لبنان
07 تموز 2019, 12:00

عوده: الله يطعم البشر ولكن عليهم أن يزرعوا ويفلحوا ويسقوا

ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده، القدّاس الإلهيّ في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس، بحضور حشد من المؤمنين. وألقى، بعد الإنجيل المقدّس، عظة، جاء فيها:

 

"فرحنا منذ أيّام بتخريج دفعة جديدة من طلّابنا أمضوا في مدارسنا سنوات من عمرهم، ينهلون العلم ويتدرّبون على المبادىء والقيم والأخلاق الّتي وحدها ستكون لهم الزّاد المغذّي في حياتهم العمليّة المقبلة. هؤلاء الطّلاب وغيرهم من الأجيال الماضية واللّاحقة هم أمانة في أعناقنا، وواجبنا، بل رسالتنا، تعليمهم وتنشئتهم على محبّة الله والقريب، وعلى الأمانة لوطنهم ولما أعطاهم الله من مواهب وهبات. ولأنّنا مؤتمنون عليهم، من واجبنا أيضًا المحافظة على سلامتهم وصحّتهم وعافيتهم. لذلك قلنا إنّ إنشاء معمل للتّفكّك الحراريّ كما يحلو للبعض تسميته، يضرب عرض الحائط صحّة أبنائنا، ويلوّث بيئتنا الملوّثة أساسًا بالنّفايات وانبعاثات السّيّارات والمعامل وغيرها من الملوّثات. لكن كالعادة هناك من يقرأ في الضّمائر والنّيّات، فجاءنا من يكتب أو يقول إنّنا ضدّ هذه المحرقة أو معمل التّفكّك الحراريّ لأنّه سيقام في بيروت. لذلك نذكّر الجميع أنّ من يمثّلنا في المجلس البلديّ لم يتوان منذ بدء الحديث عن هذا المعمل، عن إبداء الملاحظات الّتي تساهم في تصويب الأمور، ونؤكّد للجميع أنّنا نقف ضدّ كلّ ما يؤذي صحّة أولادنا في بيروت وخارجها، لأنّنا لا نميّز بين خلائق الله الّذين خلقوا جميعهم على صورته ومثاله وهم متساوون في عينه.
نحن نرفض كلّ ما يؤذي الإنسان على مدى وطننا، وأنى كان، ولا نميّز بين بيروت العاصمة وأيّة منطقة في لبنان. وما نرفضه لأنفسنا نرفضه لغيرنا، وما نتمنّاه لأنفسنا نتمنّاه حكمًا لغيرنا، لأنّ ربّنا علّمنا: "كلّ ما تريدون أن يفعل النّاس بكم إفعلوا هكذا أنتم أيضًا بهم" (متّى 7: 12)". أمّا لمن فهم أنّنا نقصد أولاده عندما قلنا "أولادك يرمون النّفايات في الشّوارع" فنقول إنّ فهم كنه اللّغة العربيّة صعب أحيانًا، والمقصود لم يكن الخاصّ بل العامّ، أيّ تسمية الكلّ باسم الجزء. من منكم لم ير سيّارة يرمي راكبوها قشر اللّوز أو الموز خارجها، أو مدخّنًا يرمي عقب سيجارته في الشّارع، أو إنسانًا يأكل ثمّ يرمي غلاف طعامه على الطّريق؟ يلزمنا قليل من التّواضع للاعتراف بالواقع والعمل على إصلاحه. مؤسف أنّ بعض المواطنين لا يتحلّون بالحسّ الوطنيّ ولا يحترمون مدينتهم ولا بيئتهم، وهم يحتاجون إلى تدريب على النّظافة، وحسن القيادة، واحترام الأنظمة والقوانين، وتغليب الخير العامّ على الخاصّ. لذلك نشدّد دائمًا على الأخلاق وعلى ضرورة التّربية على القيم والمبادىء في المنزل وفي المدرسة وفي كلّ وقت. فالإنسان النّظيف ليس من كان بيته نظيفًا بل من يحافظ على نظافة نفسه أوّلًا ثّم بيته ومدينته ووطنه. والمواطن الصّالح هو من يشعر بالانتماء إلى وطنه ويقدّم مصلحة الوطن على مصلحته. وذو الأخلاق الحسنة والسّلوك المستقيم يكون كذلك في كلّ زمان ومكان وليس فقط مع أترابه وأحبابه".
لذلك أكرّر أنّني كراع ومسؤول أطلب الخير والصّلاح ليس فقط لأبنائي ومن أوكلني الله رعايتهم، إنّما لجميع المواطنين حيثما كانوا، وأرفض ما يسيء إلى أبنائي في بيروت وإلى جميع إخوتي اللّبنانيّين، وأعول على ضمائر الجميع، مسؤولين ومواطنين، أن يحافظوا على الكرامة الإنسانيّة والصّالح العامّ وأن تتّصف قراراتهم بالحكمة والعدل والوعي، وأن تكون أعمالهم مرضيّة لله ولضمائرهم لتكون في مصلحة لبنان ومصلحة عاصمتنا بيروت".

وأضاف عوده: "سمعنا في الإنجيل: "سراج الجسد العين". العين هنا تعني عين القلب أو العقل أي العين الرّوحيّة. بالعين الجسديّة نرى الأشياء الحسّيّة. بعيننا الرّوحيّة نستطيع أن نرى الأشياء الرّوحيّة، وأن نميّز بين الخير والشّرّ، بين الكنز الأرضيّ والكنز السّماويّ. إن كانت أعيننا الرّوحيّة جيّدة أو صحّيّة، فجسدنا كلّه سيمتلئ نورًا. إنّ الرّؤية الرّوحية هي قدرتنا على أن نرى بوضوح ما يريدنا الله أن نفعل في هذا العالم. الرّوح الإلهيّة، الرّوح القدس، يدخل حياتنا من خلال أعيننا الرّوحيّة. إن كانت أعيننا الرّوحيّة مغلقة أو عمياء، نور الله لا يضيء نفوسنا وسنبقى في الظّلمة الرّوحيّة. المصدر الوحيد للنّور الرّوحيّ هو الله. "أنظر إذًا لئلّا يكون النّور الّذي فيك ظلمة. فإن كان جسدك كلّه نيّرًا ليس فيه جزء مظلم يكون نيّرًا كلّه، كما حينما يضيء لك السّراج بلمعانه" (لو 11: 35-36).
هل عيوننا الرّوحيّة نقيّة؟ هل نرى يسوع؟ يسوع هو نور العالم. "أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظّلمة بل يكون له نور الحياة" (يو 8: 12). هل نرى هذا النّور؟ سمعنا أيضًا: "لا يستطيع أحد أن يعبد ربّين"، الله والمال. المالّ هنا يعني أيّ نوع من الكنوز الأرضيّة: الأراضي، البيوت، الحيوانات، السّلطة، الشّهرة، والمال. كلمة "مال" يمكننا أن نستعيض عنها بكلمة "الأنا". على الإنسان أن يختار السّيّد الّذي يخدمه: الله أو المال (أو الأنا). كلّ يجب أن يختار أيّ ملكوت سيعيش فيه: ملكوت الله أو ملكوت الظّلمة.
نحن نعيش في مجتمع تسوده المادّيّة، حيث يعبد الكثيرون المال، فيصرفون حياتهم في جمع المال واكتنازه، ليموتوا ويتركوه وراءهم. شهوتهم للمال وما يمكن أن يشتريه، تفوق التزامهم الله والأمور الرّوحيّة. ما تكنزه تفكّر فيه كلّ وقتك وبكلّ طاقتك. فاحذر الوقوع في شرك المادّيّات، "لأنّ محبّة المالّ أصل لكلّ الشّرور" (1تيمو6: 10). يقول بولس لتلميذه تيموثاوس "أوص الأغنياء في الدّهر الحاضر أن لا يستكبروا ولا يلقوا رجاءهم على غير يقينيّة الغنى بل على الله الحيّ" (1تيمو6: 17). فهل تستطيع أن تقول بأمانة إنّ الله، وليس المالّ، هو سيّدك؟ من له مكانة أكبر في أفكارك ووقتك وجهدك؟ كثير من النّاس يخدعهم الشّيطان. يظنّون أنهم يستطيعون أن يخدموا الله والمال معًا. يريدون أن يكنزوا في الأرض وفي السّماء في الوقت نفسه. هذا لا يؤدّي إلى نتيجة. الرّبّ يسوع قال: "تحبّ الرّبّ إلهك من كلّ قلبك ومن كلّ نفسك ومن كلّ فكرك ومن كلّ قدرتك" (مرقس 12: 30). الكلمة الأهمّ هي "كلّ"، لا نصف ولا 90% بل "كلّ". كتب الرّسول يوحنّا "لا تحبّوا العالم ولا الأشياء الّتي في العالم. إن أحبّ أحد العالم فليست فيه محبّة الآب" (1 يو 2: 15).
لماذا يجمع النّاس المال على الأرض مع أنّهم يعلمون أنّه يزول. وإن كانت الكنوز لا تفنى بسرعة فإنّ الإنسان يموت. وعندما يموت البشر لا يستطيعون حمل كنوزهم معهم، أو علمهم وثقافتهم وشهرتهم. لماذا يسعى البشر باستمرار إلى الكنوز الأرضيّة ويخسرون كنزهم السّماويّ؟ السّبب هو الخطيئة. الخطيئة تدخل قلب الإنسان ومن الخطيئة تبرز "الأنا" ومنها تأتي كلّ الخطايا الأخرى كالكبرياء والجشع والطّمع وكلّ الشّهوات. للخطيئة ثلاثة مفاعيل: تجعلنا عبيدًا لها، تجعلنا عميان روحيًّا فلا نستطيع رؤية النّور الحقيقيّ الّذي هو يسوع المسيح، وإيجاد الطّريق الضّيّق المؤدّي إلى السّماء. أخيرًا تدمّرنا الخطيئة، والعقاب على الخطيئة هو الموت الأبديّ. لهذا علّم يسوع الإنسان أن يبتعد عن الخطيئة ليضع جانبًا الكنز الأرضيّ. ليس هناك خطيئة أكبر من أن يكنز الإنسان كنزًا على الأرض".
سمعنا: "لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون ولا لأجسادكم بما تلبسون". هذا لا يعني أن لا ننظر إلى الأمام ونخطّط. هذا لا يعني أن نتوقّف عن العمل وننتظر الله كي يطعمنا. الله يطعم الطّيور ولكن عليها أن تفتّش عن طعامها. الله يطعم البشر أيضًا ولكن عليهم أن يزرعوا ويفلحوا ويسقوا. "إن كان أحد لا يريد أن يشتغل فلا يأكل أيضًا" (2 تسك 3: 10) يقول بولس الرّسول. يسوع يعلّمنا أن ّعلينا ألّا نقلق: "لا تطلبوا أنتم ما تأكلون وما تشربون ولا تقلقوا. فإنّ هذه كلّها تطلبها أمم العالم. وأمّا أنتم فأبوكم يعلم أنّكم تحتاجون إلى هذه، بل اطلبوا ملكوت الله وهذه كلّها تزاد لكم" (لو12: 29 - 31). إن كان الله قد أعطانا الحياة، أفلا يعطينا الأشياء الصّغيرة كالطّعام والثّياب. إن أعطانا الرّبّ الجسد اليوم، هل يدعه يموت من الجوع غدًا. طبعًا لا. إن كان الله يستطيع أن يمنح العطايا الكبيرة كالحياة، لا شكّ سيمنحنا العطايا الصّغيرة أيضًا. الله لم يعد أن يمنحنا أكثر ممّا نحتاج إليه لكنّنا نستطيع أن نعتمد عليه ليؤمن حاجيّاتنا. "لأنّ أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه" (متّى6: 8). وإن كان يهتمّ بالطّيور والزّنابق أفلا يهتمّ بالإنسان الّذي خلقه على صورته ومثاله؟ قال يسوع لا تقلق للطّعام والشّراب والثّياب. الوثنيّون يسعون وراء كلّ هذه الأشياء. كلمة "وثنيّ" لا تعني فقط الأمميّ أو غير اليهوديّ، بل كلّ الّذين لا يؤمنون بالإله الواحد الحقيقيّ. الآخرون لا يؤمنون بالإله الواحد الحقيقيّ ولا يعتمدون عليه. لذلك يقلقون للطّعام والثّياب، ويسعون إلى هذه الأشياء أوّلًا عوض السّعي إلى الله".

وتابع عوده: "العديد من المؤمنين يشابهون "الوثنيّين" غير المؤمنين. همّهم الطّعام والثّياب والضّرورات الأخرى. يقلقون للمستقبل. معظم تفكيرهم حول الأمور الدّنيويّة. هؤلاء إيمانهم ضعيف. كيف ننمّي إيماننا؟ أوّلًا علينا أن نتذّكر من نحبّ. نحن أولاد الله والله يعمل الأفضل لأولاده. ثانيًا، علينا أن نتذكّر من هو الله. الله هو أبونا، محبّته وقوّته وحكمته بلا حدود. هو يعرف كلّ احتياجاتنا. "شعور رؤوسكم جميعها محصّاة" (متّى 10: 30). فلا تكونوا كغير المؤمنين الّذين يسعون فقط لأشياء هذا العالم. ضعوا ثقتكم في الله. "أطلبوا أوّلًا ملكوت الله وبّره وهذه كلّها تزاد لكم" (متّى 6: 33). هل نسعى إلى الله بكلّ صدق. هل نسعى إلى كنزنا في السّماء. بولس الرّسول قال: "اهتمّوا بما فوق لا بما على الأرض" (كو 3: 2). علينا أن لا نسعى إلى ملكوت الله فقط بل إلى برّه أيضًا. إن فعلنا هكذا سنشبع. إيماننا سينمو. عندما نتوقّف عن السّعي إلى الله وبرّه ينقص إيماننا ويزيد قلقنا. لكيّ يزيد إيماننا يجب أن نقترب من الله وأن نرفع الصّلاة إليه وأن نقرأ كلمته. كتب يعقوب الّرسول "اقتربوا من الله فيقترب إليكم" (يع 4: 8). الله مستعدّ أن يمنحنا كلّ شيء نحتاجه إن كنا نؤمن به ونقترب إليه. يقول: "فتّشوا عنّي أوّلًا وكّل الأشياء ستعطى لكم". الله سيعطينا أيضا ملكوته. قال يسوع لتلاميذه: "لا تخف أيّها القطيع الصّغير لأن أباكم قد سرّ أن يعطيكم الملكوت" (لو 12: 32). عندما نسعى إلى الله أوّلًا سيعطينا طعامنا وشرابنا وكلّ حاجاتنا. سيعطينا برّه وكل ّبركة روحيّة.
دعونا يا إخوتي لا نخسر بركة عظيمة كهذه لنكون من الّذين قال لهم يسوع: "تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ تأسيس العالم" (متّى 25: 34)".