لبنان
07 شباط 2022, 06:55

عوده: على الشّعب أن لا يتأثّر بالدّعايات الانتخابيّة وبالتّجريح المتبادل

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده قدّاس الاحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، بحضور حشد من المؤمنين.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، إنجيل اليوم يحكي لنا قصّة امرأة وثنيّة جاءت تسترحم الرّبّ صارخةً: "إرحمني يا ربّ، يا ابن داوود، فإنّ ابنتي بها شيطان يعذبّها جدًّا". هذه الكنعانيّة الّتي لم تسمع كلمة الله، ولا عرفت ناموسه وأنبياءه، تخطّت كفرها وأنانيّتها وارتمت عند قدمي يسوع معترفةً به مخلّصًا، فيما نرى أحيانًا كثيرةً أهل النّاموس والأنبياء، ومدّعي الإيمان يرفضون الرّبّ ويجحدون.

هذه المرأة الكنعانيّة هي شخص أخرجه الألم من دائرة الحياة المعتادة، الحياة الّتي تعجّ بالأوثان، وقادها إلى مقابلة شخصيّة مع المسيح، الإله الحقيقيّ. إنّ الألم يقود الإنسان إلى معرفة أعمق للحياة، كما أنّ الله "يصمت" مرّات كثيرةً ولا يستجيب لصرخات الألم، لأنّ له في صمته تدبيرًا.

لقد دبّ الألم كسمّ في الجنس البشريّ، وليس فيه وحده، إنّما في الخليقة كلّها. فهي تئنّ وتتمخّض مع الإنسان منذ لحظة فقدانه الفردوس، عندما لبس أقمصة الفساد والموت، وحلّ في مكان الشّقاء والألم الّذي ينبت شوكًا وعوسجًا. إنّ السّبب الأوّل للألم هو عصياننا لمشيئة الله وطاعتنا لكلمة الشّيطان، عصياننا لنبع الحياة وطاعتنا للرّوح المميت. علينا أن نعرف جيّدًا أنّ الشّيطان هو الّذي يتعب الجنس البشريّ، مستغلًّا قابليّته للفساد والموت. فقصّة أيّوب الصّدّيق بليغة التّعبير، لأنّها تكشف أساليب الشّيطان وكراهيّته من جهة، كما تبيّن تأديب الله من جهة أخرى. الله يحوّل مرارة سمّ الألم إلى دواء يستعيد به الإنسان عافيته الرّوحيّة، بل يحوّله إلى وسيلة تكشف عظمة الأبرار. إذًا، عندما تحيط بنا الأحزان المتنوّعة والآلام، علينا ألّا نحاول أبدًا القيام بتحليلات واستنتاجات، وألّا نترك الأفكار تغرّقنا، بل علينا أن نطلب رحمة إله المحبّة، بمعرفة متواضعة لأنفسنا.

الألم سمّ ودواء معًا. فالشّيطان يريده سمًّا لكي يقتل نفوس النّاس باليأس، أمّا الله فيحوّله إلى دواء يردّ العافية إلى النّفس ويوقظ المشاعر الدّاخليّة الميتة. إنّ الإنسان الّذي يتألّم ويصلّي يكتسب إحساسًا بالحياة لا يدركه الآخرون. تصبح نفس المتألّم المصلّي جهاز استقبال يتلقّى من محبّة الله أدقّ الرّسائل. ولئن يفهم جيّدًا قابليّة الحياة البيولوجيّة للفساد، إلّا أنّه، في الوقت نفسه، تنمو فيه الصّلاة الدّاخليّة، فيدرك ما هي الحياة الحقيقيّة وما هو الموت الحقيقيّ. عندما تتشدّد النّفس بالإيمان، وتتنفّس الصّلاة، يدفع الألم الإنسان إلى الخروج من أنانيّته، فيتألّم مع المتألّمين، ويصلّي من أجلهم، فتشمل صلاته العالم أجمع. إلى ذلك، يقول تقليد القدّيسين إنّ الصّلاة المسموعة هي الصّلاة المصحوبة بالألم. فعندما نتألّم من أجل شخص ما، يجب أن نصلّي له، لأنّ الألم دعوة إلى الصّلاة. الإنسان المتألّم الّذي يؤمن ويصلّي ينفتح على إخوته ويشمل العالم كلّه في ألمه الشّخصيّ، أمّا غير المؤمن أو قليل الإيمان، الّذي يحاول أن يعطي بالصّلاة معنًى لحياته، وأن يجد مخرجًا، فينغلق على أنانيّته وتأتي العواقب وخيمةً لنفسه ولمن حوله. يصبح بغيض المعشر، يحسد نجاح الآخرين، ويسيء الظّنّ بهم، ويحقد عليهم، ويجدّف على الله. ينساق إلى هلاك نفسه، وهو ممتلئ مرارة. هذه العوارض غالبًا ما تظهر لدى أشخاص نزل بهم حزن كبير أو ألم، وبدل أن يكثّفوا صلاتهم وحضورهم إلى الكنيسة، ينقطعون عنها كلّيًّا، فيحرمون أنفسهم دواء الخلود والتّواصل السّرّيّ مع أمواتهم. إنّ مشكلة المحزونين والمتألّمين لا تكمن في كيانهم، بل في طريقة مواجهتهم للأحزان.

أمام صراخ الكنعانيّة، لم يكتف المسيح بعدم الإجابة، بل أبدى ازدراءً شديدًا إذ تلفّظ بكلمات قاسية كان من المفترض أن تفتّت نفس الكنعانيّة، وأن تطرحها في أعماق اليأس، وتقودها إلى إنكار محبّة المسيح. نعم، شافي إسرائيل، الّذي أبرأ الممسوسين وطهّر البرص وأعطى النّور للعميان، لا يمكن أن يكون إلّا محبّةً. لم تفكّر الكنعانيّة بأنّ المسيح، المحبّة المتجسّدة، يبدي قسوةً أو تمييزًا بين الأشخاص، مع أنّه قال لها: "لم أرسل إلّا إلى الخراف الضّالّة من بيت إسرائيل" و"ليس حسنًا أن يؤخذ خبز البنين ويلقى للكلاب". لقد أبدت إيمانًا كبيرًا، ولم تتراجع، وقد امتلأت من الحكمة المتواضعة وإدانة الذّات. تبنّت كلمة المسيح القاسية، وقالت: "الكلاب تأكل من الفتات الّذي يسقط من موائد أربابها". لم تنجرح كرامتها لانتمائها الأمميّ، ولم تحقد على إسرائيل. فألمها تجاوز الحدود الجغرافيّة ونفذ إلى مركز الحياة. ما يهمّها هو المسيح، لذلك لم يخب رجاؤها في ما تطلبه. وإذا بها  تسمع من المسيح الكلمة الّتي أصبحت فعلًا: "يا امرأة، عظيم إيمانك، فليكن لك كما أردت". فشفيت ابنتها من تلك الساعة.

إنّ قصّة المرأة الكنعانيّة تكشف لنا زاويةً مهمّةً ودقيقةً جدًّا من دقائق الحياة الرّوحيّة: كثيرًا ما يصمت المسيح. نصلّي ولا يبارك صلاتنا. نطلب ولا نجد. نقرأ في سير القدّيسين أنّ المسيح يبدي حيال صلاة الكثيرين منهم قسوةً بالغةً، إذا صحّ التّعبير. لكن ما هذه سوى محبّة المسيح المؤدّبة، الّتي يمنحنا إيّاها لكي يخرج إلى النّور ما فينا من قوًى خفيّة على الصّبر، ولكي نتعلّم الصّلاة المتواضعة. بهذه الصّلاة نطرد عنّا شحنة الكبرياء الشّيطانيّة ونثبت في محبّة المسيح. هكذا تعلّمنا خبرة القدّيسين أنّ الصّلاة المتواضعة هي الّتي ستسمع من المسيح في النّهاية عبارة: "فليكن لك كما أردت".

يا أحبّة، على عكس المرأة الكنعانيّة، الوثنيّة، الّتي آمنت بالمسيح رغم ما أظهره من قسوة تجاهها، نجد اليوم أناسًا، يدّعون أنّهم مسيحيّون مؤمنون، وينتقدون الكنيسة ورجالها، مدفوعين من مصالحهم الشّخصيّة، أو من زعمائهم وأحزابهم، الّذين ينزعجون من كلمة الحقّ الّتي تقولها الكنيسة، غير محابية وجه أحد. لقد أصبحت وسائل التّواصل الاجتماعيّ كالمزبلة، يرمي فيها كلّ من ظنّ نفسه قاضيًا عادلًا، نفايات أفكاره. فمنهم من يطلق الإشاعات، ومنهم من يستبيح الكرامات، وآخرون يشتمون ويهينون ويحاكمون النّيّات، وينصّبون أنفسهم ديّانين لإخوتهم، أو يتطاولون على الكنيسة، ويطوّعون الإنجيل حسب أهوائهم عوض أن يطيعوه، لكنّ الكنيسة أمّ وهي تسامح أبناءها المسيئين إليها مهما فعلوا. إنّما على أولئك أن يتذكّروا أنّ الكنيسة، أو مجموع المؤمنين، هي جسد المسيح، وفي النّهاية، أيّ تجنّ على هذا الجسد، إن لم ينكشف على هذه الأرض، فإنّه سيعلن أمام ملائكة الله في اليوم الأخير، "وهناك البكاء وصريف الأسنان" كما يقول الرّبّ.  

على النّاس ألّا تنقاد وراء كلّ من يسخّره الشّيطان في ضفر أكاليل الشّوك الّتي يحاول إلباسها للكنيسة ولإخوته. آلام المسيح وأشواكه تحوّلت فرحًا قياميًّا وربيعًا مزهرًا، أما من جعل نفسه ألعوبةً في يد الشّرّير، فسوف يرميه الشّيطان ويتخلّى عنه في منتصف الطّريق، بحثًا عن غيره ليوقعه في شباكه، وعندئذ لن ينجّيه أحد من النّار الّتي لا تطفأ، والظّلمة البرّانيّة والدّود الّذي لا ينام. الله في وسط كنيسته فلن تتزعزع، مهما حاول البعض رمي تقصيرهم عليها، متّهمينها باللّامبالاة بشؤون النّاس وآلامهم، ومهما حاولوا استغلال آلام مناصريهم ومآسيهم في سبيل النّيل من سمعتها. الكنيسة تعترف بأخطائها عندما تخطئ، لأنّ العاملين فيها من البشر، لكنّها من جهة أخرى، لا تطبّل وتزمّر عندما تعمل لخير الإنسان. الكنيسة تعمل عكس رجال السّياسة والزّعماء وذوي المصالح، ولا تستغلّ أولاد النّاس ومآسيهم لتشهّر بأحد، بل تبلسم الجراح بدل نكئها. فتعلّموا منها، لأنّها تعلّمت من المعلّم الأوحد، المسيح الإله.

يا أحبّة، إنجيل اليوم يدعونا، عبر المرأة الكنعانيّة، أن نحتمل القسوة والآلام، وألّا ننقاد إلى اليأس الموصل إلى نكران المسيح، مثلما فعل يهوذا الإسخريوطيّ. هذا هو موقف الكنيسة أمام كلّ موجات الشّرّ الهادرة ضدّها، وهذا الموقف الّذي تشجّع الكنيسة أبناءها على اعتماده أمام كلّ عاصفة شيطانيّة.

نحن نمرّ الآن في فترة صعبة تسبق الانتخابات، وكلّ فئة أو حزب سيجنّد كلّ الوسائل من أجل محاربة الآخرين وتشويه سمعتهم والنّيل من كراماتهم والتّشكيك بصدقهم، بالإضافة إلى مدح النّفس والاستعلاء. الرّبّ يسوع المسيح ظهر صامتًا أو غير آبه بصراخ المرأة الكنعانيّة لأنّه في الحقيقة كان ناظرًا قلبها وإيمانها، وأراد أن يزكّي اتّضاعها وحرارة طلبتها أمام الجميع ليتعلّموا. إنّ الله وحده "فاحص القلوب والكلى" (مز 7: 10) "ويعلم خفايا القلب" (مز 43: 22) وهو وحده يعرف نيّة المرشّحين وإرادتهم الحسنة، لذلك على الشّعب أن لا يتأثّر بالدّعايات الانتخابيّة وبالتّجريح المتبادل، بل عليه النّظر في برنامج المرشّحين وخبرتهم وماضيهم النّاصع، وإنجازاتهم ونزاهتهم وتواضعهم وعدم تبجّحهم. عليه إعمال حسّه النّقديّ، وسماع صوت ضميره وحسب، من أجل اختيار أفضل الممثّلين له، بإرادة حرّة وقناعة أنّهم سيقودون البلد إلى الخلاص.  

بارككم الرّبّ وأعطاكم إيمانًا صادقًا ووداعةً وتوبةً عميقةً كالكنعانيّة الّتي انتزعت رحمة الرّبّ بتواضعها، وأبعد عنكم كلّ شرّ، آمين."