لبنان
02 تشرين الأول 2023, 05:55

عوده: بلدنا بحاجة إلى سلطة تعالج كافّة المشاكل وكلّما طال المأزق كلّما فرغ لبنان من أبنائه

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، يظهر الإنجيليّ لوقا، في إنجيل اليوم، قاعدةً أساسيّةً على الإنسان أن يتبنّاها لكي يبني على أساسها علاقته بأخيه الإنسان، على مثال العلاقة الّتي أرساها الله معنا نحن خليقته. تختصر هذه القاعدة كلّ فضيلة ووصيّة، كلّ عمل ورأي صالح. إنّها المحبّة المجّانيّة تجاه الجميع، الّتي لا تطلب أيّ مقابل: "فإنّكم إن أحببتم الّذين يحبّونكم فأيّة منّة لكم؟ فإنّ الخطأة أيضًا يحبّون الّذين يحبّونهم".

الإنسان الّذي يحبّ أخاه يظهر محبّته تجاهه عبر رحمته ومغفرته له، كما فعل الرّبّ يسوع عندما أحبّنا حتّى الصّليب، باذلًا نفسه من أجل خلاصنا. وقد أوصانا قائلاً: "كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم". يقول الرّسول يوحنّا: "هو كفّارة عن خطايانا وليس عن خطايانا فقط، بل عن خطايا العالم كلّه أيضًا" (1يو 2: 2).

قد يتساءل البعض كيف نكون رحماء. لقد قدّم الرّبّ يسوع جوابًا عن هذا التّساؤل بقوله: "أحبّوا أعداءكم وأحسنوا وأقرضوا غير مؤمّلين شيئًا فيكون أجركم كثيرًا وتكونوا بني العليّ، فإنّه منعم على غير الشّاكرين والأشرار" (لو 6: 35)، ويضيف: "لا تدينوا فلا تدانوا، لا تقضوا على أحد فلا يقضى عليكم، اغفروا يغفر لكم، أعطوا تعطوا... لأنّه بالكيل الّذي تكيلون به يكال لكم" (لو 6: 37-38).  

الرّحمة تتجلّى قبل أيّ شيء في المغفرة: "لا تدينوا فلا تدانوا...". لم يقصد الرّبّ أن يقلب موازين العدالة البشريّة، إنّما يذكّر تلاميذه بأنّ عليهم التّوقّف عن إصدار الأحكام والإدانات، والنّظر إلى الذّات من أجل إدراك الخطايا الذّاتيّة والتّخلّص منها.

المغفرة هي العمود الفقريّ الّذي تستند عليه كلّ حياة الجماعة المسيحيّة، لأنّ فيها تتجلّى مجّانيّة المحبّة الّتي أحبّنا بها الله أوّلًا. لماذا على المسيحيّ أن يغفر؟ لأنّه قد غفر له. ألم يعلّمنا الرّبّ في الصّلاة الرّبّانيّة أن نقول: "واترك (أغفر) لنا ما علينا كما نترك (نغفر) نحن لمن لنا عليه؟" لقد علّمنا الرّبّ أن نغفر للآخر، ثمّ وضع هذه المغفرة شرطًا لكي نحظى نحن بدورنا بمغفرته، وطبعًا ما من أحد لا يحتاج إلى مغفرة الله. لهذا، علينا أن نحيا المغفرة دومًا، حتّى نحصل عليها دومًا. هذا يعني أن نغفر الإساءة، أن نغفر أمورًا كثيرةً تزعجنا، لأنّه قد غفر لنا الكثير من الإساءات والخطايا. فإذا كان الله خالقنا قد غفر لنا، فلماذا لا نغفر بدورنا للآخرين؟ ركيزة الغفران هذه تبيّن لنا مجّانيّة محبّة الله الّذي أحبّنا أوّلًا وبذل نفسه عنّا ليخلّصنا.

إنّ الحكم على الآخر الّذي يخطئ، وإدانته، هو عمل خاطئ، ليس لأنّنا لا نريد الإقرار بالخطيئة، بل لأنّ إدانة الخاطئ تقطع رباط الأخوّة معه وتتخطّى رحمة الله الّذي لا يتخلّى عن أحد من أبنائه. لا سلطان لنا لندين أخانا الّذي يخطئ، ولسنا في مرتبة أعلى منه، بل لدينا واجب استعادته لكرامة بنوّته للآب، وواجب اصطحابه في مسيرة توبته، مع إدانتنا لخطيئته، وليس له شخصيًّا، إذ إنّ "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله" (رو 3: 23). من واجب كلّ منّا إظهار الخطايا والسّيّئات وإدانتها، وفي الوقت نفسه مساعدة الخاطئ على التّوبة.

أحبّائي، إن كانت المغفرة الرّكيزة الأولى، فالعطاء هو الرّكيزة الثّانية. يقول لنا الرّبّ: "أعطوا تعطوا... لأنّه بالكيل الّذي به تكيلون يكال لكم" (لو 6: 38). لقد أنعم الله علينا بما هو أكثر بكثير ممّا نستحقّ، لكنّه سيكون أكثر عطاءً مع من كانوا أسخياء هنا على هذه الأرض. لم يتكلّم الرّبّ يسوع على ما سيحدث مع الّذين لا يعطون، إنّما أعطانا تشبيه "الكيل" تحذيرًا لنا. فمقدار المحبّة الّتي نمنحها، يقرّر مقياس الكيل الّذي سيكال به لنا، لهذا قال لنا: "كما تريدون أن يفعل النّاس بكم، كذلك افعلوا أنتم بهم" (لو 6: 31). كلام الرّبّ يمتاز بمنطق متناسق علينا الانتباه له، إذ بالمقدار ذاته الّذي يمنحنا إيّاه الله، علينا بدورنا أن نمنح الآخر، وبالمقدار نفسه الّذي نمنحه للآخر سيمنحنا الله.

وصيّة المحبّة هي أعظم الوصايا الّتي أعطانا إيّاها الرّبّ يسوع (متّى 22: 37-39). "فليحبّ بعضنا بعضًا لأنّ المحبّة من الله وكلّ محبّ مولود لله وعارف بالله. من لا يحبّ لم يعرف الله لأنّ الله محبّة" (1يو4: 7 ). المحبّة تحمل الرّحمة، وهي الدّرب الوحيد الّذي علينا سلوكه. نحن بحاجة لأن نكون أكثر رحمةً، وألّا نتكلّم بالسّوء على الآخرين، وألّا نحكم عليهم أو نحسدهم أو نذلّهم. علينا أن نغفر ونكون رحماء ونعيش حياتنا بالمحبّة الّتي لا تسمح للإنسان المسيحيّ أن يفقد الهويّة الّتي تسلّمها من الرّبّ، بل تجعله يدرك أنّه ابن للآب. وفي المحبّة تتجلّى كلّ من الرّحمة والعطاء والمغفرة. هكذا، يتّسع القلب ويتألّق بالمحبّة. الأنانيّة والغضب يجعلان القلب يتقلّص ويتصلّب كالحجر. فهل نريد قلبًا حجريًّا، أو قلبًا مليئًا بالمحبّة؟ إن كنّا نفضّل قلبًا عابقًا بالمحبّة علينا أن نكون رحماء.

يا أحبّة، في حديثنا عن الرّحمة والمحبّة، يظهر أمام أعيننا كم يفتقر بلدنا إلى هذين العنصرين المخلّصين. الرّحمة غائبة عند الجميع، عند المسؤولين تجاه الشّعب، وعند أعضاء الشّعب فيما بينهم. هذا يدلّ على أنّ المحبّة انقرضت، وحلّت مكانها المصالح الشّخصيّة الضّيّقة الّتي أصبحت الرّكيزة الأولى والوحيدة لدى بعض السّياسيّين وأصحاب المصارف والتّجّار والمحتكرين والموظّفين والأطبّاء وغيرهم ممّن يقدّمون مصالحهم بأنانيّة وجشع، غير آبهين بمعاناة إخوتهم.

مؤسف أيضًا ما نسمعه على لسان الزّعماء والمسؤولين الّذين يتّهم واحدهم الآخر ويتبادلون اللّوم والتّعيير والإدانة، مدفوعين بغايات ومصالح لا تفيد البلد ولا تخرجه من الهوّة الواقع فيها. كلّ طرف يلقي بتهمة تعطيل انتخاب رئيس على عاتق الآخرين. قد يكون الأمر صحيحًا ولكن من منهم يسهّل الأمر، تاركًا مصالحه وشروطه وارتباطاته، داعيًا فقط إلى تطبيق الدّستور وانتخاب رئيس يكون قائدًا ملهمًا وملهمًا، صاحب رسالة إصلاحيّة، لا زعيمًا يتبعه النّاس ظالمًا كان أو مظلومًا؟ الأخلاق، الإنسانيّة، المحبّة، التّضحية، العطاء، هذه تنقصنا في هذا البلد لكي نتمكّن من النّهوض. الدّول المهتمّة بلبنان منزعجة من تصرّف كافة الأطراف، وتتساءل عن جدوى استمرار اهتمامها بلبنان، فيما يتمادى المسؤولون في عدم تحمّل المسؤوليّة، وفي إطالة عمر الفراغ. وعوض الاستفاضة في وضع الخطط والبرامج والأولويّات للرّئيس العتيد، أليس أجدى للبلد أن ينتخبوا هذا الرّئيس ويتركوه يعمل مع حكومته؟ بلدنا بحاجة إلى سلطة تعالج كافّة المشاكل الّتي تعترضه وتثقل كاهل أبنائه، وكلّما طال المأزق كلّما فرغ لبنان من أبنائه الّذين يهاجرونه سعيًا وراء حياة كريمة، فيبرعون ويبدعون، وأمين معلوف خير مثال يفخر به لبنان، فيما تزداد موجات النّزوح إلى لبنان مع ما تسبّبه من مشاكل وأعباء.

دعوتنا اليوم أن نرحم ونحبّ لنكون أبناء الله حقًّا، فيتمجّد بسببنا اسمه القدّوس، ونصبح من أبناء الملكوت، آمين".