لبنان
14 شباط 2022, 06:55

عوده: على الدّولة أن تكون الأمّ والملجأ لا الجلّاد

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- بيروت، متأمّلاً في مثل الفرّيسيّ والعشّار الّذي يهيّء للصّوم الأربعينيّ المقدّس.

وللمناسبة، ألقى عوده عظة بعد الإنجيل المقدّس قال فيها: "أحبّائي، تدخلنا كنيستنا المقدّسة اليوم في فترة التّهيئة للصّوم الأربعينيّ المقدّس، منطلقةً من مثل الفرّيسيّ والعشّار. وضعت كنيستنا هذا المثل في البداية، لكي تظهر لنا المضمون الحقيقيّ لهذه الفترة المباركة. فالزّمن المقبل هو زمن الصّلاة والتّنهّد كالعشّار، الصّلاة الحقيقيّة المتواضعة الّتي تثمر الخلاص.  

في هذه الفترة تتمزّق أقنعة الكبرياء الفرّيسيّة، وينكشف ما للأهواء من أقنعة بشعة تشوّه نفوسنا. وفيما تحاول الكنيسة في هذه الفترة أن تنتزع أقنعة الكذب والمراءاة من حياة أبنائها، يتسلّى العالم متنكّرًا بالأقنعة ومتخفّيًا بالوجوه المستعارة، الّتي يفضح كثير منها عورات داخليّةً تحطّ من قيمة الإنسان.  

لقد جبل الإنسان على صورة الله ومثاله، و"صورة الله الّذي لا يرى" (كو 1: 15) هي المسيح ابن الله. إذًا، نحن على صورة المسيح، هو مثالنا، وحياة الكنيسة كلّها تهدف إلى أن نلبس نحن التّرابيّين صورة السّماويّ (1كو 15: 49)، أيّ أن نصير مشابهين للمسيح. لذلك نسير قدمًا، ناظرين إلى مبدئ إيماننا ومتمّمه يسوع (عب 12: 2). لا نحدّق في الأوثان، بل نسحق كلّ ما بيننا وبين شخص المسيح من أصنام. المسيح هو حياة العالم، وفي شخصه استردّت طبيعتنا واستعادت جمالها الأوّل، وكلّ إنسان يريد استرداد مسيرته الطّبيعيّة لا بدّ له من أن يقابل وجهه بوجه المسيح كما في مرآة، متغيّرًا على صورة خالقه، ومستمدًّا منه القوّة.

هذه الحقائق الأساسيّة ستساعدنا على إدراك أصل الدّاء الرّوحيّ الّذي يعاني منه الفرّيسيّ. لم ير هذا النّاموسيّ أبعد من ذاته إذ "وقف يصلّي في نفسه...". لم يقل المسيح إنّ الفرّيسيّ "رجع إلى نفسه"، ما يعني أنّه لم يجمع نفسه لكي يوجّهها نحو الله، لكنّه كان يصلّي إلى الله ملتفتًا نحو وثن نفسه. في الجوهر، لم يصلّ الفرّيسيّ، لأنّ الصّلاة انفتاح وتواصل، وهو انغلق على نفسه في أنانيّته. لقد انغلق على محبّته لأناه، الّتي كانت قادرةً حتّى على ادّعاء الرّحمة: "أعشّر كلّ ما هو لي...". لبس قناع البرّ والمحبّة دون أن يعرف ما لهاتين الفضيلتين من معنى. إعتمد على حفظ ظاهريّ للنّاموس، لأنّ جلّ همّه كان أن يظهر نفسه بارًّا، فلبس قناع البرّ حتّى في وقت الصّلاة، فكشفت صلاته أنّ نفسه هي المعبودة، وأنّها كانت مثاله الأعلى.  

أمّا العشّار فعاد إلى بيته مبرّرًا، لأنّه تواضع قدّام الله. لم يحاول أن يبرّر نفسه، بل طلب الرّحمة والتّبرير من الله. يقول الآباء إنّ معرفته كانت مزدوجةً إذ انقسمت إلى معرفة ضعفه الخاصّ، ومعرفة قوّة الله.

من جهة ثانية، لم يجد الفرّيسيّ عيبًا في نفسه عندما كان يصلّي. بخلاف أبرار العهد القديم الّذين كلّما عاينوا الله هتفوا: "أنا أرض ورماد"، وبخلاف القدّيسين الّذين رأوا أنفسهم "أرضًا خاطئةً"، راح يصلّي داخل الهيكل مسترسلًا في الشّكر على فضائله. نعم، الشّكر من مقوّمات الصّلاة، لكنّ الصّلاة تقوم أيضًا على الاعتراف والطّلب. فعندما لا نعترف بخطايانا، ولا نطلب إلى الله أن يفتح لنا طرق التّوبة، يعني ذلك إمّا أنّنا سمونا على الجسد وصرنا نعيش كالملائكة، أو أنّنا في ضلال فظيع. إنّ ضلال الفرّيسيّ يبرز في اقتران شكر أنّه بالإدانة، إذ مجّد نفسه وأدان العشّار، وهكذا بانت صلاته عقيمةً، لأنّ "من يرفع نفسه يتّضع"، وقد عاد إلى بيته فارغًا من نعمة الله.

إنّ تبرير الذّات له علاقة مباشرة بالإدانة. عندما لا يبرّر الله الإنسان، يبحث هذا الإنسان عن المديح الشّخصيّ إمّا في الحكم على الآخرين أو في مقارنة نفسه بالأدنى منه، محاولًا بذلك أن يظهر تفوّقه عليهم: "أشكرك لأنّي لست كسائر النّاس...". يجد القدّيس دوروثاوس أنّ خطيئة الفرّيسيّ تكمن في إدانته للعشّار، لأنّه يقول إنّ الشّكر على الفضائل أمر ممدوح. لقد حفظ الفرّيسيّ بعض فرائض النّاموس الخارجيّة الدّقيقة، وبحفظه لها شعر باكتفاء ذاتيّ، كونه رأى أنّه إنسان صحيح لا يحتاج إلى طبيب، وهو بذلك يشبه، للأسف، بعض المسيحيّين الّذين يختزلون الحياة المسيحيّة بفرائض خارجيّة تقويّة سهلة، إلّا أنّها لا تجلب الخلاص وحدها.

العشّار هو مثال الإنسان الّذي نال الخلاص. لا يزكّي نفسه ولا يدين الآخرين، بل يدين نفسه فقط، فيصير حرًّا من رأي الآخرين به. الفرّيسيّ يطلب أن يتمجّد، لذلك هو عبد لرأي الآخرين. إنّه شخصيّة مأساويّة، وصلاته في جوهرها هي محاولة يائسة "ليقنع" الله بفضيلته، فيما يدين الآخرين. إنّه لا يجرؤ على تسليم أمره لحكم الله، إذ لم تسمح له كبرياؤه بالاسترحام، فلبس ثوب البرّ وقناعه أمام الله. أمّا نحن، الرّاغبين في الخلاص، فلنهربنّ من تشامخ الفرّيسيّ، ونتعلّم تواضع العشّار، مثلما سمعنا في تراتيل اليوم.

يا أحبّة، إذا نظرنا حولنا اليوم، نجد الفرّيسيّة أينما التفتنا، خصوصًا خلال هذه الفترة الّتي يرى فيها كلّ زعيم وكلّ مسؤول وكلّ مرشّح إلى الانتخابات أنّه البارّ على السّاحة السّياسيّة والخدماتيّة، وأنّ الآخرين سيّئون ومقصّرون. للأسف، لبنان قائم على التّجريح والتّقبيح والانتقاد غير البنّاء، الأمر الّذي يزيد الكراهيّة والحقد عوض التّآزر والتّكامل والتّكاتف. بدل أن يعمل الجميع للخير العامّ، نجد الواحد يعرقل عمل الآخر بسبب الحسد أو المصلحة. وفي النّهاية، الخاسر الأوحد هو الشّعب، الّذي يأمل الخروج من الجحيم الّذي أوقعوه فيه، إلّا أنّه يخذل المرّة تلو الأخرى.

على السّاسة أن يتخلّوا عن فرّيسيّتهم الملغية للآخر، وأن يلتفتوا إلى ذواتهم، ويتفحّصوا ضمائرهم، ويعترفوا بتواضع، كالعشّار، بخطاياهم، ويلتمسوا رحمة الرّبّ وغفرانه قائلين: "أللّهمّ ارحمني أنا الخاطئ"، واضعين أنفسهم بين يدي الرّبّ.  

يا أحبّة، نحن جميعًا بحاجة إلى التّواضع، إلى معرفة الذّات وصغائرها، دون الالتفات إلى صغائر الآخرين والانشغال بها، لأنّ الله يعرف خفايا القلوب ويجازي كلّ واحد بحسب أعماله. فمن قصّر في أداء واجبه، ومن ظلم، ومن ألحق الأذيّة بالآخرين، ومن تغاضى عن فساد أو جريمة، ومن قهر المواطنين أو خان وطنه، عليه أن يحاسب نفسه كالعشّار، لا أن يتعالى ويتكبّر ويتجبّر.

هنا لا بدّ من استذكار ما حصل في 4 آب والضّحايا والآلام والدّمار الّذي خلّفه هذا التّفجير، وتكاد تنقضي السّنة الثّانية ولم تكشف الحقيقة بعد. إنّ مأساة الطّفل المغربيّ ريان حركّت ضمير العالم، وقد هبّت دولة المغرب وشعب المغرب إلى بذل كافّة الجهود من أجل إنقاذه، كما لاقت هذه القضيّة تضامنًا عالميًّا وتعاطفًا مع عائلته. نحن بدورنا رفعنا الصّلاة من أجل سلامته، وحزنّا لرحيله، ونطلب له الرّحمة والحياة الأبديّة. ليت المسؤولين عندنا والزّعماء، وكلّ ذي سلطة، تعامل مع مأساة أهل بيروت المنكوبة، كما فعلت دولة المغرب. هنا أيضًا أطفال أبرياء، وشبّان وشابّات وكهول، كانوا تحت الأنقاض، وبقي أنينهم يصمّ الآذان أيّامًا، لكنّ دولتنا ظهرت عاجزةً عن إنقاذهم، لكي لا نقول مقصّرة. حتّى حقيقة ما جرى استكثروها على العائلات المفجوعة، وما زالوا يعرقلون مجرى التّحقيق، ويمنعون ظهور الحقيقة، متسلّحين بالقانون الّذي لم يحترموه يومًا، غير مدركين أنّ الرّحمة في مثل هذه الحالة تتقدّم على القانون، ومن يدّعي العمل من أجل الشّعب عليه أن يكون في خدمة الشعب. ما ينقصنا هو المحبة والرحمة والتضامن، والوطنية الصافية غير المشوبة بالمصلحة والأنانيّة والفساد. الأخوّة الصّادقة تنقذ بلدنا من كلّ شرّ متربّص، أمّا التّناحر الدّائم فلا يجدي نفعًا، بل هو تأكيد على أنّ كلّ طرف لا يأبه إلّا لأناه، ولا يهمّه أمر الشّعب المسكين المجرّح.

أمر آخر لافت يجري عندنا، هو إثقال كاهل المواطن بالضّرائب والمدفوعات، وآخرها حديث عن رفع سعر الكهرباء الغائبة عن البيوت والشّوارع. من الطّبيعيّ أن تطالب الدّولة بحقوقها، إنّما بعد أن تعطي المواطن حقوقه، وبعد أن تقوم بكامل واجباتها. من أين سيدفع المواطن الزّيادات المرتقبة وهو غير قادر على إطعام أولاده؟ هل المواطن مسؤول عن انهيار الدّولة وإفلاسها، وعن تدهور سعر اللّيرة، وعن ضياع أمواله؟ أليس واجبًا على الدّولة أن تضع حدًّا للفساد في إداراتها، وأن تضبط حدودها وتوقف الهدر والتّهريب، والتّهرّب الضّريبيّ والجمركيّ، وأن تغلق الصّناديق غير النّافعة، والمجالس غير المنتجة، وتجبي مستحقّاتها، من ضمن خطّة إصلاحيّة واضحة، ورؤية اقتصاديّة مدروسة، وتخطيط ضروريّ لإنقاذ البلد؟ أليس على الدّولة أن تؤمّن لمواطنيها أبسط مقوّمات الحياة قبل أن تزيد الضّرائب؟

على الدّولة أن تكون الأمّ والملجأ لا الجلّاد.  

دعوتنا اليوم، أن نتمثّل بالعشّار المتواضع، الّذي نظر إلى أخطائه ولم يكن كالفرّيسيّ الدّيّان للجميع إلّا لنفسه. التّواضع يقي من فخاخ الشّرّير، ولا يجعلنا ننتفخ باطلًا، ظانّين أنّنا أفضل من سوانا. بارككم الرّبّ، وآزركم في تهيئتكم لدخول ميدان الصّوم الكبير المقدّس، آمين."