لبنان
20 آذار 2023, 06:55

عوده: بلدنا يرزح تحت نير صليب عظيم وإن لم يتكاتف الجميع لترميمه سيسقط على رؤوس الجميع

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده، صباح الأحد، القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- بيروت.

وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عظة جاء فيها: "أحبّائي، لقد وصلنا إلى منتصف الطّريق المؤدّي إلى القيامة البهيّة. الصّليب الكريم المحيي يتوسّط ميدان الصّوم، مرتفعًا ومزيّنًا بالأزهار والرّياحين، في رسالة خلاصيّة واضحة، أنّ الألم سيزهر قيامةً، وعلينا أن نتشدّد بقوّة صليب الرّبّ، ونحمل صليبنا، ونتبع المسيح الحياة والغالب الموت.  

يأتي السّجود للصّليب الكريم اليوم تشديدًا للمؤمنين، لأنّ قوّة بعض الصّائمين قد تكون ضعفت، خصوصًا أنّنا نعيش في زمن رديء يفتقر فيه المرء إلى أبسط مقوّمات الحياة، إلّا أنّنا نؤمن بأنّ الرّبّ سيزيل سحابة الحزن والتّعب والألم، وسيكافئ محبّيه الصّابرين، لأنّ "الّذي يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص" (مت 24: 13). هذا يعني أنّ من يصبر يكون ممتلئًا رجاءً، والرّجاء بالرّبّ لا يخيب (رو 5: 5)، لذلك يطلب إلينا الرّسول بولس أن نكون "فرحين في الرّجاء، صابرين في الضّيق" (رو 12: 12) لنكون تلاميذ حقيقيّين لربّنا يسوع المسيح.

نسمع في إنجيل اليوم قول الرّبّ: "من أراد أن يتبعني، فليكفر بنفسه، ويحمل صليبه، ويتبعني". أيّامنا الحاليّة ملأى بشتّى أنواع الصّلبان، منها الخفيف ومنها الثّقيل جدًّا، وقد يبدو الكلام سرّياليًّا إذا قلنا إنّ علينا أن نحمل الصّليب بفرح، لأنّ الفرح قد هجر نفوس الكثيرين. لكنّنا لا نعني ذاك الفرح الأرضيّ، بل الفرح الّذي يغدقه علينا الرّبّ مصحوبًا بسلام روحيّ.  

بعض البشر ينتظرون الخيرات من الرّبّ، ولا يحتملون المرور بأيّ نار مطهّرة، مهما كانت خافتة، فيتذمّرون من التّجارب كما فعلت زوجة أيّوب الصّدّيق الّتي قال لها زوجها: "هل نقبل الخير من عند الله والشّرّ لا نقبل؟" (أي 2: 10). هذا الكلام لا يعني أنّ الرّبّ يسبّب الشّرّ والأذيّة، بل المقصود أنّ علينا تقبّل كلّ ما نمرّ به من حالات بلا تذمّر، بل بشكر دائم لله، على نعمه الممنوحة لنا، حتّى ولو كانت عبر دروس قاسية أحيانًا، مثلما حدث مع إبراهيم حين طلب منه الرّبّ تقديم ابنه ذبيحةً. هذا ما قصده الرّسول بولس بقوله: "إنّ كلمة الصّليب عند الهالكين جهالة، وأمّا عندنا نحن المخلّصين فهي قوّة الله" (1كو 1: 18). فالصّليب أو الألم يقود غير المؤمن إلى الهلاك بسبب عدم رجائه بالقيامة الآتية، أمّا المؤمن فينظر إلى الصّليب وأيّ ألم يتولّد منه على أنّه بركة تؤهّله للقيامة ونوال إكليل الحياة الأبديّة، لأنّ الرّبّ قال: "من لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقّني" (مت 10: 38). لهذا، يقول الرّسول بولس: "مع المسيح صلبت، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ. فما أحياه الآن في الجسد، فإنّما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الّذي أحبّني وأسلم نفسه من أجلي" (غل 2: 20). لذلك كلّ ما يمرّ به الإنسان في هذه الحياة، يجب أن يكون مقترنًا بالإيمان بابن الله، يسوع المسيح المصلوب، الّذي غلب الجحيم بصليبه وقام من بين الأموات مقيمًا الجميع معه.

أحبّائي، من يفقد رجاءه بالرّبّ وبالحياة الأبديّة يشقى كثيرًا، ولا يعود يرى لحياته معنًى، فيقرّر أن ينهيها. نسمع بحالات انتحار كثيرة، مردّها الحالة السّيّئة الّتي وصل إليها بلدنا، والتّدهور العظيم والمتسارع الّذي لم يوجد مسؤول على قدر من المسؤوليّة والإنسانيّة استطاع أن يحول دونه. مع هذا، فالانتحار ليس حلًّا، بل هو هروب من الواقع والألم وحمل الصّليب برجاء وصبر. يقول الرّسول بولس: "نفتخر أيضًا في الضّيقات، عالمين أنّ الضّيق ينشئ صبرًا، والصّبر تزكيةً، والتّزكية رجاءً" (رو 5: 3-5). طبعًا، لا أحد يدرك الحالة الّتي يقرّر فيها إنسان إنهاء حياته الأرضيّة، لكن علينا ألّا ننسى أنّ المسيح حضر على هذه الأرض لخلاص المتعبين وإراحتهم إن هم لجأوا إليه، هو القائل: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثّقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. إحملوا نيري عليكم، وتعلّموا منّي، لأنّي وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم. لأنّ نيري هيّن، وحملي خفيف" (مت 11: 28-30).

يقول القدّيس باييسيوس الآثوسيّ: "ما يحدث حولي كان ليصيبني بالجنون لو لم أكن متأكّدًا من أنّ الكلمة الأخيرة هي للرّبّ". هذا الكلام هو وليد خبرة روحيّة مع المسيح، وإيمان به، ورجاء كبير بوعوده. لم يصلب المسيح إلّا لخلاصنا، كي لا نيأس من انتظار الخلاص الآتي حقًّا. فاليأس يولّد الفراغ، والفراغ يجلب الموت. أمّا من يملأ نفسه بالمسيح، ناظرًا إلى الصّليب برجاء القيامة، فلا ييأس، ولا يفكّر في إنهاء حياته، بل يهرع إلى أحضان المسيح، إلى جسده- الكنيسة، حيث يجد الدّواء الشّافي لكلّ مرض يعتري نفسه. لذا، على كلّ مؤمن أن يعيد إلى حياته اللّجوء إلى سرّ التّوبة والاعتراف، الّذي شهد ركودًا في الآونة الأخيرة، لأنّه بذلك سيزيح عن نفسه جبالًا من الهموم والخطايا الّتي تثقلها، وترهقها إلى حدّ الموت، فيعود النّور إلى حيث كانت الظّلمة، ولا يكون مكان لليأس فيما بعد.

يا أحبّة، بلدنا يرزح تحت نير صليب عظيم، فقد أصبح خرابًا، وإن لم يتكاتف الجميع لترميمه سيسقط على رؤوس الجميع. أصبح بلدنا بيتًا بلا سقف، جدرانه مصدّعة، أبناؤه يائسون، والمسؤولون مشتّتون لا يأتون حراكا مفيدًا لتدارك الوضع. أمّا الّذين عليهم الإقدام فما زالوا متباعدين متناحرين مختلفين على كلّ ما يؤدّي إلى انتخاب رئيس. التّباعد بين مكوّنات الوطن شرّ بليّة يصاب بها مجتمع، ومع علمنا الأكيد أنّ انتخاب رئيس لن يصنع العجائب إن لم يقترن بخطوات أخرى ضروريّة، إلّا أنّه الخطوة الأولى في المسيرة الإنقاذيّة الطّويلة، يجنّب البلد انهيارًا أوسع ويساهم في التّصدّي للتّحدّيات المختلفة الّتي يواجهها البلد. لذلك أملنا أن يتعالى النّوّاب على خلافاتهم واختلافاتهم، وأن يتلاقوا ويتحاوروا ويتوصّلوا إلى حلّ لأزمة طالت كثيرًا.  

على الجميع تقديم هدف إنقاذ لبنان على هدف الوصول إلى السّلطة، وتغليب لغة العقل والحوار والحكمة على التّعنّت والتّصادم. وحدتنا الدّاخليّة هي أمضى سلاح في وجه أيّة مشكلة أو تدخّل أو تأزّم، والتّعلّم من أخطاء الماضي وصراعاته من شيم العقلاء، المدركين خطورة الوضع. ألا تقوم كلّ دولة بما يناسب مصلحتها؟ ماذا يمنعنا عن صنع مصيرنا بأيدينا؟ ألسنا المسؤولين عن حلّ مشاكلنا؟ وهل يدري من بيدهم القرار أنّ الوقت ثمين جدًّا وأنّه يمضي وتضيع الفرص؟

دعوتنا اليوم، في أحد السّجود للصّليب الكريم المحيي، أن نثق بمن بذل نفسه من أجل خلاصنا، مفتديًا إيّانا بدمه الطّاهر، دائسًا الموت، لأنّه لا بدّ أن يقيمنا معه، وينقذنا من خطايانا أوّلًا، ومن كلّ ألم ومضرّة. بارك الرّبّ حياتكم بقوّة صليبه المحيي، آمين".