عوده: خلاص البلد يبدأ اليوم من أصواتكم في صناديق الاقتراع
"أحبّائي، يسمّى الأحد الثّالث بعد الفصح "أحد المخلّع"، ونقرأ فيه من إنجيل يوحنّا المقطع الّذي يحدّثنا عن الإنسان المشلول الّذي يجلس إلى جانب بركة بيت حسدا، ومعناها بيت الرّحمة، ينتظر من يرميه في مياهها متى حرّكها ملاك الرّبّ، لأنّ أوّل من ينزل في الماء بعد تحريكه يشفى من أيّ مرض اعتراه.
هذا المخلّع كان مقتنعًا أنّ مشكلته ليس لها حلّ. جلس على سريره جامدًا، بلا حراك، ولا حتّى صراخ يطلب من خلاله المساعدة كي ينال الشّفاء. لم يكن بعيدًا عن الشّفاء، لكنّه لم يجد سبيلاً للوصول إليه. ألا يذكّرنا وضع المخلّع ببلدنا، وشعبه المخلّع بسبب الأزمات والانقسامات والإذلال والاستعباد وغيرها، الّذي أصبح مقتنعًا بأنّ مشاكل بلده لا حلّ لها، ونراه أصبح مشلولاً، لا يتحرّك، ولا حتّى يريد أن يطلق صوته للاستنجاد، رغم أنّ الحلّ قد لا يكون بعيدًا.
حول البركة كان مضطجعًا جمهور كثير من المرضى ينتظرون تحريك الماء. صورة الجموع المريضة حول بركة بيت حسدا هي صورة العالم الّذي نعيش فيه، حيث يسعى كلّ فرد إلى مصالحه ولا يهتمّ بمصالح الآخرين، وحيث تطغى الأنانيّة والفرديّة على المحبّة.
سأل يسوع المخلّع: "أتريد أن تبرأ؟" أجاب المخلّع: يا سيّد، ليس لي إنسان متى حرّك الماء يلقيني في البركة. هكذا اللّبنانيّ، غالبًا ما يلقي سبب مشاكله على الآخرين، دون أن يفعل شيئًا، ولو بسيطًا، من أجل إنقاذ نفسه.
المخلّع مريض منذ ثمان وثلاثين سنةً، ولم يجد من يساعده، ولكنّه لم يفقد الصّبر والرّجاء. وها الرّبّ يسوع، المحبّ والرّحوم، الّذي يحمل معنا أتعابنا ويشفي أمراضنا، قد جاء لينتشله من مرضه ووحدته. سأله: "أتريد أن تبرأ؟... قم إحمل سريرك وامش". نقله من المرض إلى الشّفاء، من اليأس إلى الرّجاء، كما ينقلنا جميعًا من الموت إلى الحياة. هذا هو صلب عمله الخلاصيّ، عمله المجّانيّ تجاه بني البشر. وهو لا يهمل أيّ مخلّع أو مقعد إن بسبب المرض أو الخطيئة.
عندما تدخّل الرّبّ شافيًا المخلّع، كان اليهود له بالمرصاد فقالوا: "إنّه سبت، لا يحلّ لك أن تحمل سريرك". عندما حصل الخلاص لهذا الإنسان، جاء من يقمعه ويمنعه عن التّمتّع به. أراد اليهود أن يخضعوا هذا الإنسان لحرفيّة النّاموس لا لمحبّة الله. أرادوا تقييد عمل الله بناموس هو وضعه، وكأنّهم ملوك أكثر من الملك. هذا أيضًا نعاينه في بلدنا، الّذي يصون دستوره حرّيّة المواطنين، لكن عندما يعبّر المواطن عن رأيه الحرّ، يقمع باسم الدّستور والقوانين، الّتي لا يطبّقها الّذين يدّعون الدّفاع عنها، تمامًا كالفرّيسيّين اليهود.
اليوم، في هذا النّهار الانتخابيّ المفترض أن يكون ديمقراطيًّا، أملنا أن لا يعمل أحد على ترهيب المواطنين ومنعهم من استخدام حرّيّتهم في التّعبير عن رأيهم، كما نأمل أن يقوم كلّ اللّبنانيّين بواجبهم الوطنيّ، وألّا ينقادوا إلى من يرهبهم، أو يحاول شراء ضمائرهم، أو منعهم من التّعبير الحرّ عن رأيهم، أو غرس اليأس في قلوبهم.
ومن الواقع العربيّ، الّذي يشكّل واقعنا اللّبنانيّ صورةً مصغّرةً عنه، رأينا كيف تقمع أو تسكّت الأقلام الحرّة والحناجر المدافعة عن الحقّ والصّادحة بالحقيقة. فإلى قافلة الصّحافيّين الشّهداء في بلدنا وفي المنطقة العربيّة، انضمّت منذ أيّام الصّحافيّة المناضلة، المدافعة عن حقّ وطنها، شيرين أبو عاقلة، وهي تمارس عملها. فلروحها السّلام والرّاحة الأبديّة، علّ استشهادها يكون صوتًا مدوّيًا في وجه كلّ قمع واحتلال واستعباد وظلم وإرهاب.
يا أحبّة، اليأس من أسلحة الشّيطان القويّة، يهاجمنا به بحجج متنوّعة ودرجات مختلفة. يصيبنا اليأس بقدر ما نوليه اهتمامنا وانتباهنا، فإمّا تظلم آفاقنا ولا نعود نجد مخرجًا بسبب عدم مواجهتنا اليأس بالشّكل الصّحيح، عبر الإيمان والرّجاء، وإمّا نتشبّث بالمسيح وبالحرّيّة الّتي منحنا إيّاها وننطلق نحو النّور الّذي لا يعروه ظلام ولا فساد. المسيح، كلمة الله، يعمل بأساليب لا يستوعبها منطقنا البشريّ، وكما برز من القبر ومنح الحياة للعالم، هكذا يمكنه أن ينبت الرّجاء من صخرة اليأس البشريّ مهما كان قاسيًا. لا مصاعب الحياة، ولا الأزمات المعيشيّة ولا إرادتنا الضّعيفة ولا الشّرّ الّذي يحكم العالم يمكنه أن يقوى على محبّة الله الكلّيّة القدرة. يكفي أن نعترف أمامه بضعفنا، بإيمان صادق، ثمّ ندعه يعمل بحسب محبّته. فلا تدعوا شيطان اليأس يتغلغل في قلوبكم وعقولكم، جاعلًا إيّاكم تظنّون أنّ لا خلاص لبلدنا. خلاص البلد يبدأ اليوم، من أصواتكم في صناديق الاقتراع، فلا تتوانوا، ولا تتخاذلوا في ممارسة واجبكم الوطنيّ، لأنّكم أنتم المسؤولون عن مستقبل أولادكم ومرضاكم، وعن مصير أموالكم وممتلكاتكم، وعن جوعكم وعطشكم. المسؤوليّة الملقاة على عاتق الشّعب عظيمة في هذا النّهار، فإمّا أن يتحرّك، أو يبقى كالمخلّع منتظرًا الخلاص دون أن يفتّش عنه. لذا نقول لأحبّائنا اللّبنانيّين إنّ لكلّ ليل نهاية، وإنّ التّعويل على وعيهم وعلى إحساسهم بالمسؤوليّة وعلى إرادتهم في إنقاذ بلدهم.
يا أحبّة، نرتّل في الفترة الفصحيّة قائلين: "هذا هو اليوم الّذي صنعه الرّبّ، لنفرح ونتهلّل به". الشّعب مدعوّ اليوم إلى التّآزر في إرساء طريق الخلاص للبنان وناسه، وبناء دولة ديمقراطيّة، قويّة، عصريّة، ذات سيادة كاملة وموقف واحد وجيش واحد وشعب واحد، علّنا نفرح ونتهلّل بعد السّنوات العجاف الّتي مرّ بها الجميع. من لم يذهب بعد إلى الاقتراع، فليتذكّر يوم 4 آب المشؤوم وضحاياه، والمرضى الّذين لا يجدون دواءهم، والأبناء الّذين هاجروا، والعائلات الّتي تشتّتت.
لذا علينا أن نتحرّك وألاّ نستسلم لليأس. تذكّروا الأزهار الّتي تجد شقًّا صغيرًا في الصّخر القاسي، فتنبت وتضفي على الصّخر مسحة جمال. لا تيأسوا، بل تحرّكوا، إعملوا ما بوسعكم والرّبّ سيتحرّك معكم، لأنّه لا يشاء موت خليقته، بل يشاء خلاص الجميع، آمين."