لبنان
03 شباط 2025, 07:30

عوده: الوقت ثمين ولبنان بحاجة إلى عمل مضن وجهد كبير

تيلي لوميار/ نورسات
في عيد دخول يسوع المسيح إلى الهيكل، احتفل راعي أبرشيّة بيروت وتوابعها للرّم الأرثوذكس المتروبوليت الياس عوده بالقدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس في وسط بيروت، حيث كانت له عظة من وحي المناسبة قال فيها:

"أحبّائي، نعيّد اليوم لدخول ربّنا يسوع المسيح إلى الهيكل، إتمامًا للشّريعة. يعتبر هذا العيد أحد الأعياد السّيديّة الإثني عشر الكبيرة من السّنة الطّقسيّة، ونحن نتعلّم فحواه اللّاهوتيّ من أيقونة العيد وتراتيله.

تظهر أيقونة العيد والدة الإله وسمعان الشّيخ في الواجهة، فيما يرسم يوسف الخطيب وحنّة النّبيّة في الجزء الخلفيّ للأيقونة. أتت مريم إلى الهيكل في اليوم الأربعين لتطهيرها طاعةً للشّريعة (لا 12)، حاملةً زوج يمام أو فرخي حمام لتقدّم ابنها لله كباكورة ثمارها كما نقرأ في سفر العدد أنّ "كلّ فاتح رحم من كلّ جسد يقدّمونه للرّبّ" (لا 18: 15). وقف سمعان الشّيخ أمام المذبح مادًّا يديه لاستقبال الرّجاء الّذي كان ملتهبًا في داخله، وداخل ضمير كلّ أبرار العهد القديم الّذين يمثّلهم سمعان. ولمّا حمل الطّفل يسوع، نطق نشيده الشّهير: "الآن تطلق عبدك أيّها السّيّد على حسب قولك بسلام..." الّذي نتلوه في نهاية صلاة الغروب، متنبّئًا بأنّ الطّفل سيكون "نور إعلان للأمم ومجدًا لشعبك إسرائيل".

لقد قدّمت والدة الإله ابنها إلى الهيكل "كما هو مكتوب في ناموس الرّبّ أنّ كلّ ذكر فاتح رحم يدعى قدّوسًا للرّبّ" (لو 2: 23). بعد مباركة الطّفل قال سمعان لمريم: "ها إنّ هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في إسرائيل وهدفًا للمخالفة، وأنت سيجوز سيف في نفسك"، ولعلّ هذه هي النّبوءة الأولى الّتي يوردها الإنجيليّ لوقا وتتعلّق بآلام المسيح المقبلة. نرتّل في صلاة سحر العيد: "لقد سبق سمعان فتنبّأ لوالدة الإله قائلًا: وأنت أيّتها البريئة من الفساد، سيجوز سيف في نفسك، لأنّك ستشاهدين على الصّليب ابنك الّذي نهتف نحوه قائلين: مبارك أنت يا إله آبائنا."

إنّ النّور الممنوح للأمم ولكلّ مؤمن هو نور الثّالوث القدّوس غير المخلوق. فكما نال إشعياء تطهيرًا عندما مسّ السّيرافيم شفتيه بالجمرة المحرقة (إش 6)، هكذا نال الشّيخ سمعان تطهيرًا ومعرفة الخلاص عندما سلّمته العذراء مريم الرّبّ، "النّور الّذي لا يعروه مساء"، كما نرتّل في صلاة السّحر.

عندما حمل سمعان النّور بين يديه امتلأ نورًا، وتغذّى بجسد الرّبّ، تمامًا مثل مؤمني الأجيال اللّاحقة السّاكنة في نور المسيح، لأنّ تقبّل المسيح هو مثال الذّبيحة الإفخارستيّة غير الدّمويّة.

تضع تراتيل اليوم على لسان سمعان، فيما هو منطلق إلى الموت بعدما عاين الرّبّ المخلّص متجسّدًا، المهمّة الّتي سيقوم بها بعد موته، إذ ينطلق ويأخذ رتبة الأنبياء ليبشّر بخلاص الجنس التّرابيّ بنزول الرّبّ إلى الجحيم. تقول التّرانيم: "لقد هتف سمعان قائلًا: إنّني ماض لأظهر لآدم الثّاوي في الجحيم وأقدّم البشائر لحوّاء، مستبشرًا مع الأنبياء وهاتفًا: مبارك أنت يا إله آبائنا" وأيضًا: "إنّ الإله يوافي إلى الجحيم، منقذًا الجنس التّرابيّ، فيمنح العتق لجميع المأسورين والبصر للعميان، وكذا للبكم أن يصرخوا: مبارك أنت يا إله آبائنا".

اللّقاء بين سمعان الشّيخ والمسيح الطّفل يمثّل اللّقاء بين العهدين القديم والجديد. إنّه احتفال بتحقيق وعد الله بالعتق والخلاص لمن يسمّيهم الرّسول بولس "إسرائيل الله"- الكنيسة، وللعالم من خلال الكنيسة. لكنّ العتق والخلاص لا يتحقّقان إلّا عبر آلام الرّبّ المصلوب وموته. الطّفل الصّغير، الإله الأزليّ، يتمّم مهمّته بإرادته الطّوعيّة في السّير نحو الصّليب. لذا، يعتبر هذا العيد من الأعياد الكبيرة في الكنيسة.

في هذا العيد يقدّم الحمل والرّاعي ليستقبله ليس سمعان فقط، بل نحن أيضًا. هو آت إلينا، يلاقينا حيث نحن، في وسط عذاباتنا وتطلّعاتنا لكي ننال الظّفر الّذي حقّقه لنا. نستقبله مثل سمعان ونرحّب به، نستقبله داخلنا، لا بل نأكله ونشربه في الإفخارستيّا، في كلّ مرّة نتناول جسده ودمه الكريمين. لذا، فإنّ دعوتنا في هذا العيد المبارك أن ننتظر الرّبّ بشوق، ونتلهّف للقياه في المناولة المقدّسة، وهذا يتمّ عبر التّوبة الصّادقة والعمل بوصاياه، وأولاها المحبّة. ألا أهّلنا الرّبّ أن نكون مستعدّين للانطلاق بسلام، وأن تكون أواخر حياتنا مسيحيّةً سلاميّةً بلا حزن ولا خزي وجوابًا حسنًا لدى منبر المسيح المرهوب، متمّمين بقيّة زمان حياتنا بسلام وتوبة كما نطلب في كلّ صلواتنا.

يا أحبّة، لقد قدّمت والدة الإله أثمن ما لديها، ابنها، إلى الهيكل. فلنتعلّم من هذا العيد أن ننذر قلوبنا للرّبّ، ونقدّم أقصى ما لدينا للوطن: حبّنا وولاءنا ودعمنا. ألم يحن الوقت ليكون لنا وطن يجمعنا ولا تمزّقه خلافات الزعماء ومن ينصّبون أنفسهم قادةً، وأهواؤهم ومصالحهم وشبقهم إلى السّلطة أو التّسلّط؟ هل كثير أن يحلم اللّبنانيّون بوطن متماسك، محكوم من سلطة قويّة، عادلة، تفرض هيبتها على الجميع بقوّة القانون والعدالة؟ المساومات والتّرقيع والحلول الوسط لا تبني دولةً. الحلول الجذريّة المبنيّة على الدّستور والقانون هي الّتي تؤدّي إلى قيام الدولة، ووحدهم رجال الدّولة يعملون بتجرّد، ويتّخذون القرارات الصّعبة الّتي تضع مصلحة البلد فوق كلّ المصالح، ويجاهدون من أجل تغيير العقليّة والنّهج اللّذين أوصلا البلد إلى الانهيار والتّفكّك، ولا يخضعون لأيّ ضغط أو ابتزاز أو تهديد. بالتّصميم والشّجاعة والإصلاح والشّفافيّة، لا بالتّعلّق بأعراف غريبة عن روح الدّستور ونصّه، تستعيد الدّولة دورها، وتستعيد ثقة أبنائها واحترام الخارج. عندها فقط يلتفت العالم إليها ويساعدها على النّهوض وبناء ما قد هدّمته الحروب المدمّرة والمواقف العبثيّة.

صلاتنا أن يعود الجميع إلى رشدهم ويسمعوا صوت الضّمير والواجب، ويضعوا مصلحة البلد قبل شغفهم بالسّلطة، ويلتفتوا إلى معاناة المواطنين، وفي طليعتهم من هجّروا من أرضهم أو فقدوا أحبّاءهم أو خسروا منازلهم وأرزاقهم، لتستقيم الأمور ويخلص لبنان. الوقت ثمين ولبنان بحاجة إلى عمل مضن وجهد كبير. أملنا ألاّ يطول الإنتظار. آمين."