عوده: الصّوم هو الفترة الّتي تسودها المحبّة الأخويّة والشّعور بمحبّة الله وعطفه
وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة قال فيها: "أحبّائي، لقد وصلنا إلى الأحد الأخير من زمن التّهيئة للصّوم الكبير، إلى أحد الغفران، أو ما يعرف بأحد مرفع الجبن. وابتداءً من الغد ننقطع عن أكل اللّحم والسّمك وكلّ مشتقّات الحليب، وننصرف إلى الصّلاة والتّأمّل لنصل إلى تنقية القلب والتّوبة والرّجوع إلى الله.
اليوم، تقرأ كنيستنا المقدّسة المقطع الإنجيليّ الّذي يعلّمنا أن نغفر زلّات الآخرين لكي يغفر لنا أيضًا أبونا السّماويّ زلّاتنا الّتي لا تحصى. لهذا، درجت عادة منذ القديم، بين المسيحيّين الأتقياء، أن يطلبوا الغفران في هذا اليوم كما في كلّ أيّام أسبوع مرفع الجبن، بعضهم من بعض عمّا أخطأوا به. هذا ما نقوم به مساء اليوم في نهاية صلاة الغروب، حيث نطلب الغفران والمسامحة بعضنا من بعض، قبل الشّروع في الصّوم الأربعينيّ المقدّس غدًا. نقبّل بعضنا بعضًا قبلةً مقدّسةً قائلين: "إغفر لي يا أخي أو يا أختي لأجل المسيح" فيما ترنّم الجوقة ترانيم الفصح معلنةً أنّ هدف رحلتنا الرّوحيّة في الصّوم الكبير هو الوصول إلى القيامة المقدّسة. ويوم الفصح نرتّل: "اليوم يوم القيامة فسبيلنا أن نتلألأ بالموسم، ونصافح بعضنا بعضًا... ولنصفح لمبغضينا" قبل أن ننشد المسيح قام.
في أحد الفرّيسيّ والعشّار يفتح المسيح أبواب التّوبة فندخل الطّريق المؤدّي إلى الصّوم، أيّ التّواضع. وفي أحد الإبن الضّالّ نثبّت نظرنا نحو الآب، غاية الصّوم. أمّا في أحد مرفع اللّحم، المسمّى أحد الدّينونة فنعي أهمّيّة القريب الّذي معه تتمّ أعمال المحبّة ومن خلاله ندخل الملكوت. اليوم، في أحد الغفران، نقبّل القريب قبلة المحبّة والمغفرة لندخل الصّوم فرحين، متصالحين مع الله والقريب ومع ذواتنا.
ما من أحد في الخليقة، مهما علا شأنه ومركزه ومقامه، لا يخطئ تجاه الله وتجاه قريبه ونفسه، قولًا أو فكرًا أو فعلًا، لأنّنا جميعًا عبيد بطّالون مجبولون من تراب الأرض وإليها عائدون. وما على المؤمن إلّا التّحلّي بالشّجاعة ليطلب الغفران ويعترف بخطئه. طلب الغفران يثبّت إيماننا بكلمة الله، ويعكس تواضعنا ووداعتنا ومحبّتنا للسّلام. في المقابل، عدم الرّغبة في طلب الغفران من الّذين أخطأنا بحقّهم، يكشف في الإنسان رفض السّلام، وقلّة الإيمان، والكبرياء والغرور وتذكّر الشّرّ، وعصيان الوصايا الإلهيّة، ومقاومة الله والتّوافق مع الشّيطان.
إنّ قلب الإنسان غاية في الأنانيّة وغير صبور وعنيد وخبيث ويستحضر الشّرّ. إنّه مستعدّ لأن يغضب من قريبه لا بطريقة شرّيرة مباشرة وحسب، بل أيضًا عبر مخيّلته، وليس عبر كلمة مسيئة فقط، بل أيضًا عبر كلمة مزعجة أو قاسية، أو عبر نظرة شرّيرة أو غامضة أو خبيثة أو متعجرفة، ويكاد يغضب حتّى من أفكار الآخرين الّتي يتخيّلها حوله. لقد قال الرّبّ الفاحص القلوب عن قلب الإنسان: "لأنّه من الدّاخل، من قلوب النّاس، تخرج الأفكار الشّرّيرة" (مر7: 21-22).
إنّ التّفكير بالشّرّ هو أبشع أنواع الرّذيلة، وبقدر ما هو بغيض عند الله هو مؤذ للمجتمع. نحن مخلوقون على صورة الله ومثاله وينبغي أن تكون الوداعة من صفاتنا الثّابتة. الله يعاملنا حسب رحمته وطول أناته، ويغفر لنا من دون حساب. لكن علينا نحن أوّلًا أن نغفر لمن يسيء إلينا. علّمنا الرّبّ أن نصلي الصّلاة الرّبّانيّة الّتي غالبًا ما نتلوها ببّغائيًّا ولا نتعمّق في معانيها. قال الرّبّ إذا صلّيتم، فصلّوا هكذا: "أبانا الّذي في السّماوات..." إلى أن نقول "... واترك (واغفر) لنا ما علينا كما نترك (نغفر) نحن لمن لنا عليه...". يقول أحد الآباء القدّيسين أنّ الرّبّ يدعونا في هذه الصّلاة كي نصفح عن ذنوب الآخرين، إذ إنّه يريدنا أن نكون رحماء، لنبعد البؤس. حقًّا، إنّنا لا نصلّي في أيّة طلبة أخرى أن نعاهد الرّبّ على أن يغفر لنا كما نغفر نحن. إذا نقضنا هذا الميثاق، تكون الصّلاة كلّها غير مثمرة.
سمعنا قول الرّبّ في إنجيل اليوم: "إن غفرتم للنّاس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السّماويّ أيضًا، وإن لم تغفروا للنّاس زلاّتهم فأبوكم أيضًا لا يغفر لكم زلاّتكم".
أحد الغفران هو يوم فحص الذّات الدّقيق، يوم نتفحّص فيه مدى نضجنا الرّوحيّ، إن كنّا قادرين على اتّباع المسيح وطاعة كلّ وصاياه. لا يمكننا أن نصوم إن لم نبدأ بالغفران للقريب. قد يكون سهلًا أن نساعد فقيرًا ونحسن إلى إنسان غريب، لكنّ الأصعب أن نسامح الإنسان القريب. المصالحة هي المحبّة الّتي تفوق محبّة الذّات. إنّها البرهان على أنّنا وضعنا القريب، أيّ الآخر، فوق اهتماماتنا وفوق كرامتنا.
ليس الصّوم فترة تعذيب للذّات، ولا فترة معاقبة لها، أو إيفاء ديون لله. إنّه الفترة الّتي تسودها المحبّة الأخويّة والشّعور بمحبّة الله وعطفه. الصّوم انقطاع عن بعض الأطعمة، إنّما أيضًا سعي لكي يصبح طعام الملائكة خبزنا الجوهريّ، أيّ التّسبيح وإطعام الإخوة أيّ المحبّة.
لذا، دعوتنا اليوم، في هذا الوقت الحسن القبول، في أوان التّوبة، أن نطلب الغفران ونمنحه، حتّى نصل إلى برّ القيامة يدًا بيد، مستحقّين أن نصرخ بفرح وسلام حقيقيّين: "المسيح قام، حقًًّا قام".
يا أحبّة، لقد مرّ وطننا في ظروف صعبة ساد خلالها الخلاف والحقد والتّجاوزات وتبادل التّهم والشّتائم، وأحيانًا اللّجوء إلى السّلاح والقتل، ما خلّف جراحًا في النّفوس وانهيارًا في البلد. وقد مرّت خمسون سنةً على ما سمّي الحرب الأهليّة أو حروب الآخرين على أرض لبنان، بأدوات لبنانيّة ودماء لبنانيّة. يقول بولس الرّسول: "الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله". أملنا وصلاتنا أن تطوى هذه الصّفحة إلى غير رجعة، وأن تسود المحبّة عوض البغض، والوئام والسّلام عوض العنف والقتل، وأن نبدأ حقبةً جديدةً مبنيّةً على الاعتراف بالخطأ، وعلى الغفران الّذي تعلّمنا إيّاه أدياننا، وعلى المحبّة الّتي نحن مدعوّون إلى اعتناقها سلوكًا دائمًا، فنتكاتف من أجل الخير العامّ، وندعم العهد الجديد وحكومته، الّتي نهنّئها على نيلها ثقة معظم البرلمانيّين، من أجل إعادة بناء وطننا على أسس متينة تقاوم كلّ الرّياح المؤذية. يقول لنا الرّسول بولس: "قد تناهى اللّيل واقترب النّهار، فلندع عنّا أعمال الظّلمة ونلبس أسلحة النّور. لنسلكنّ سلوكًا لائقًا". كما سمعنا في إنجيل اليوم: "لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض... لكن اكنزوا لكم كنوزًا في السّماء... لأنّه حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم" و"أبوك الّذي يرى في الخفية يجازيك علانيّةً". فليكن كلام الرّبّ، في بداية هذا الموسم الصّياميّ، نبراسًا لنا وهاديًا طريقنا إلى الملكوت السّماويّ، آمين."