لبنان
11 أيلول 2023, 05:55

عوده: بلدنا محكوم بالأنانيّات والمصالح والحسابات الوضيعة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس راعي أبرشيّة بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المتروبوليت الياس قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، حيث كانت له العظة التّالية:

"أحبّائي، سمعنا في إنجيل هذا الأحد الّذي يسبق عيد رفع الصّليب الكريم المحيي قول الرّبّ يسوع: "هكذا أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. فإنّه لم يرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم". يخبرنا الرّبّ عن صلبه الّذي حصل من أجل خلاص العالم.  

من رموز العهد القديم الحيّة النّحاسيّة الّتي رفعها موسى في البرّيّة قديمًا، وكانت رمزًا للصّليب الّذي رفع عليه المسيح، مهرقًا دمه من أجل خلاصنا. وقد أصبح الصّليب مصدر شفاء من مرض الخطيئة، وخلاص من الموت، وقيامة. أصبح الصّليب، الّذي كان أداة قتل وإجرام وإعدام، أداةً لخلاص البشر وقيامهم من موت حتّمه الشّرّير المقتنص. الحيّة في بدء الخليقة كانت سبب طرد آدم وحوّاء من الفردوس، وفي الخروج لدغت الحيّات الشّعب فمات كثيرون بسبب خطاياهم وكلامهم البطّال على الله ونبيّه موسى (عد 21). هاتان الحادثتان تظهران أنّ نتيجة الخطيئة موت إمّا جسديّ أو روحيّ كما حصل مع آدم وحوّاء ببعدهما عن الرّبّ. الحيّة النّحاسيّة هي حيّة ميتة، لا سمّ لها، ترمز إلى التّجسّد الإلهيّ الّذي به اتّخذ المسيح جسدنا الخاطئ، ونزع عنه الخطيئة ليخلّص جنس البشر من سلطان إبليس. يقول الرّسول بولس: "لأنّه جعل الّذي لم يعرف خطيئةً، خطيئةً من أجلنا، لنصير نحن برّ الله فيه" (2كو 5: 21). وعندما رفع موسى الحيّة النّحاسيّة، كان ذلك رسمًا لارتفاع المسيح بالجسد على الصّليب، فسمّر خطايانا معه، وأنقذنا من الموت، وأهّلنا للقيامة والحياة الأبديّة. لهذا، نحن نشدّد، في المعموديّة خصوصًا، على أن يلبس المعمّد صليبًا عليه المسيح المصلوب، ليس عدم إيمان منّا بأنّ المسيح قد قام بعد أن صلب، إنّما تشديدًا على أنّ الإنسان المعمّد قد خرج من جرن المعموديّة إلى قيامة حياة أسّسها له المسيح المصلوب، المنقذ إيّاه من موت الخطيئة الّذي كان إنسانه القديم غارقًا فيه. لهذا أيضًا نرتّل في المعموديّة كاطافاسيّات عيد رفع الصّليب، لأن بالصّليب أتى الفرح لكلّ العالم، وليس هناك فرح أعظم من حصول إنسان على الخلاص والقيامة والحياة الجديدة في المسيح يسوع. خلاص الشّعب قديمًا كان بالنّظر إلى الحيّة النّحاسيّة، أمّا نحن فخلاصنا هو عبر الإيمان بالرّبّ يسوع الّذي رفع على الصّليب من أجل خلاصنا. يقول الرّسول بطرس: "الّذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة لكي نموت عن الخطايا فنحيا للبرّ" (1بط 2: 24). إذًا، لا خلاص لنا بعيدًا عن الرّبّ المانح الحياة لنفوسنا.

ما يخلّص الإنسان بعد تجسّد المسيح وصلبه وقيامته ليس النّاموس الحرفيّ أي القانون، بل الإيمان بالرّبّ والعمل بوصاياه، وأهمّها وصيّة المحبّة الّتي تمثّلت بالصّليب. كلّ من أراد الخلاص عليه أن يحبّ، كما "أحبّ الله العالم حتّى بذل ابنه الوحيد". المحبّة الحقيقيّة ليست كلمات تقال أو شعارات تطلق، بل هي تطبيق أليم لوصيّة المسيح، فيها بذل وعطاء، فيها دموع ودماء، الأمر الّذي أراد الرّبّ أن يعلّمنا إيّاه بصلبه وموته. هذا ما تعلّمناه في العهد القديم من إبراهيم أبي الآباء، الّذي لم يرفض تقديم ابنه الوحيد ذبيحةً، لأنّه كان مؤمنًا حقيقيًّا. هنا ندرك عظمة المحبّة الإلهيّة، إذ استبدل الله إسحق بالحمل، ثمّ قدّم الله نفسه ابنه الوحيد حملًا بريئًا من العيب ذبيحًا على الصّليب. هنا نتعلّم أكثر أنّ فعل المحبّة يساوي فعل البذل، لهذا جمعهما الرّبّ يسوع معًا في كلامه، ثم ذكّرنا الرّسول بولس بفعل الفداء هذا قائلًا: "الّذي لم يشفق على ابنه، بل بذله من أجلنا أجمعين" (رو 8: 32).

إذًا، "لم يرسل الله ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم". هذا هو الفرق بين المسيح والنّاموس. فاليهود كانوا متمسّكين بحرفيّة النّاموس لذلك لم يعيشوا الكلمة بل كانوا ديّانين، في حين جاء المسيح وعاش على الأرض معلّمًا إيّانا أنّ علينا أن نحيا الوصايا، وألّا نستخدمها لإدانة أحد. بصليبه، خلّص المسيح الجميع، اليهود والأمميّين الّذين يبقى عليهم أن يحافظوا على خلاصهم عبر إيمانهم وعيشهم صليب المحبّة مع الجميع. هذا ما سبق النّبيّ إشعياء فقاله: "كشف الرّبّ عن ذراع قدسه على عيون جميع الأمم، فترى كلّ أطراف الأرض خلاص إلهنا" (52: 10).

يا أحبّة، العائلة هي من أهمّ صور المحبّة على هذه الأرض، وفي الوقت نفسه من أثقل الصّلبان. فأعضاء العائلة الواحدة يبذلون أنفسهم، بعضهم من أجل بعض. لقد عيّدنا منذ يومين لميلاد والدة الإله ولوالديها يواكيم وحنّة، كما نعيّد اليوم لثلاث أخوات شهيدات قدّيسات، والأسبوع المقبل لأمّ شهيدة هي القدّيسة صوفيّا وبناتها الثّلاث. ما يجمع العائلة هو رابط المحبّة المضحّية الّتي لا تطلب شيئًا لنفسها ولا تخفي أيّة غاية. يقول بولس الرّسول: "المحبّة لا تحسد، المحبّة لا تتفاخر ولا تنتفخ ولا تقبّح ولا تطلب ما لنفسها... ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحقّ" (اكو13).  

المحبّة يجب أن تتجلّى أيضًا بين أفراد المجتمع، بين المواطنين الّذين يخضعون لنفس القوانين ويقدّمون الواجبات نفسها، ويدينون بالولاء لوطنهم لا لزعماء الوطن. المسيح مات عن البشر ولم يمت البشر من أجل تحقيق أهدافه أو أهوائه. في لبنان الحاكم والزّعيم والكبير والمستكبر كلّهم يعيشون على أشلاء الوطن والمواطن. لم يعد عيب في هذا البلد، ولم يعد للعيب معنىً ولا للأخلاق قيمة. بلدنا محكوم بالأنانيّات والمصالح والحسابات الوضيعة. كلّ شيء مباح حتّى تدمير الدّولة وتدمير القضاء. الدّول العظمى في العالم عظيمة بقوّة القانون فيها وبسلطته على الجميع. لا كبير فيها فوق القانون، وكبارها يساقون أمام القضاء ولو كانوا رؤساء. الإنسان الكبير كبير بأخلاقه لا بتكبّره على القانون واحتقاره للعدالة. في بلدنا يفتخرون بتجاوز القوانين والالتفاف على الدّستور والهروب من العدالة، يفتخرون بأنّهم متبوعون ومبجّلون ومغفورة خطاياهم من أتباعهم. ألا يدركون أنّ الله وحده يدين ويغفر؟ وأنّ الحقّ يحرّر فيما الخطيئة تأسر واللّاأخلاق في لبنان تفسد؟ الحقّ عندنا أسير الظّلم والكذب وعبادة الذّات والمصالح. ماذا يمنع انتخاب رئيس لولا المصالح الّتي تتجاوز الدّستور؟ ماذا يمنع تحقيق العدالة في قضيّة تفجير مرفأ بيروت لولا تجاوز القانون وإعاقة عمل القضاء وغياب الضّمير والاستهانة بقيمة الإنسان؟ ماذا يمنع كشف المجرمين والفاسدين لولا التّغاضي عن الحقّ الّذي هو سيّد في البلاد الرّاقية ومغيّب عندنا من أجل تغطية المصالح وتنفيذ الغايات؟ ولكن إلى متى يمكن أن يستمرّ الوضع على هذه الحال؟

دعوتنا اليوم هي إلى حمل الصّليب بفرح، لأنّ الصّليب هو تأكيد إلهيّ لنا أنّ القيامة آتية لا محالة، شرط أن نؤمن بمن صلب ومات وقام ليخلّصنا، آمين."