةٍ لا تزعزعها رياح حربٍ أخرى، ولا تقوى عليها يد الشّرّ فتخرّبها، وتبعثرها وهي لم تنهض بعد.

لنضع رجاءنا على ابن الله الّذي سيتألّم من أجلنا، ويموت ثمّ يقوم مخلّصًا إيّانا، كي يخلّص لبنان ويزرع فرح قيامته في قلوبنا، آمين."