عوده: الاستحقاق الانتخابيّ هو فرصة على الجميع اغتنامها حتّى يعود بلدنا إلى ألقه
"أحبّائي، عادةً، عندما نسمع مقطع البرص العشرة، يستوقفنا جحود المشفيّين التّسعة، واستعداد السّامريّ "الغريب" للاعتراف بالجميل، وقد رجع بعد شفائه ليشكر المسيح. إلّا أنّ الآباء القدّيسين يستنبطون لنا من هذه القصّة معاني أخرى، فينتزعون قشرة الظّاهر الخارجيّ، ويكشفون ثمارًا روحيّةً تغذّي نفوسنا.
كانت عناصر النّاموس كلّها رسومًا لما حصل في زمن المسيح والكنيسة، وظلالًا للحقائق الّتي صعب على الشّعب الإسرائيليّ أن يراها برؤيته الضّعيفة. هذا الشّعب كان أسير جسده، ومعرفته الجسدانيّة، لذلك كلّمه الله بأمثال جسديّة. فالبرص بحسب النّاموس الموسويّ، كان مرتبطًا بالخطيئة، نجسًا شنيعًا، وكان البرص يحسبون مدنّسين. طبعًا، لا ينكر أحد أنّ نصوصًا كثيرةً من الشّريعة الموسويّة هدفت إلى حماية صحّة الإسرائيليّين الجسديّة، لكن لا بدّ من القول إنّها رمت إلى أبعد من ذلك. إتّخذت صفةً رمزيّة، وأرادت أن تمرّر إشارات تساعد على حماية الشّعب روحيًّا من جراثيم الخطيئة المتنوّعة الأشكال. يوضح لنا مثل آخر هذه الصّفة للشّريعة الموسويّة. فإضافةً إلى البرص، يعدّ أيضًا نجسًا كلّ من لمس جسد إنسان ميت. من خلال هذين الأمرين، كلّم الله شعبه على نجاسة الخطيئة، وفي الوقت نفسه، على نجاسة الّذين يتّصلون بأناس خاطئين.
ليست الخطيئة حدثًا شخصيًّا، ولا هي تخصّ الّذي يرتكبها وحده. إنّها مرض وبائيّ، ينتقل بسهولة إلى الآخرين، يدبّ في العلاقات الشّخصيّة، ويفكّك وحدة المجتمع. الخطيئة إذًا هي ظاهرة ضدّ المجتمع، والبرص الّذين يرمزون إلى الخطأة اعتادوا أن يعيشوا خارج المدن، حيث التقاهم المسيح. لكي تحمي المواطنين عزلت الشّريعة الموسويّة البرص في أماكن غير مأهولة لمنع العدوى. الخطيئة كالمرض تعدي، والخاطئ يؤذي نفسه، الأمر الّذي يدعو إلى الرّثاء، لكنّه أيضًا يظلم الّذين معه لأنّه يرى فيهم أدوات يستغلّها. لا يستطيع أن يرى في الآخرين أيقونة المسيح، بل يراهم أدوات لخطاياه. هذه العقليّة الّتي تكشف عن نفس ميتة فارغة من نعمة الرّوح القدس، هي معدية، كالبرص.
إنّ الخاطئ ميت روحيًّا، ولكي تظهر الشّريعة الموسويّة مقدار الضّرر النّاجم عن الاتّصال بالموتى الرّوحيّين من غير تمييز، حسبت من يستند إلى جسد ميت نجسًا. هذه الرّسالة نفسها أوصلها الرّسول بولس إلى أهل كورنثس بطريقة مختلفة عندما كتب لهم قائلًا: "لا تضلّوا، إنّ المعاشرات الرّديئة تفسد الأخلاق السّليمة" (1كو 15: 33). لقد أراد النّاموس، من خلال البرص، أن يشير إلى الغشّاشين والمحتالين والفوضويّين، والّذين يحفظون الإساءة. وكما يجعل البرص بشرة الجسد خشنةً ومتلوّنة، هكذا الغشّ والشّرّ والغضب، كلّها تجعل النّفس غليظةً ومتقلّبةً ومشوّهة. نفس كهذه هي بؤرة للوباء في المجتمع، تنشر الأمراض الّتي تصيب النّفس الخالدة، وتنقل إلى الجهاز الرّوحيّ برص الخطيئة.
يشفي الرّبّ كلّ من هو بحاجة إلى شفاء، لكنّ الإنسان يخلص فقط بالإيمان بالرّبّ يسوع. لقد شفى الرّبّ العشرة البرص بسبب طاعتهم للذّهاب إلى الكاهن (لو17: 14) ولكنّ واحدًا خلص، وهو السّامريّ الّذي رجع يمجّد الله بصوت عظيم شاكرًا، خارًّا على وجهه عند قدمي الرّبّ، لأنّه وعى علاقته مع الله خالقه. الإنسان يشفى من أسقامه لأنّ الرّبّ رحوم وحنون، لكنّ الإنسان ينظر إلى مرضه وشفائه كمسألة طبّيّة، متناسيًا الوقوف أمام الرّبّ ممجّدًا وشاكرًا إيّاه على نعمة الشّفاء. الإيمان وحده يخلّص وهو الباب نحو الملكوت. الخلاص هو شفاء النّفس والجسد وهذا يحصل بالإيمان. قال الرّبّ يسوع: "إن كنت تستطيع أن تؤمن فكلّ شيء مستطاع للمؤمن" (مر9: 23).
من خلال شفائه للبرص العشرة، ولسواهم من النّاس، أراد المسيح أن يظهر أنّه هو شافي النّفس، وأنّه هو الّذي يستطيع أن يعطي الصّحّة للجنس البشريّ المنفسد ببرص الخطيئة. لقد استجاب الرّبّ دعاء البرص، فأرسلهم إلى الكهنة، كمتمّمين للشّريعة، كي يتحقّقوا من شفائهم. يمكننا أن نرى في هذه النّقطة رسمًا لسرّ الاعتراف. فمن يعرف مرضه الرّوحيّ، ويعرف أهواءه وخطاياه بتواضع، "يرفع صوته" نحو المسيح، ويصلّي له، معترفًا بخطاياه ذهنيًّا. يقوم بما نسمّيه اعترافًا ذهنيًّا، وهذا الأخير هو شرط الاعتراف الصّحيح أمام الكاهن، أيّ الأب الرّوحيّ. وصلاة الاعتراف هذه هي بدء الشّفاء.
نلاحظ أنّ البرص، فيما أطاعوا وذهبوا إلى الكهنة، "بينما هم ذاهبون برئوا" (لو 17: 14). إذًا، الصّلاة هي نفحة محيية، تبعث في داخلنا رغبات روحيّةً كانت مائتة. توحي لنا بطاعة الآباء القدّيسين، ومؤسّسي الكنيسة. تشدّد الرّغبة في الاعتراف، وتحثّنا على سرّ التّوبة، أيّ الرّجوع إلى الله. أمّا الصّلاة غير المرتبطة بالتّوبة، وغير المؤدّية إلى ممارسة الأسرار المقدّسة، فهي مجازفة روحيّة خطرة. إذًا، في طاعتنا لتراث الكنيسة، وللوحي الّذي تبعثه نعمة الله فينا، عندما نقرّر أن نكشف جراحاتنا الرّوحيّة لأبينا الرّوحيّ، من الآن "فيما نحن ذاهبون" نتطهّر. من الآن نكتسب قوّةً ضدّ الخطيئة، فنتحرّر من قيودها. نعم، ما زلنا نخاف الخطيئة، لأنّها تأسر انتباهنا بسهولة، لكنّنا نستطيع أن نصرف وجهنا عن إيحاءاتها، لأنّنا بدأنا نتذوّق نوعيّة حياة أخرى.
من المهمّ أن يعرف المؤمن الدّور الكبير الّذي يؤدّيه الكاهن في حياته. أيضًا، مهمّ أن يعرف كيف يستغلّ ظروفه، فلا يتأخّر ولا يؤجّل. فالرّغبات الرّوحيّة الّتي تؤول إلى التّعمّق في حياة الكنيسة، يجب ألّا تبقى غير مشبعة. والإلهامات الّتي تولّد التّوبة يجب أن تتغذّى دائمًا بالأعمال وبالاعتراف معًا. إنّ الحركة الّتي تثيرها نعمة الله فينا، بشتّى الطّرق، لا بدّ من أن تخرجنا إلى جادّة العمل. هناك "فيما نحن ذاهبون" سوف نتحقّق من تجدّدنا.
يا أحبّة، سمعنا في نصّ رسالة اليوم الرّسول بولس يقول: "أميتوا أعضاءكم الّتي على الأرض: الزّنى والنّجاسة والهوى والشّهوة الرّديئة والطّمع الّذي هو عبادة الأوثان، لأنّه لأجل هذا يأتي غضب الله على أبناء العصيان... إطرحوا الكلّ: الغضب والسّخط والخبث والتّجديف والكلام القبيح من أفواهكم، ولا يكذب بعضكم بعضًا، بل اخلعوا الإنسان العتيق مع أعماله والبسوا الإنسان الجديد الّذي يتجدّد للمعرفة على صورة خالقه". إنّ هذه الأمور الّتي يطلب الرّسول بولس أن نبتعد عنها، نراها متجذّرةً في مجتمعاتنا، أينما نظرنا في أقطار المسكونة، وخصوصًا في بلدنا، حيث لا نسمع إلّا الغضب والخبث والتّكاذب والكلام القبيح، وحيث يعمل كلّ طرف وكلّ حزب وكلّ فرد من أجل مصلحته ولو على حساب المصلحة العامّة، وحيث أصبح تعطيل المؤسّسات وسيلةً للوصول إلى الهدف، وتشويه الحقائق إحدى أدوات العمل السّياسيّ، وأصبح معظم النّاس يسعون وراء الرّبح القبيح بسبب الأوضاع الّتي نمرّ بها، ولهذا لم يعد أحد ينظر إلى أخيه على أنّه صورة للخالق، أيقونة، كما ذكرنا سابقًا. كلّ من هو في الرّاحة المادّيّة يريد أن يربح المزيد ويسعى إلى الغنى الفاحش وحفظ المال، ولو على حساب صحّة الآخر وحياته، أيّ الفقير والمريض واليتيم وكلّ محتاج. المسؤول يريد أن يبقى مسؤولًا، حتّى ولو اضطرّ على أن يصمّ أذنيه ويعمي عينيه ويقتل ضميره، أمام ما يشاهده من ذلّ يصيب الشّعب بسبب جشعه وبسبب طمعه بالسّلطة وتعلّقه بالمركز. أمّا الشّعب، فبدلًا من أن يكون يدًا واحدةً، لأنّ الفساد أصاب الجميع بلا تفرقة بين فئة أو أخرى، ما زال وباء التّحزّب الأعمى يستشري بينهم وعبادة الزّعيم وتقديس الحزب أو الطّائفة واجب بنظرهم، لا يحكّمون عقولهم ولا يفتحون عيونهم على الحقيقة المرّة: كلّ شيء ينهار على رؤوس الجميع. الإنهيار تتسارع وتيرته، والدّولار يجتاح ما تبقى من مدّخرات، والفقر يغزو الشّعب واليأس يعمّ في ظلّ تباطؤ مميت في حماية الشّعب والسّعي إلى الإنقاذ، وتعطيل المؤسّسات وشلّ أعمالها، وغياب الأصوات المندّدة، والمواطن عاجز، والقضاء مغلوب على أمره. ألا يدعونا هذا الأمر للتّساؤل؟ هل اعتاد الشّعب على الخوف والذّلّ والخنوع؟ اللّبنانيّ كان دومًا يحمل شعلة الحرّيّة والكرامة، فماذا تغيّر؟ إذا كانت الفرصة مؤاتيةً للتّغيير الحقيقيّ، وإن كان الشّعب صادقًا في ما يقوله يوميًّا، أملنا أن نشهد تغييرًا حقيقيًّا جذريًّا نأمله نحو الأحسن والأفضل لبلدنا وشعبه. إنّ يوم الاستحقاق الانتخابيّ ليس يومًا للنّزهة، بل هو فرصة على الجميع اغتنامها حتّى يعود بلدنا إلى ألقه فترفرف رايته مجدّدًا بفخر واعتزاز سلبهما كلّ من ارتضى بأن يصبح لبنان مطيّةً ومقرًّا للغرباء والنّزلاء.
يا أحبّة، لفتني موقف البريطانيّين الّذين اكتشفوا أنّ رئيس وزرائهم بوريس جونسون، لم يحترم قواعد الحجر الصّحّي الّتي كانت مفروضة، وأقام حفلاً في مقرّه، مع بعض أصدقائه، فيما التّجمّعات محظورة في البلاد. الشّعب الّذي يحترم قانون بلاده ويعتمد مساءلة ومحاسبة من ينتهك القواعد ولا يحترم القانون، ولو كان مسؤولاً كبيرًا، شعب يستحقّ الاحترام والتّقدير. وها هو رئيس وزراء بريطانيا يواجه وحيدًا شعبه ومسؤولين في حزبه، لا طائفة تحميه، ولا قبيلة تغطّيه، ولا حزب أو محازبون يرفضون المسّ به. لم تعان بريطانيا في عهده انهيارًا ماليًّا واقتصاديًّا، ولا عزلاً دوليًّا، ولا تقهقرًا اجتماعيًّا أو فقرًا وجوعًا، ولم تهبط قيمة عملتها أو انقطع الدّواء أو عمّت الظّلمة. ما اقترفه هو عدم احترام قرار مفروض على الجميع. لقد طالب الشّعب بالالتزام بقواعد الحجر والتّباعد وعدم التّواجد في تجمّعات، وجمع أصدقاءه في مقرّه، فطالبه الشّعب بالاستقالة، وقد يكون مضطرًّا على مغادرة مقرّه وحيدًا، خائبًا، لأنّ لا أحد يقبل، في بلد يحترم نفسه ودستوره وقوانينه، أن لا يكون المسؤول فيه مثالاً يحتذى. حتّى الملكة احترمت القيود المفروضة وودّعت زوجها وحيدةً. أملي أن يتعلّم شعبنا، من هذا الشّعب، كيف يكون وطنيًّا وكبيرًا، ويحاسب مسؤوليه احترامًا لبلده، وكيف يحافظ على التّباعد الجسديّ وعدم التّجمّع، حتّى في الجنانيز والأعراس والأعياد، منعًا لتفشي الوباء وحفاظًا على صحة الذّات وصحّة الآخرين.
ألا بارك الرّبّ نفوسكم، وألهمكم حتّى تعيدوا الكرامة لبلدكم والحقّ لإخوتكم والحرّيّة لنفوسكم، والعدالة والفرحة والازدهار إلى كلّ منزل وقطاع، فيبلسم جرح الأمّهات الثّكالى، وتمسح الدّمعة عن وجه كلّ من طالته أذيّة، آمين."