عوده: العالم خطا خطوات إلى الأمام أمّا نحن فما زلنا نتخبّط في مصائبنا
وفي هذا السّياق، مضى عوده قائلاً:
"أحبّائي، نعيّد اليوم لانحدار الرّوح القدس المعزّي، روح الحقّ، على التّلاميذ المختبئين في العلّيّة، ولتأسيس الكنيسة المقدّسة.
يقول القدّيس سيرافيم ساروفسكي: "إنّ هدف حياتنا هو اقتناء الرّوح القدس". عمل الكنيسة كلّه يهدف إلى جعلنا نقتني الرّوح القدس. لقد اتّخذ ابن الله جسدًا، لكي نتّخذ نحن الرّوح. طبعًا، كان الرّوح القدس يفعل في العهد القديم، لكنّ الموت لم يكن قد غلب بعد. بعد تجسّد المسيح، وصلبه وقيامته، لم تتحرّر طبيعتنا من طغيان الموت وحسب، بل أصبحت إناءً لنعمة الله. أصبح جسد المسيح ودمه دواء الخلود، يتناوله المؤمنون المتقدّمون إليه باستحقاق لمغفرة الخطايا ولحياة أبديّة.
الكنيسة هي جسد المسيح وخزانة النّعمة، والرّوح القدس ينفخ فيها، وبما أنّه روح الحقّ، يجيب كلّ مطلب تسعى إليه نفس الإنسان باجتهاد. هكذا، تصبح الكنيسة موقع جهادات الإنسان، إضافةً إلى مكان تحقيق كلّ ما يعجز أيّ بشريّ عن تحقيقه. يقول القدّيس مكسيموس المعترف إنّ الكنيسة تحوي في جوهرها البحث عن الحقّ والصّلاح اللّذين يظهران الله كجوهر وفعل. كذلك، فإنّ التّساؤلات والثّورات الاجتماعيّة كلّها تخفي في أعماقها الرّغبة في مجتمع كامل، حيث الوحدة لا تحدّ الحرّيّة، والحرّيّة لا تلغي المحبّة. إنّ المطلوب في الصّميم هو شركة الرّوح القدس، الأمر الموجود في حياة أعضاء الكنيسة الحقيقيّين. الثّورة الحقيقيّة هي داخل الكنيسة، وهي مدعومة بنعمة الرّوح الكلّيّ قدسه. إنّها الثّورة على الخطيئة. لكنّ الكنيسة تعمل بمحبّة، إذ تحتضن الخاطئ وتعلّمه بخفر وطول أناة، من دون اللّجوء إلى القسوة والعنف وكيل الشّتائم كما يفعل بعض البشريّين العالقين بين محبّة الأنا والتّسلّط. الكنيسة، تعيش دومًا زمن الصّمت المقدّس، وكلّما أهينت صمتت أكثر، وهي لم ولن تفكّر أبدًا بالرّدّ أو تشجيع مؤمنيها على الرّدّ بمثل الإهانات الّتي تكال لها، لأنّها عندئذ تكون في صدد الوقوف في درب نعمة الرّوح القدس الفاعل من خلالها ومن خلال المؤمنين الحقيقيّين. لذا، لا يحقّ لأيّ مسيحيّ، أو مدافع عن حقوق المسيحيّة أن يكون حجر عثرة، ويحثّ المسيحيّين على نبذ حياة النّعمة الّتي بالرّوح القدس، ويحرّضهم على ردّ الصّاع صاعين، لأنّ الرّبّ قال: "بالكيل الّذي به تكيلون يكال لكم ويزاد لكم أيّها السّامعون" (مر 4: 24).
يا أحبّة، يقول القدّيس المعاصر يوستينوس بوبوفيتش: "لو لم تعط كنيسة المسيح حلولًا لما تواجهه الرّوح البشريّة من مشاكل أبديّة، لكانت غير نافعة". عمل الكنيسة أن تدخل إلى أعماق المشاكل الّتي تعذّب النّفس البشريّة، لا أن تبقى على السّطح، لذلك كثيرون لا يفهمونها بسهولة، ويصوّبون سهام اتّهاماتهم نحوها، لكنّ الكنيسة تستمدّ قوّةً من مسيحها المصلوب والمتغلّب على الموت، فتسير إلى الأمام، ولا يهمّها كلام أو اتّهام. الكنيسة المقدّسة تخلّص الحياة، وتعطيها معنًى، وتهب للنّاس المسيح الّذي هو الطّريق والحقّ والحياة. إنّها تجعل الّذين يعطشون حقًّا إلى الحياة أعضاء المسيح بنعمة الرّوح القدس. أمّا الّذين يكتفون بالمظاهر فيحرمون أنفسهم الحياة الحقيقيّة الّتي تقدّمها الكنيسة. هم يسارعون بأرجلهم نحو العثرات، فيفقدون الجوهرة الجزيلة الثّمن.
إذًا، يظهر عمل الكنيسة الحقيقيّ من خلال ما قاله الرّبّ يسوع: "إن عطش أحد فليقبل إليّ ويشرب". الكنيسة هي جسد المسيح الممتدّ في الأبد، وعملها الدّائم هو أن توفّر عطيّة الرّوح القدس المجدّدة للّذين يعطشون إلى الله.
إنّ انحدار الرّوح القدس على التّلاميذ "بشكل ألسن ناريّة"، حوّل الكنيسة الموجودة منذ خلق العالم إلى جسد المسيح. فعيد الخمسين، أيّ العنصرة، هو يوم ميلاد الكنيسة كجسد المسيح. لقد ظهر الرّوح القدس بشكل ألسنة ناريّة ليشير إلى مساواته في الطّبيعة للمسيح الكلمة، كما أنّ الطّاقة المحرقة والمنيرة في آن للكرازة الرّسوليّة انحدرت لتنير وتحرق "بشكل النّار" على حسب قول القدّيس غريغوريوس بالاماس.
الكرازة الرّسوليّة هي كرازة الكنيسة، وهي أيضًا كلمة القدّيسين والرّعاة الحقيقيّين. هي تحرق "كنار مهلكة" الخطايا وعبادة الأوثان بكلّ أشكالها مثل عبادة الأنا والزّعيم والمال، إضافةً إلى كلّ المفاهيم الخاطئة عن الحياة وعن الله. الكنيسة ورعاتها لا يخفون الخطايا تحت ستر المحبّة العاطفيّة أو خلف حرّيّة مضلّلة، ولا يخضعون لتهديد أو محاولات إسكات يشنّها الّذين يشعرون بنار الكلمة، إمّا عبر الأزلام أو وسائل التّواصل أو أيّ طريقة أخرى. إنّها تكشف الخطايا، واضعةً الإصبع على الجرح كي تشفيه، وليس بغية إيلام أحد. تكشف الخطايا مع كلّ أسبابها ودوافعها، بالتّمييز الّذي تمنحها إيّاه محبّة الله، فتبدّدها كالهباء داخل نور الحقيقة. إنّ كلمة الرّسل والقدّيسين ومن تسلّموا بعدهم زمام الرّعاية في الكنيسة، تحمل قوّة الله. إنّها نتيجة النّعمة الّتي لها شكل ألسنة ناريّة، وتحوّل الصّيّادين إلى رعاة للكنيسة، حكماء غير خائفين.
لقد قال المسيح: "من آمن بي، كما قال الكتاب، تجري من بطنه أنهار ماء حيّ" (يو 7: 38). هذا ما عبّر به الرّبّ عن الرّوح القدس. هذا الرّوح لا يحدّ نشاطه بأعضاء الكنيسة وحدهم، لأنّه "يهبّ حيث يشاء" (يو 3: 8). يفعل في العالم بطرائق يصعب على الذّهن البشريّ أن يدركها. والّذين تجتذبهم نعمة الله، تقودهم إلى كلّ الحقيقة، بطرق تعرفها حكمة الله وحدها. لذلك، لا يحقّ لأحد أن يعتبر نفسه أنّه وحده ابن بارّ للكنيسة وأنّ غيره هراطقة وكفّار. هذا عمل النّعمة الإلهيّة أن تظهر البعيدين أقربين، وأن تضيء على كبرياء أبناء البيت حتّى تقدّسهم، إن هم قبلوا بتواضع عمل النّعمة.
يا أحبّة، إنّ الرّوح القدس حاضر في تاريخ خلاص البشريّة بجملته، كما في تفاصيل حياة كلّ شخص بمفرده، كما قال القدّيس باسيليوس الكبير: "هو الحاضر في كلّ واحد وفي كلّ مكان"، ويقول أيضًا: "يمتدّ الرّوح القدس إلى الجميع بقوّته، إلّا أنّ المستحقّين وحدهم يشتركون به". دعوتنا اليوم أن ننقّي ذواتنا بالصّلاة والمحبّة والتّوبة والإشتراك بالأسرار الإلهيّة، حتّى نكون من المستحقّين لأن ندعى "هياكل" للرّوح القدس. ولنهتف نحوه بإيمان: "هلمّ واسكن فينا وطهّرنا من كلّ دنس وخلّص أيّها الصّالح نفوسنا".
لو كنّا نحن اللّبنانيّين مؤمنين بأنّ خلاصنا هو من الله وحده، وفتحنا قلوبنا للرّوح القدس، لما وصلنا إلى ما نحن عليه.
سأقرأ على مسامعكم افتتاحيّة جريدة المعرض العدد 18 (كانون الثّاني آذار 1927) تحت عنوان المال السّايب: "السّرقات تتلو السّرقات في الدّوائر الرّسميّة، والفضائح تزحم الفضائح، وأموال الأمّة سائبة مهملة يأكل منها الشّارد والوارد، وأمّا النّوّاب الّذين أوقفهم الشّعب وكلاء عنه فنائمون على مقاعدهم نوم الوزارة على الثّقة. وإذا استيقظوا فترةً من نومهم فلكي يتلهّوا بشؤونهم الخاصّة، وحزازاتهم ومنافعهم ومصالح أعوانهم وأصحابهم، وأمّا مصلحة الشّعب فقد تركوها لله...
يتابع: في وزارة الصّحّة سرقات، وفي البوليس فضائح، وفي إدارة السّيّارات سرقات وفضائح معًا. وفي الجمرك كلّ الصّيد وكلّ السّرقات والفضائح.
والمجلس لاه يتنعّم بما يتنعّم.
نحن لا نضع الحقّ على السّارقين وحدهم، فإنّ هؤلاء قد وجدوا أمامهم مالاً سائبًا يمكن سرقته، وأغواهم الرّبح، ولمّا لم يجدوا رقيبًا عليهم سرقوا ثمّ سرقوا ثمّ سرقوا، وما برحوا يسرقون.
والمال السّائب يعلّم النّاس الحرام.
ويتابع: ورأوا أيضًا أنّ عقوبة الّذين سرقوا قبلهم من أموال الحكومة تكاد لا تكون عقوبةً هذا إذا شاءت الحكومة ألّا تخفي الفضيحة من أساسها فشجّعهم ذلك على السّرقة وهم على ثقة أنّه إذا كشف أمرهم لا ينالهم أكثر ممّا نال غيرهم من قبل.
وهكذا تتابعت السّرقات وأصبحنا إزاء هذه الفوضى في حالة الدّوائر عندنا، لا نعرف من هو الموظّف النّزيه الأمين، ومن هو الموظّف السّارق.
نتكلّم اليوم عن سرقة الجمرك الّتي كشفت مؤخّرًا، على أنّها ليست السّرقة الوحيدة في إدارة الجمرك المختلّة، بل هي واحدة من ألف، ولكنّ الصّدف والتّقارير شاءت أن تكشف قبل غيرها وأن يفتضح أمرها، فإذا النّاس أمام فضيحة جديدة بعد أن توالت الفضائح في الدّوائر، الواحدة تلو الأخرى، وكلّها في شهر واحد.
وقد علمنا أنّه قد اكتشف في إدارة الجمرك في هذه السّنوات الأخيرة لا أقلّ من مئتي سرقة.
ويتابع الكاتب: وقد كنّا فهمنا من بعض النّوّاب أنّهم سيحملون حملةً عنيفةً على حالة الجمرك واختلالها وفضائحها، ولا ندري إذا كانوا سيبرّون بوعدهم، خصوصًا بعد الفضيحة الأخيرة. أمّا نحن فإنّنا آلينا على أنفسنا أن نكشف السّتار عن كلّ خلل في هذه الإدارة، ونبيّن بالتّفصيل أسباب هذه الفضائح والسّرقات.
وقد حصلنا على المعلومات الكافية، وسنبدأ نشرها بالتّفصيل حتّى يعرف هذا الشّعب كيف يؤكل لحمه، وكيف يسرق، رغم فقره وحاجته".
للأسف، منذ كتابة هذه الافتتاحيّة حتّى اليوم، قد خطا العالم خطوات إلى الأمام، أمّا نحن فما زلنا نتخبّط في مصائبنا، والعلّة معروفة. عسانا نتوجّه بقلوبنا نحو الله، المخلّص الوحيد، راجين أن يسكب علينا نعمة الرّوح القدس ويملأنا به (أع 2: 4) وينجّينا من لهيب ما نحن فيه، آمين."