لبنان
09 تشرين الثاني 2020, 06:55

عوده: البلد يحتاج لرجالات كبار مترفّعين عن كلّ مصلحة إلّا مصلحة الوطن

تيلي لوميار/ نورسات
"يا أيّها السّياسيّون، ألا يصمّ آذانكم أنين اللّبنانيّين؟ ألا يعذّب ضمائركم مشهد العاصمة المدمّرة وأهلها الحزانى المشرّدين والمستضعفين؟"، بهذه الأسئلة توجّه متروبوليت أبرشيّة بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده في عظته خلال قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في كاتدرائيّة مار جاورجيوس- وسط بيروت، وقد قال فيها:

"أحبّائي، هذا الأسبوع حافل بالأعياد، أوّلها اليوم مع رئيسيّ الملائكة ميخائيل وجبرائيل وسائر رؤساء الملائكة والقوّات الملائكيّة، وغدًا نعيّد للقدّيس نكتاريوس العجائبيّ أسقف المدن الخمس، وبعد غد نقيم تذكار الرّسول كوارتس، أحد الرّسل السّبعين، مؤسّس كنيسة بيروت، وأوّل أسقف عليها.

تجتمع في هذه الأعياد الثّلاثة أهمّ صفات المسيحيّ الحقيقيّ: المحبّة والتّواضع وتمجيد الله. وظيفة الملائكة الأساسيّة هي النّظر إلى العرش الإلهيّ وترنيم تسبحة الظّفر المثلّثة التّقديس: "قدّوس، قدّوس، قدّوس ربّ الصّباؤوت". نسمع في القدّاس الإلهيّ نصًّا يخاطبنا لكي نشابه الملائكة بالتّسبيح: "أيّها الممثّلون الشّيروبيم سرّيًّا، والمرنّمون التّسبيح المثلّث تقديسه للثّالوث المحيي، لنطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكلّ، تحتفّ حوله مراتب الملائكة بحال غير منظور". يحثّنا كاتب القدّاس الإلهيّ على ألّا نهتمّ بشيء أرضيّ زائل، وأن نكتفي بالنّظر إلى الرّبّ والتّحدّث معه بلغة الملكوت، أيّ بالصّلاة والتّسابيح، وهو يمجّدنا.

سمعنا في رسالة اليوم: "ما الإنسان حتّى تذكره، أو ابن الإنسان حتّى تفتقده؟ نقّصته عن الملائكة قليلًا، بالمجد والكرامة كلّلته وأقمته على أعمال يديك، أخضعت كلّ شيء تحت قدميه؛ ففي إخضاعه له كلّ شيء لم يترك شيئًا غير خاضع له". الإنسان الّذي هو أنقص من الملائكة قليلًا، كونه مجبولاً من مادّة زائلة، من الطّين، جعله الله سيّدًا على كلّ شيء، إلّا أنّه خسر هذه السّلطة بسقوطه في الخطيئة، ومع ذلك عاد الله الآب فأرسل ابنه الوحيد ليعيد الكرامة للإنسان، فتجسّد وخضع للآلام. يتابع الرّسول بولس: "إلّا أنّنا الآن لسنا نرى بعد كلّ شيء مخضعًا له (للإنسان)، وإنّما نرى الّذي نقّص عن الملائكة قليلًا (بأخذه جسدًا مادّيًّا)، يسوع، مكلّلًا بالمجد والكرامة لأجل ألم الموت، لكي يذوق الموت بنعمة الله من أجل الجميع". هذا، المجد الّذي ناله البشر بتجسّد المسيح الخلاصيّ وموته وقيامته البهيّة، لم تحصل الملائكة على مثله، ما يؤكّد عظم محبّة الله لنا. هذا يجعلنا نشعر بالتّميّز، لكن بتواضع طبعًا، لأنّ هذا التّميّز يحمّلنا مسؤوليّةً عظمى، الأمر الّذي يؤكّد عليه ما نسمعه في القدّاس الإلهيّ: "نشكرك أيضًا من أجل هذه الخدمة الّتي ارتضيت أن تتقبّلها من أيدينا، مع أنّه قد وقف لديك ألوف من رؤساء الملائكة، والشّيروبيم الكثيرو العيون، والسّيرافيم ذوو السّتّة الأجنحة، متعالين ومجنّحين". لقد تقبّل الرّبّ تقدمتنا، مع أنّه لا يحتاجها بوجود "ذبيحة التّسبيح" الّتي تقدّمها له ملائكته بلا فتور. مع ذلك، نعود ونسقط في الخطايا، مفضّلين إيّاها على اتّباع وصايا الرّبّ، فيما الملائكة ينفّذون أوامر الله بلا تردّد. يقول كاتب المزامير: "الصّانع ملائكته أرواحًا وخدّامه لهيب نار" (مز 104: 4)، أمّا نحن فنريد مجادلة الرّبّ في كلّ ما يشاؤه من أجل خلاصنا.

كلمة "ملاك" تعني "المرسل"، وكلّ مسيحيّ مرسل على الأرض لينقل البشرى السّارّة إلى إخوته. هذا ما قام به القدّيس نكتاريوس والرّسول كوارتس، كلّ منهما بطريقته، تجمعهما ميزتان، هما التّواضع والصّبر. فالقدّيس نكتاريوس ظلم واضطهد وقاسى ألم الشّائعات الّتي حيكت ضدّه، مع ذلك لم يفتح فمه، متمثّلًا بسيّده الّذي وصفه إشعياء النّبيّ بقوله: "ظلم وهو خاضع وما فتح فمه. كان كنعجة تساق إلى الذّبح، وكخروف صامت أمام الّذين يجزّونه لم يفتح فمه" (53: 7). هذه إحدى ميزات المسيحيّ الأساسيّة، لأنّ الظّلم إذا جوبه بظلم مثله، أتت النّتائج كارثيّةً، تمامًا مثلما يحدث حولنا في عالم اليوم. الأسبوع الماضي تعرّض كاهن أرثوذكسيّ لإطلاق نار، وهو بعيد عن أسباب النّزاعات الأخيرة، تلك النّزاعات الّتي أيقظت العصبيّات الدّينيّة في العالم أجمع. إنّ ما حدث مع الكاهن، أو في الكنائس الأخرى حول العالم، جوبه بالصّلاة والتّسبيح، وليس بإراقة الدّماء. ونحن نرفع الصّلاة من أجل كلّ من سقط ضحيّةً للعصبيّات، لكي يريح الرّبّ نفوس من انتقل منهم إلى الأخدار السّماويّة، ويضمّد جراح من نجا. من هنا نفهم رسالة المسيحيّين الملائكيّة، رسالة المحبّة والفرح القياميّ، لأنّ الغلبة والظّفر يحصلان بهذه الرّسالة فقط، لا بالعنف الّذي قد ينجرّ إليه البعض. ألم يعلّم المسيح تلميذه الّذي قطع أذن عبد رئيس الكهنة في بستان الزّيتون قائلًا: "ردّ سيفك إلى مكانه، لأنّ كلّ الّذين يأخذون السّيف، بالسّيف يهلكون" (مت 26: 52)؟

القدّيس نكتاريوس مثال معاصر لكلّ المسيحيّين الّذين يظنّون أنّ عليهم أن ينتقموا لأنفسهم من أجل ردّ الاعتبار إلى المسيحيّة، أو من أجل تقويم عمل الآخرين. لو كان فكر القدّيس نكتاريوس هكذا لما وصل إلى مبتغاه أو إلى هدف المسيحيّة الأسمى، أيّ التّألّه. نرتّل لرؤساء الكهنة القدّيسين، كالقدّيس نيقولاوس والقدّيس نكتاريوس قائلين: "لأنّك أحرزت بالتّواضع الرّفعة، وبالمسكنة الغنى". القدّيسون هم الّذين ساروا على خطى الرّبّ، بصبره على الآلام، فنالوا القيامة والحياة الأبديّة، ونحن مدعوّون لكي نفعل مثلهم.

الرّسول كوارتس، مثال آخر يحتذى به في الحياة الرّوحيّة المسيحيّة. هذا الرّسول الّذي يعود إليه الفضل في تأسيس كنيسة بيروت، هو من الرّسل السّبعين ومذكور في رسالة الرّسول بولس إلى أهل رومية (16: 23). يصف الرّسول بولس أخاه في الرّسوليّة كوارتس بـ"الأخ"، وهذه العبارة، على اقتضابها، تحمل المعاني الكثيرة. فالأخوّة المسيحيّة تحمل في طيّاتها المحبّة الكاملة والتّضحية الّتي لا حدود لها، على عكس الأخوّة السّياسيّة الّتي أصبحت مرادفةً للمصلحة والمنفعة. الأخ في المسيح يبلسم الجراح، ويأوي الغرباء، ويطعم الجياع، ويروي العطاش. ربّما هذا ما فعله الرّسول كوارتس في بيروت الوثنيّة الّتي حضر إليها حاملًا بشرى الخلاص السّارّة. الوثنيّون لا يعرفون المحبّة، بل يسعون وراء إشباع رغباتهم وملذّاتهم. ربّما كانت طريقة عيش الرّسول كوارتس للمحبّة المسيحيّة بينهم سببًا لاجتذابهم إلى المسيح واهتدائهم. الرّسوليّة أحيانًا هي عمل صامت، فعل محبّة يدوّي أكثر من الكلام الكثير. هكذا، بجهلنا سيرة حياة مؤسّس كنيستنا في بيروت، نتأكّد أنّ الصّمت أبلغ من كثرة الكلام، وأنّ البذار الّتي زرعها كانت بركة الرّبّ فيها، وها هي مثمرة حتّى يومنا هذا، وثمارها هم أبناء أبرشيّتنا المحروسة باللّه الّذين لا يزالون ثابتين على إيمانهم ورجائهم، رغم كلّ ما حملته إليهم الأيّام الصّعبة، ولا تزال.

أمّا الأخوّة السّياسيّة الّتي غالبًا ما نسمع عنها فهي متقلّبة بحسب الظّروف والمصالح. فمن كان أخاً اليوم أو حليفًا يصبح غدًا من ألدّ الأعداء، وهذه العداوة تنعكس سلبًا على المحيط وعلى الوطن.

مشكلتنا في لبنان أنّ لا أحد يثق بالآخرين، لأنّه يخشى أن ينقلبوا عليه إذا ما تغيّرت ارتباطاتهم أو ظروفهم. أنظروا إلى ما نعيشه اليوم. حلفاء الأمس يتناحرون، وينصبون الفخاخ في وجه بعضهم البعض، وإلّا ما سرّ العقد الّتي تنشأ فجأةً عندما تلوح حلحلة في موضوع الحكومة؟ وهل يحتمل البلد هدرًا أكثر للوقت؟ وهل يحتمل اللّبنانيّون تجاهلاً أكبر؟ يبدو أنّ الفوضى وغياب سلطة حاكمة فاعلة، تسائل وتحاسب، يناسبان من يعشّش الفساد في نفوسهم.

يا أيّها السّياسيّون، ألا يصمّ آذانكم أنين اللّبنانيّين؟ ألا يعذّب ضمائركم مشهد العاصمة المدمّرة وأهلها الحزانى المشرّدين والمستضعفين؟ الوقت لا يمكن استعادته، وقد أوشك على النّفاذ في معركتنا من أجل التّغيير والنّهوض بلبنان. وإن ضاعت الفرصة فهي الأخيرة كما تقولون أنتم. جميعكم تنادون بالإصلاح. ماذا فعلتم لفرضه؟ كلّكم ينعى الحالة الّتي وصلنا إليها، ماذا فعلتم لتداركها؟ معظمكم يشكو من الفساد ويحمل راية محاربته، ما هي الإجراءات الّتي اتّخذتموها؟ الجميع يريد حكومةً بالأمس قبل اليوم. لم لا تسهّلون ولادتها؟ ولم تضعون الشّروط والعراقيل؟ كلّكم تريدون المداورة فلماذا تتمسّكون بالحقائب الّتي تديرونها وكأنّها ملك لكم أو حقّ مكتسب؟ وإذا كنتم تدّعون خدمة الوطن والمواطنين إذا تسلّمتم هذه الحقيبة الوزارية دون الأخرى، فأنا أقول لكم إنّ الخدمة لا تكون في مكان دون الآخر، ومن أراد الخدمة يخدم في أيّ مكان. أمّا الشعب فيقول لكم أنتم تخدمون لبنان إذا تنحّيتم وفتحتم المجال أمام أصحاب الخبرة والاختصاص، لأنّه سئم وعودكم، وملّ تجاوزاتكم. ألا تدركون أنّ مصلحة الوطن والمواطن تأتي قبل مصالحكم؟ إنّ ما يعيشه اللّبنانيّون من وجع وحرمان لا يسمح لكم بهذا الدّلع السّياسيّ غير المقبول حتّى في مجاهل الغابات. أهكذا تؤلّف الحكومات في زمن المآسي؟ هل بتصفية الحسابات والتّعطيل حتّى نيل المطالب، أو بالتّقاسم والتّحاصص والشّروط يكون خلاص لبنان؟ وما هي حصّة اللّبنانيّ في وليمة التّقاسم هذه؟ هل فكّرتم بالمشرّدين والمحزونين والثّكالى والجياع؟ هل تدخل في حساباتكم الأوضاع الاقتصاديّة المنهارة، والأوضاع الاجتماعيّة السّيّئة، وأوضاع الطّلّاب والمرضى، والعاطلين عن العمل، وكلّ ذي حاجة؟ أوقفوا تدمير لبنان بسبب تعنّتكم وكبريائكم وأنانيّتكم. ألم يكفكم تفجير بيروت؟ هل تريدون تفجير لبنان بمن فيه؟ دعوا الرّحمة تدخل قلوبكم، وأعلنوا توبتكم عن كلّ الخطايا الّتي اقترفتموها بحقّ هذا البلد وأبنائه. إنّ عمرًا بكامله لن يكفيكم لتتوبوا عن كلّ أخطائكم. أنتم اليوم على قيد الحياة. هل تعلمون ماذا يخبّئ لكم الغد؟ في الماضي خاطبت ضمائركم ولكن دون جدوى. اليوم أخاطب قلوبكم علّها تلين. أنتم تنحرون لبنان. ماذا تتركون لأبنائكم ولأحفادكم إن كنتم لا تأبهون للّبنانيّين؟ ألا تلاحظون الشّرخ الكبير بينكم وبين شعبكم؟ لقد فقدتم شرعيّتكم يوم نزع الشّعب ثقته منكم. أتركوا هذا الشّعب الطّيّب يعيش. إنّه يستحقّ الطّمأنينة والسّلام والعيش الهانئ الكريم، في دولة عادلة ويقظة، بعد كلّ العذابات الّتي ذاقها، ولسان حاله يقول من فجّر منازلنا وقتل أولادنا وشرّدنا وأفقرنا وجوّعنا؟ أين نتيجة التّحقيق ومن هو المذنب؟ المواطن ما زال خائفًا على حياته وأمنه ومستقبل أبنائه وما زال يترقّب أيّ انفجار أو مصيبة ستحلّ به بعد، وأنتم تتلهّون بحصصكم، غير آبهين لمسؤوليّتكم ولحكم الله الآتي عليكم. البلد لا يبنى بالاستئثار واللّامبالاة، أو الحقد والانتقام، أو التّدخّلات والإملاءات، ولا بالتّعويل على الخارج أو الارتباط به. البلد يحتاج لرجالات كبار يتحلّون بالحكمة والعلم والنّزاهة والتّواضع والصّبر والقدرة على العمل الدّؤوب النّافع، عاملين بأحكام الدّستور، مترفّعين عن كلّ مصلحة إلّا مصلحة الوطن. فمن له أذنان للسّمع فليسمع."