لبنان
09 نيسان 2023, 20:07

عوده: دعوتنا في هذا العيد المبارك، أن نصمّم على السّير في طريق الخلاص

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، قدّاس الشّعانين في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، وبعد الإنجيل ألقى عظة بعنوان "الله الرّبّ ظهر لنا، مبارك الآتي باسم الرّبّ"، جاء فيها:

"اليوم مع دخول المسيح إلى أورشليم، تنتهي فترة الصّوم الأربعينيّ المقدّس، وننتقل مساء إلى مرحلة جهاديّة أكثر خشوعًا ومهابة، أعني الأسبوع العظيم المقدّس، الذي فيه تتكثّف الصّلوات، ويتّسم الصّوم بالشّدّة والجهاد الرّوحيّ، وتتسارع الأحداث وصولًا إلى القيامة البهيّة. فعندما حان أوان آلام المسيح من أجل خلاص البشر، حضر إلى أورشليم حيث كان اليهود بانتظاره ليستقبلوه استقبال الظّافرين. يرتبط هذا الاستقبال بشكل وطيد بمعجزة إقامة لعازر الرّباعيّ الأيّام. لقد كان اليهود يائسين من أوضاعهم الاجتماعيّة، ويتطلّعون إلى مجيء المسيا، فتعجبوا من حدث إقامة لعازر المذهل، وظنّوا أنّ يسوع هو القائد المنتظر لإسرائيل، بالمعنى السّياسيّ، إذ إنّ فكرة المسيا عند اليهود كانت تختلط مع فكرة التّحرّر الوطنيّ من الإمبراطوريّة الرّومانيّة، والحصول على الحقوق القوميّة من دون الحاجة للرّجوع إلى سلطة أجنبيّة أعلى. يقول القدّيس كيرلّلس الإسكندريّ: «أمس، احتفلت بيت عنيا، بينما اليوم الكنيسة كلّها تبتهج بحضوره الإلهيّ. أمس وهب المسيح الحياة للعازر، واليوم هو يقترب من الموت. أمس أقيم المائت ذو الأربعة الأيّام، واليوم هوذا الذي سوف يقوم بعد ثلاثة أيّام، يدخل إلى أورشليم».

رغم هتافات الشّعب عند إقامة لعازر، وتوقّعاتهم من المسيح، فقد تمّ دخول المسيح إلى أورشليم كملك منتصر، بتواضع عميق، قالبًا كل القواعد البشريّة والصّورة التي كوّنها النّاس عن إلههم. لقد انتظر الشّعب اليهوديّ المسيا ملكًا ينتصر على الأعداء ويدخل مظّفرًا إلى أورشليم، فإذا بيسوع يأتي بصورة ملك وديع، حامل السّلام للجميع. لم يدخل إلى أورشليم دخول الظّافرين، أيّ بقوة وسلطان عظيمين. إنّه ملك إسرائيل الجديدة، وليست لحكمه علاقة بالمجد العالميّ، لأنّ مملكته ليست من هذا العالم، وهي مملكة السّلام والمحبّة والاتّضاع. يقول القدّيس كيرلّلس الإسكندريّ أيضًا: «لقد صار المسيح إنسانًا وأتى إلى أورشليم بصورة خادم، كعريس وكحمل لا عيب فيه، مقدّمًا كضحيّة، بتواضع عظيم، كقطرة على جزة الصّوف، وبهذه الصّورة المتواضعة حطّ المقتدرين عن عروشهم ورفع المتواضعين». ويقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: «لا يأتي المسيح إلى أورشليم وإلى التّاريخ مثل الملوك والقادّة الآخرين. إنّه ليس صانع شرّ، قاسيًا، مصحوبًا بالحرّاس وحاملي الرّماح، ولا يتبعه جنود نهّابون يطالبون النّاس بالضّرائب والأعمال والخدمات التي تؤذي وتذل. إنّ راية المسيح هي التّواضع والفقر والضّعف». لم يكن تواضع المسيح فضيلة مصطنعة خارجيّة، بل كان تعبيرًا عن محبّته وبساطته. تواضعه المترافق مع بساطته ومحبّته هو في الحقيقة قوّته غير المخلوقة، الآتية من طبيعته الإلهيّة. لذلك عندما يمنح القدّيسون أن يروا المسيح في مجده، فهم يؤسرون بمحبّته وتواضعه.

يقول القدّيس كيرلّلس إن المفارقة هي أنّ الأطفال أنشدوا المدائح للمسيح على أنّه إله، فيما آباؤهم، رؤساء الكهنة والكتبة، كانوا يجدّفون عليه. الأطفال تعرفوا على ربّ الخليقة، بينما أثبت الآباء ضلالهم. الأطفال صرخوا «هوشعنا»، خلّصنا يا الله، فيما آباؤهم صرخوا «ليصلب». من هنا، يشجعنا القدّيس غريغوريوس بالاماس قائلًا: «لنكن أيضًا أيّها الإخوة أطفالًا في الشّرّ». عندما يكون الإنسان طفلًا من ناحية ما يتعلّق بالشّرّ، يتقوّى بالله، ويمسك بجوائز النّصر والغلبة، ليس فقط على الأهواء الشّريرة، بل أيضًا على الأعداء المنظورين وغير المنظورين.

مشكلتنا في هذا البلد أنّ الشّرّ أصبح مستشريًا، وقد ابتعد الجميع عن براءة الأطفال التي تستطيع أن تذلّل كلّ الصّعوبات، وتمسّكوا بالشّرّ ومفاعيله، وبالإنتقام والأحقاد والضّغائن، فأصبح البلد وجميع من فيه فريسة للشّرير المتحكّم بالنّفوس والقلوب والعقول. وبدل أن يتعلّق المسؤولون بالرّبّ صارخين نحوه: «هوشعنا» أيّ خلّصنا، ويجاهدوا في سبيل هذا الخلاص، فإنهم يقبعون في أماكنهم منتظرين الخلاص من الأمم. لقد مضت عقود ولبنان غارق في الآلام، ألم يحن وقت قيامه من الهاوية؟ ما الذي يؤخّر انتظام سير مؤسّسات الدّولة من أعلى الهرم إلى أسفله؟ لماذا يخاف كثيرون من إرساء دولة القانون والمؤسّسات؟ ربّما لأنّ هذا سيمنع انتشار الفساد ويقف عائقًا أمام الإستمرار في نهش ما تبقّى من خيرات الوطن، ومن استباحة أرضه واسترهان شعبه. ما ينقصنا هو الإرادة، إرادة الإصلاح والإنقاذ، كما تنقصنا شجاعة القرار. عسى تكون هذه المواسم المباركة مناسبة للرّجوع إلى الضّمير ومحاسبة النّفس على كلّ خطأ أو خطيئة.

دعوتنا في هذا العيد المبارك، أن نصمّم على السّير في طريق الخلاص، وأن نعرف أن هذا الخلاص لا يأتي عن طريق البشر، بل هو عطيّة إلهيّة للّذين يجاهدون حقًّا من أجل نواله. ولنفرح في الرّبّ كل حين كما سمعنا في الرّسالة. فمهما اشتدّت الصّعوبات على المؤمن يبقى إلهنا، إله المحبّة والسّلام، حافظا لنا ومعينًا. فلنضع رجاءنا على الرّبّ ولنصرخ مع الأطفال: "هوشعنا... خلصنا يا ابن داود... مبارك الآتي باسم الرّبّ".