لبنان
20 تشرين الثاني 2023, 06:55

عوده: الاستهانة بالموقع الأوّل في البلد يؤثّر على الحياة الوطنيّة بأسرها على وحدة البلاد ودورها

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس الياس عوده قدّاس الأحد، في كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس- وسط بيروت.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى عوده عظة جاء فيها: "أحبّائي، في إنجيل اليوم يعطي الرّبّ يسوع مثلاً عن غنيّ كان همّه أن يجمع غلّاته ويوسّع لها مكانًا، غير مهتمّ لخلاص نفسه، فأتت ساعته وهو غير مستعدّ.  

قبل هذا المثل، كان الرّبّ يسوع يحدّث الجموع عن الكرازة بلا خوف، كما عن الضّيقات الّتي ستأتي على ناقلي البشارة. وعندما طلب منه شابّ من الحضور أن يقول لأخيه أن يقاسمه الميراث قال للجموع: "تحفّظوا من الطّمع، فإنّه متى كان لأحد كثير فليست حياته من أمواله". جاء هذا الكلام بعدما رفض الرّبّ يسوع أن يكون قاضيًا بينهما، لأنّ الأرضيّات زائلة، لكنّه اغتنم فرصة الطّلب كي يظهر للجموع عاقبة الطّمع وحبّ المال والمقتنيات، ذلك من أجل خلاص نفوسهم.  

نشعر وكأنّ المسيح مرّ مرور الكرام على طلب الشّابّ. كان يتكلّم على الكرازة، فجاء الشّابّ بطلبه المادّيّ، لذا ربط الرّبّ بين الموضوعين، وكأنّه يشاء تحذير من أرادوا التّبشير من مغبّة حبّ المادّيّات، لأنّها تبعد الكارز عن أهداف كرازته السّامية، فتجعله عبدًا للمال بدلًا من فلّاح للصّالحات وغارس لكلمة الرّبّ في النّفوس.  

يقول القدّيس أمبروسيوس أسقف ميلان: "رأى الرّبّ أنّه ينبغي ألّا يتدخّل بين الإخوة كقاض، وإنّما يلزم أن يكون الحبّ (لا القضاء) هو وسيطهم في التّفاهم، وتقسيم الميراث الأبديّ لا ميراث الفضّة، إذ باطل هو تكديس الأموال إن كان الإنسان لا يعرف كيف يستخدمها". هذا يذكّرنا بتعليم الرّبّ في بداية إنجيل لوقا، الّذي قرأنا منه إنجيل اليوم، حيث يقول: "من له ثوبان فليعط من ليس له، ومن له طعام فليفعل هكذا" (3: 11). فالتّكديس وجمع الغلّات دون الاستفادة منها عن طريق أعمال المحبّة ليسا من صلب الحياة المسيحيّة، أو الحياة مع الله عمومًا. هنا لا بدّ لنا أن نتذكّر ما حدث مع الشّعب العبرانيّ في البرّيّة، الّذين أعطاهم الله المنّ، فأكلوا، لكنّهم خافوا ألّا يعطيهم غيره في الأيّام التّالية، فراحوا يخزنونه، ففسد وخسروه بسبب عدم ثقتهم بالله المعطي.  

مثل إنجيل اليوم ليس موجّهًا ضدّ الأغنياء إنّما هو موجّه إلى كلّ من يتعلّق بالمادّيّات أكثر من الرّبّ، وهؤلاء قد يكون بينهم فقراء ومساكين. كلام المسيح يعني أنّ العالم سيكون مليئًا بالضّيق المستمرّ، الأمر الّذي نعاينه يتحقّق حولنا كثيرًا في الآونة الأخيرة، لكنّ الرّوح القدس يساندنا، وفي النّهاية يعترف المسيح بمن يثبت. واضح من كلام المسيح أنّه يريد رفع مستوى تفكيرنا نحو السّماويّات والتّأكيد على أنّنا غرباء في هذه الأرض. لهذا، نسمع في القدّاس الإلهيّ: "لنضع قلوبنا فوق"، تذكيرًا بما نكون قد سمعناه قبلًا، بعد تلاوة الإنجيل، من المرتّل القائل: "لنطرح عنّا كلّ اهتمام دنيويّ، كوننا مزمعين أن نستقبل ملك الكلّ" لأنّه لا يمكن لمن يسعى إلى الاتّحاد بالمسيح أن يكون مادّيًّا.  

منذ أيّام بدأ الصّوم الميلاديّ الأربعينيّ، الّذي نطرح خلاله اهتمامنا بالمادّة ونغتذي من كلام الرّبّ ومن الصّلاة والصّوم، بهدف الوصول إلى استقبال ملك الكلّ، الّذي علّمنا التّواضع ورذل المادّيّات بميلاده في مذود للبهائم. إلّا أنّ العالم يشدّ النّاس إلى المادّيّات، خصوصًا في هذه الفترة من السّنة، قبيل الأعياد، فينسى النّاس أنّ المسيح أتى مجهولًا لكي يخلّص النّفوس الّتي كبّلتها المادّة وجرّتها نحو الخطيئة. لذلك، ينبّه الرّبّ يسوع من أنّ الطّمع هو أخطر عدوّ يواجه المؤمن، وقد دعاه الرّسول بولس "عبادة أوثان" (كو 3: 5). فالطّمّاع ينسى انتماءه للسّماء، ويظنّ أنّه سيعيش إلى الأبد على الأرض. عندما نثق بأنّ المال لا يعطي سلامًا، بل الله هو الّذي يمنحه، عندئذ نرث الكنوز المعدّة لنا في ملكوت السّماوات.  

لم يخطئ غنيّ مثل اليوم في إرادة بناء المخازن الأوسع، لأنّ هذا أمر طبيعيّ، لكنّه أخطأ في طريقة تفكيره. ظنّ أنّه سيعيش إلى الأبد، فلم يفكّر بالمساكين الجياع ولم يوزّع عليهم من خيرات الأرض الّتي منحه إيّاها الله. أعمته أناه، وظنّ أنّ الخيرات والغلّات هي له، أو جاءت بتعبه، ونسي أنّ الله هو الواهب، فمات في طمعه.  

في الفكر المسيحيّ ما يسمّى "ذكر الموت"، إذ يضع المسيحيّ نصب عينيه إمكانيّة مغادرة العالم في أيّة لحظة، الأمر الّذي يدفعه إلى التّوبة الدّائمة ونبذ المادّيّات الفانية، وكنز الكنوز السّماويّة.  

يا أحبّة، أين المسؤولون من هذه الأفكار الإلهيّة؟ كلّ منهم يظنّ أنّه خالد، فيوسّع أهراءه، ويخزّن فيها ما وهبه إيّاه الله لمساعدة الآخرين. بلدنا انهار، وذوو السّلطة والنّفوذ ما زالوا على ترفهم، وبطشهم، وطمعهم بخيرات البلد وأموال الشّعب، لذا لا نرى جدّيّةً في العمل على حلول ناجعة تنهض بالبلد وأبنائه. الإصلاح الموعود تعثّر لسبب نجهله، مسيرة النّهوض توقّفت، أموال النّاس تبّخّرت، حتّى تحقيق المرفأ عثّر وصرف النّظر عنه. لقد عجزوا عن انتخاب رئيس، والبلد يدار من حكومة تصريف أعمال تكبّلها ارتباطات أعضائها أو مصالحهم، ومجلس النّوّاب لا يعمل، لا ينتخب ولا يشرّع ولا يراقب ويحاسب، والشّغور يكاد يعمّ معظم الإدارات العامّة شبه المقفلة. والأخطر عدم احترام الدّستور وتفسيره بما يناسب المصالح. إنّ الاستهانة بالموقع الأوّل في البلد يؤثّر على الحياة الوطنيّة بأسرها، على وحدة البلاد ودورها، وعلى أداء المؤسّسات وملء الشّغور فيها. ألم يحن الوقت بعد لتخطّي الأنا والالتفات للمصلحة العامّة، خاصّةً في هذا الظّرف؟  

الله فطرنا على الحبّ، فلا نشوّهنّ ما خلقه الله أكثر فأكثر.  

دعوتنا اليوم أن نرمي عن نفوسنا وقلوبنا وشاح الأنا والطّمع، وأن نلبس لباس المحبّة الّذي توشّحنا به في المعموديّة. وليكن هدفنا الملكوت السّماويّ حيث الغنى الحقيقيّ، عوض تكبيل أنفسنا بغلّات تسرق وتتلف ونموت قبل الاستفادة منها.  

كذلك نرفع الصّلاة من أجل المعذّبين والمقهورين في غزّة حيث حتّى الحجر يئنّ، ونسأل الله أن يرفع عنهم الظّلم، وأن يدرك العالم أنّ ما يجري هناك جريمة بشعة، لكنّ الأبشع هو سكوت العالم وعجزه عن وقف المجزرة. حمى الله الأطفال والأبرياء وحمى لبنان من كلّ شرّ. آمين."