عوده: دعاؤنا أن نجد في لبنان من يحبّ بلده وأبناء بلده حتّى الموت
"يا أحبّة، في أحد الفصح، مع بزوغ نور القيامة من القبر الفارغ، سمعنا الإنجيليّ يوحنّا يقول عن الرّبّ يسوع: "فيه كانت الحياة والحياة كانت نور العالم، والنّور يضيء في الظّلمة، والظّلمة لم تدركه... كان النّور الحقيقيّ الّذي ينير كلّ إنسان آتيًا إلى العالم" (يو 1: 4-9).
في القيامة خلقنا الله من جديد وأشرق نوره مجدّدًا فينا بعد أن حجبت الخطيئة هذا النّور زمنًا. نور الخلاص، نور الرّبّ القائم من بين الأموات يشعّ من جديد من خلال حادثة شفاء الأعمى منذ مولده، الّذي فتح الرّبّ عينيه، فآمن ببصيرته وقلبه بأنّ يسوع هو ابن الله.
سمعنا في الإنجيل أنّ يسوع، فيما كان مجتازًا، رأى إنسانًا أعمى منذ مولده فتفل على الأرض وصنع من تفلته طينًا وطلى بالطّين عيني الأعمى وقال له إذهب واغتسل في بركة سلوام، وعندما اغتسل عاد بصيرًا. الرّبّ يسوع رأى الأعمى وليس الأعمى هو من رأى يسوع، ولم يهمله، لأنّ كلّ إنسان هو خليقة الله وجدير بالاهتمام. وكما جبل الله الطّين في البدء ونفخ فيه نسمة الحياة ليكون الإنسان، هكذا فعل مع الأعمى منذ مولده، ليكمل ما كان ناقصًا في طبيعته، مانحًا إيّاه البصر.
لقد قال الرّبّ لتلاميذه أثناء بشارته إنّه لم يعط للجميع أن يفهموا أسرار الله (لو 8: 10)، لأنّ بصيرتهم أعماها الحسد والبغض والأنانيّة. عندما قام الرّبّ يسوع من الموت، رفض رؤساء الكهنة اليهود الاعتراف بالقيامة، ولم يصدّقوا حاملات الطّيب وكلّ من رأى المسيح قائمًا، وبعد شفاء الأعمى رفض رؤساء الكهنة الاعتراف بأنّ يسوع هو المسيح المخلّص ابن الله، فيما قال لهم الأعمى: "لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا"، معلنًا إيمانه به وساجدًا له. من شدّة عماهم لم يستطع رؤساء الكهنة أن يروا يسوع إلّا مجدّفًا وخاطئًا، لأنّهم فضّلوا الظّلمة على النّور والظّلم على الحقّ.
هذا الأعمى لم يحرم البصر بسبب خطيئة فعلها هو أو أبواه. لقد فقد البصر "لتظهر أعمال الله فيه". لقد شكّل دينونةً لليهود الّذين عاينوا بعيونهم مجد الله، لكنّهم تنكّروا له مفضّلين حرف الشّريعة الميّت الّذي تعلّموه وتمسّكوا به، على نور القيامة والخلاص. فالشّفاء حصل يوم سبت ولم يكن المهمّ بالنّسبة لهم شفاء الأعمى بل حفظ السّبت. الحرف قاتل وأمّا الرّوح فيحيي. الأعمى لم يكن بحاجة إلى عينين مادّيّتين ليؤمن أنّ المسيح هو ابن الله. بصيرته أيقنت هذا، ولم يشكّل عمى عينيه حاجزًا دون معرفته الحقّ الّذي يحرّر. أمّا الفرّيسيّون فقد فضّلوا ظلمة الشّريعة على نور شمس العدل القائل: "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). لم يؤمنوا به "مع أنّه كان قد صنع أمامهم آيات هذا عددها" (يو 12: 37) ليتمّ فيهم ما قاله الله على لسان الأنبياء قديمًا وأعاد ذكره الإنجيليّ يوحنّا: "قد أعمى عيونهم وأغلظ قلوبهم لئلاّ يبصروا بعيونهم، ويشعروا بقلوبهم، ويرجعوا فأشفيهم" (يو 12: 40).
عندما سأل التّلاميذ الرّبّ يسوع: "من أخطأ أهذا أم أبواه حتّى ولد أعمى؟" أجابهم يسوع: "لا هذا أخطأ ولا أبواه، لكن لتظهر أعمال الله فيه". في العهد القديم ساد الاعتقاد أنّ المرض هو عقاب على خطيئة ارتكبها الإنسان أو أهله، وكأنّ الله يجازي الشّرّ بالشّرّ. طبعًا دخل الفساد إلى العالم بسبب الخطيئة، وصار المرض. فإذا كان النّاس يمرضون فبسبب الفساد النّاتج عن خطايانا وجشعنا وعدم احترامنا لما حولنا. لكنّ الرّبّ يسوع تجسّد لكي يخرجنا من هذه الدّوّامة ويمنحنا شفاء الرّوح والجسد. وقد رأى يسوع في الأعمى مناسبةً لكي يظهر رحمة الله نحو البشر وأنّه "قبل إبراهيم كائن" (يو 8: 58) أيّ إنّه إله أزليّ و"لو لم يكن هذا من الله لم يقدر أن يفعل شيئًا" كما أجاب الأعمى من سأله من الفرّيسيين عن شفائه. فهذا الشّفاء ولّد صراعًا بين الأعمى الّذي شفي وبين الفرّيسيين الّذين لم يستطيعوا تصديق أنّ من يخالف الشّريعة بعدم حفظ السّبت قادر على القيام بعمل إلهيّ، وبالتّالي يكون من الله. موقف الفرّيسيّين هو موقف الحاسد الخائف. يظهر ذلك من التّحقيقات الّتي أجروها مع الأعمى وأهله منكرين حقيقة المسيح. أمّا الأهل فكانوا خائفين من الفرّيسيّين الّذين قرّروا أن يخرجوا من المجمع كلّ من يعترف أنّ يسوع من الله، رغم حقيقة أنّ ابنهم كان أعمى منذ مولده وأنّ الرّبّ يسوع شفاه، ما يعني أنّه من الله.
أن يطرد إنسان من المجمع يعني أن يكون منبوذًا، وهذا ما أخاف الأهل وما يخيف إنسان هذا العصر الّذي يتردّد في اتّخاذ موقف واضح جريء خوفًا من دينونة الآخرين. إنّ العمى في نظر الكنيسة ليس هو عدم القدرة على النّظر والإبصار بل هو عمى القلب. لذا نسأل الله أن يشفي عمى قلوبنا لأنّ أعيننا الجسديّة غالبًا ما لا ترينا حقيقة الأمور. وحده نور المسيح يفتح أعين الجسد والقلب ويسمح برؤية الحقيقة ناصعةً.
عندما سمع المسيح بأنّهم طردوا الأعمى وطرحوه خارجًا، اقترب منه وسأله: "أتؤمن بابن الله؟". لافت أنّ المسيح هنا يدعو نفسه "ابن الله"، وليس "ابن الإنسان" كما في حالات أخرى. فعل هذا لأنّه وجد أمامه إنسانًا جاهزًا لقبول المعرفة الفائقة، أيّ لإعلان ألوهته. لقد أعطي من كان أعمى أن يعرف الله بعد أن قطع ارتباطه بالنّاس الّذين حرّفوا حقيقة النّاموس.
يا أحبّة، الإيمان الحيّ مزعج للّذين لا يملكونه، لأنّه يعارض عقليّة العالم السّاقط. الأعمى أبصر وآمن أكثر من المبصرين الّذين كانوا يقرأون التّوراة والنّاموس وعقولهم متحجّرة. لذلك لا يكفي أن تكون مسيحيًّا على الأوراق الثّبوتيّة، فيما قلبك وعقلك مع آلهة أخرى كالأنا والمال والسّلطة والجاه. المعادلة نفسها في المواطنة. فلا يعني شيئًا امتلاكك جنسيّةً لبنانيّةً إن كان انتماؤك إلى مكان آخر. لا يمكن لأحد أن يعبد ربّين، أو أن يكون أمينًا لجهتين قد تتعارض مصالحهما.
كيف يمكن لإنسان أن يمتلك جنسيّتين، وإلى أيّة جنسيّة يكون ولاؤه؟ فكيف إذا كان مسؤولًا؟
لقد نادى المسيح الفرّيسيّين مرارًا "يا أولاد الأفاعي"، لأنّهم حملوا السّمّ في عقولهم، وسمّموا به أبناء جنسهم. فماذا نقول عن فرّيسيّ زماننا الذين يسمّمون حياتنا؟
يا أحبّة، نستذكر اليوم إنسانًا استثنائيًا، رجلًا كبيرًا من لبنان، هامةً ديمقراطيّةً أصيلةً غادرنا منذ سنوات لكنّ أفكاره وأقواله ما زالت تتردّد في أذن كلّ إنسان عرفه وشاركه حبّ الوطن والإخلاص له والدّفاع عنه بكلّ جوارحه.
نصلّي اليوم لراحة نفس عزيزنا غسّان تويني ونفتقده في هذه الأيّام العصيبة، ونفتقد قلمه الجريء الصّريح الّذي كان يشير بوضوح إلى مكامن الخطأ، ويعرّي من تجب تعريتهم من الخطأة بحقّ الوطن. لم يعرف النّفاق والتّلوّن أو الاستزلام والتّبعيّة بل كان صادقًا، خلوقًا، حرًّا، يبحث دومًا عن الحقيقة ويشهد للحقّ مهما غلا الثّمن. عزيزنا غسّان لم يكن كما كان، لو لم يكن قلبه مسكنًا لربّه وصبره ثمرة إيمانه. غسّان ما كان ليسكت عمّا نعيشه اليوم من حقد وتضارب مصالح وتدنّ في الأخلاق والعمل السّياسيّ، ومن فساد وظلم وتخلّف، وهو المتمرّد الدّائم على الانحطاط الأخلاقيّ والفساد السّياسيّ، وحامل لواء الحرّيّة والدّيمقراطيّة والحوار والمحبّة. غسّان الّذي ذاق كلّ أنواع الآلام، صقلت الآلام نفسه، أمّا هو فقد صقل شخصيّته بالإيمان والمحبّة والتّواضع والعطاء والتّضحية، وداس على قلبه من أجل وطنه، وبدل أن يغلّب الحقد والانتقام بعد اغتيال فلذة كبده. طالب بدفن الحقد واعتماد المسامحة والمحبّة. هل من يسمع في أيّامنا ويتّعظ؟
غسّان ما كان ليقبل أن يتعذّب إنسان كائنًا من كان، أو أن يذلّ مواطن، أو أن يتألّم طفل. كان من الشّعب، حاملًا همومه وصارخًا باسمه، رافضًا كلّ ظلم أو غدر أو إجحاف، هذا الشّعب الّذي، من كثرة المصائب النّازلة عليه، أصبح يتأقلم مع كلّ ظرف ويسكت عن كلّ غبن وكأنّه روّض واستكان. غسّان ما كان ليرضى أن يصل وطنه إلى الانهيار ولا يحرّك ساكنًا، أو يقوم بمبادرة أو يطلق صرخةً مدوّيةً توقظ الضّمائر وتهزّ أركان الدّولة. حبّ لبنان في قلب غسّان طغى على كلّ حب، وإخلاصه للبنان دفعه إلى حمل لوائه إلى أقصى الأرض، ولم يكن لبنان قد وصل إلى ما هو عليه اليوم من انهيار. أين سياسيّونا من غسّان وجرأته وإيمانه بوطنه وإخلاصه له؟ أين الزّعماء اليوم من صدق غسّان ووطنيّته وتجرّده وصفاء انتمائه إلى لبنان؟ أين هم وقد تفكّكت دولتنا، وتحلّلت مؤسّساتنا، ودمّرت عاصمتنا، وسرقت مدّخراتنا، وذلّ مواطنونا، وأظلمت أيّامنا وليالينا؟ ألا يستحقّ لبنان وقفةً شجاعةً وموقفًا جريئًا وقرارًا سريعًا بالإنقاذ، على حساب كلّ المصالح والمراكز والمكتسبات الشّخصيّة والطّموحات؟ عودوا واقرأوا ما كتبه غسّان تويني وما فعله من أجل لبنان وتذكّروا مواقفه الجريئة علّ الذّكرى تنفع.
يا أحبة، دعوتنا اليوم أن نبصر جليًّا أنّ مخلّصنا الوحيد هو الرّبّ يسوع المسيح، وأنّ كلّ مدّع للعظمة على هذه الأرض لا يجلب على أبناء جنسه سوى البؤس والشّقاء. المسيح تجسّد وصار إنسانًا لأنّه أحبّنا، حتّى الموت. دعاؤنا أن نجد في لبنان من يحبّ بلده وأبناء بلده حتّى الموت، ولا نعني بالضّرورة الموت الجسديّ، بل الموت عن الأنا وشهوة السّلطة المميتة للجميع، آمين."