لبنان
27 تشرين الأول 2025, 07:30

عوده: اللّبنانيّون لن يخذلوا إن آمنوا بقضيّتهم وناضلوا من أجلها واتكّلوا على الرّبّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده خدمة القدّاس الإلهيّ بمناسبة عيد القدّيس العظيم في الشّهداء ديمتريوس، في كنيسة القدّيس ديمتريوس.

بعد قراءة الإنجيل المقدّس، ألقى عوده العظة التّالية:

"أحبّائي، في هذا اليوم المبارك نعيّد لذكرى الشّهيد العظيم ديمتريوس المفيض الطّيب، ونقف أمام مثاله المضيء متأمّلين في كلمة الله الّتي تليت على مسامعنا.

إنجيل اليوم يروي لقاء الرّبّ يسوع بالممسوس في كورة الجرجسيّين، أمّا مقطع الرّسالة فوصيّة الرّسول إلى تلميذه تيموثاوس بأن يتقوّى في النّعمة الّتي في المسيح يسوع وأن يحتمل المشقّات كجنديّ صالح للمسيح. يربط هذين النّصّين معنًى واحد عميق، هو التّحرّر بالنّعمة والجهاد في سبيل الحقّ. هذا ما عاشه القدّيس العظيم في الشّهداء ديمتريوس بكلّ كيانه، حتّى موت الشّهادة.

حدّثنا الإنجيل عن رجل تملّكه الشّيطان فسكن القبور عاريًا، منقطعًا عن النّاس، مقطوعًا من ذاته ومن الشّركة مع الآخرين. هذا المسكين صورة للبشريّة السّاقطة الّتي جرّدها الشّيطان من بهائها، وتركها في ظلمة الانعزال والخراب. لكنّ المسيح يأتي إلى هذه الأرض الموحشة لا ليدين بل ليحرّر. يقف أمام الممسوس الّذي لا يقوى على الكلام باسم نفسه، فتنطق الشّياطين عنه قائلةً: "ما لي ولك يا يسوع ابن الله العليّ؟ أطلب إليك ألّا تعذّبني". هنا، يظهر سلطان الرّبّ الّذي لا يقاوم. فبكلمة منه يخرج "لجيون" أيّ مجموع الشّياطين من الإنسان نحو الخنازير الّتي تندفع إلى الهلاك. أمّا الرّجل فيعود إلى رشده، ويجلس عند قدمي يسوع "لابسًا صحيح العقل".

هذه الصّورة هي صورة القيامة الدّاخليّة للنّفس الّتي كانت ميتةً بالخطيئة وتابت، فاستعادت بهاءها بالنّعمة. لم يعد الإنسان عاريًا من المجد الّذي فقده عند سقوطه، بل لبس المسيح بالمعموديّة.

القدّيس ديمتريوس هو ذاك الإنسان الّذي تحرّر من روح العالم ولبس النّعمة، وصار شاهدًا للمسيح حتّى الدّمّ. فالمسيح الّذي حرّر الممسوس من عبوديّة الشّياطين هو نفسه الّذي حرّر ديمتريوس من خوف الموت، ومن محبّة هذا العالم، فصار في الجسد شهيدًا، وفي النّفس إنسانًا جديدًا حيًّا في النّور.

سمعنا في الرّسالة: "تقوّ في النّعمة الّتي في المسيح يسوع... إحتمل المشقّات كجنديّ صالح ليسوع المسيح". لقد عاش القدّيس ديمتريوس هذا النّداء بأمانة. كان شابًّا ذا مكانة اجتماعيّة رفيعة في تسالونيكي، لكنّه لم يفتخر بحسب الجسد، بل خدم الرّبّ بتواضع ومحبّة. حين طلب منه أن ينكر المسيح ويقدّم الذّبائح للأوثان أبى وفضّل أن يسفك دمه على أن ينكر إيمانه. لم يعتبر الألم عثرةً بل رآه معبّرًا إلى الخلاص، فصار جنديًّا صالحًا كما أوصى الرّسول بولس تلميذه تيموثاوس.

الشّهادة للمسيح ليست فقط في الموت، بل في الجهاد اليوميّ، في عدم التّعلّق بالأرضيّات، في الأقوال والأفعال وفي الوقوف في وجه الشّرّ وإعلان كلمة الحقّ. القدّيس ديمتريوس، مثل بولس، جاهد الجهاد الحسن وحفظ الإيمان. لم يكن ضابطًا بطلًا وحسب، بل محاربًا روحيًّا أيضًا يقاتل قوى الشّرّ بالصّلاة والصّبر والرّجاء. قوّته لم تكن من ذاته، بل من النّعمة الّتي تقوّيه. فالقداسة ليست بطولةً إنسانيّةً، إنّما تجاوب الإنسان مع عمل الله فيه، بلا مقاومة، إنّما بطاعة ومحبّة، فيصير هيكلًا حيًّا لله.

جلوس الممسوس بعد شفائه عند قدمي يسوع هو علامة التّلمذة. بعد أن نال الشّفاء لم يطلب سوى أن يبقى مع المخلّص. غير أنّ الرّبّ أرسله إلى بيته ليحدّث بصنائع الله. التّلميذ الحقيقيّ لا يحتكر النّعمة لنفسه بل يصير رسولًا لها. القدّيس ديمتريوس هو هذا التّلميذ المرسل الّذي بعدما عرف المسيح صار يبشّر به في مدينته، رغم الاضطهاد والخطر، حتّى ملأ عطر شهادته كلّ الأماكن. وبعد استشهاده صار "مفيض الطّيب" لأنّ دمه المسفوك أصبح طيبًا يفوح في الكنيسة عبر الأجيال، رمزًا للنّعمة المنسكبة من الجهاد والإيمان الصّادق.

يقول القدّيس يوحنّا الذّهبيّ الفمّ: "إنّ دماء الشّهداء هي كزرع جديد للكنيسة، فحيث يسفك الدّم، هناك تنبت الحياة". هكذا صار قبر ديمتريوس ينبوعًا للنّعمة، كما كانت قبور إنجيل اليوم موضعًا للموت فحوّلها المسيح إلى موضع قيامة. ما كان مكان ظلمة صار موضع نور، وما كان رمزًا للعزلة صار موضع شركة، لأنّ المسيح دخل إلى عمق القبر، إلى أعماق ظلمة الإنسان، ليحوّلها إلى فجر أبديّ.

يا أحبّة، تدعونا حياة القدّيس العظيم ديمتريوس إلى التّحرّر من روح هذا العالم، من الخوف والأنانيّة وعدم المبالاة. كم من مرّة نسكن نحن القبور؟ قبور العادات والشّهوات والهموم، ونتشبّه بالممسوس الّذي فقد ذاته! لكنّ المسيح يأتي إلينا في صمت الصّلاة، وفي نور الأسرار المقدّسة وكلمة الإنجيل، ليشفينا، فتبدأ قيامتنا.

يوصي الرّسول بولس تلميذه قائلًا: "أذكر أنّ يسوع المسيح قد قام من بين الأموات على حسب إنجيلي الّذي أحتمل فيه المشقّات حتّى القيود كمجرم، إلّا أنّ كلمة الله لا تقيّد". هذا ما عاشه ديمتريوس بالحقيقة. سجن لأجل إيمانه، لكنّ الكلمة الّتي حملها لم تحبس. من زنزانته فاح عطر القداسة إلى العالم أجمع، ومن موته ولدت حياة جديدة لكثيرين من بينهم تلميذه نسطر. إنّ شهادة القدّيسين ليست في الكلام فقط، بل في حياة تفيض طيبًا، لأنّها مملوءة من عبق المسيح.

ما يجمع القدّيس ديمتريوس بالممسوس المبرأ، وببولس السّجين الحرّ، معنًى واحد، أنّ الحرّيّة الحقيقيّة هي في المسيح وحده. فالّذي يملك المسيح لا يستعبد لشيء، والّذي يلبس النّعمة لا يخاف الموت، والّذي يحبّ لا يمكن أن يقيّد.

كم من مرّة يرتبك إنسان بلدي ويخاف قول الحقّ أو يستحي بإسم الرّبّ إلهنا؟ كم من مرّة ينسى المسيح وتعاليمه من أجل مكسب أو مركز أو حفنة مال؟ وكم يهادن أو يراوغ خوفًا من قويّ أو مسايرةً لحاكم؟ ديمتريوس لم يخش بأس الإمبراطور مكسيميان، ولم يخف من جبروته، ولم يخضع لتهديداته، بل اعترف بإيمانه بكلّ شجاعة وجرأة، واختار أن يموت من أجل المسيح، الإله الحقيقيّ، على أن يقدّم الذّبيحة للآلهة المزيّفة. شهر سيف الإيمان في وجه الكفر والخطيئة، ودافع عن الحقّ رغم الخطر المحدق به، وصار مثالًا يحتذى في الشّجاعة والإقدام والإيمان.

المتسلّح بالحقّ لا يخشى أحدًا، أمّا المتّكل على شخصه أو مركزه أو ماله أو قوّته فيخاف خسارتها، ويخشى سماع كلمة الحقّ كما يخشى حاملها. لذا دعوتنا اليوم أن نكون شهودًا للحقّ وأن نستشهد بالمعنى الرّوحيّ، عبر الإيمان والرّجاء والمحبّة. المسيح يريد شهودًا لا يخجلون باسمه ولا يخافون إعلان إيمانهم به، بل يضيئون وسط الظّلمة ويعملون ويعلمون ويفيضون طيبًا على المسكونة فتتقدس باتّباع خطواتهم.

يا أحبّة، في نهاية القدّاس سوف نرفع الصّلاة مع إخوتنا اليونانيّين من أجل بلدهم، في الذّكرى السّنويّة لـ"لا" Όχι الّتي قالوها في وجه الاحتلال الإيطاليّ إبّان الحرب العالميّة الثّانية، وقاوموا ببسالة حتّى حرّروا بلدهم، ما دفع تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا إلى القول "العالم بعد الآن لن يقول إنّ اليونانيّين يقاتلون كالأبطال إنّما الأبطال يقاتلون مثل اليونانيّين."

عندما يدافع الإنسان عن قضيّة محقّة وعادلة يكون النّصر حليفه مهما تأخّر، ومهما نكّل بمن ينقل الحقيقة أو خوّن واتّهم وقتل ستظهر الحقيقة ويعلن الظّالمون. اللّبنانيّون المتمسّكون باستقلال بلدهم وسيادته واستقراره ودوره لن يخذلوا إن آمنوا بقضيّتهم وناضلوا من أجلها واتكّلوا على الرّبّ القادر على كلّ شيء. آمين".