عوده: إنّ الكنيسة لا تخضع للتّرهيب والكيديّة ولا تخاف إلّا ربّها ولا تنفّذ إلّا تعاليمه
"أحبّائي، كثيرًا ما تبدو كلمة المسيح كما دوّنها الإنجيليّون، وأقوال القدّيسين، كأنّها مبتورة. فهي لا تجيب مباشرةً عن الأسئلة الّتي تطرح، بل تعطي إجابات عن أسئلة لم تطرح. تواجه مشاكل قد لا تبدو ظاهرةً في الحال، بينما تترك ما نظنّه ملحًّا لوقت لاحق. إنّ هذا الشّعور بعدم اكتمال الكلمة ليس إلّا دليل ضعفنا في متابعة الحوار الدّاخليّ الّذي يجريه المسيح مع كلّ إنسان يقترب منه، مواجهًا كلّ مشكلة من جذورها وليس سطحيًّا. المسيح والقدّيسون يعالجون مشاكل الإنسان الحقيقيّة انطلاقًا من أسبابها، ويعطينا شفاء المخلّع في إنجيل اليوم مثالًا مميّزًا على ذلك.
إنّ الخطيئة هي مرض النّفس الّذي يشلّ قواها ويزعزعها. النّفس المريضة تنقل المرض إلى الجسد، لذلك، في إنجيل اليوم، لمّا رأى المسيح إيمان النّاس الّذين أحضروا المخلّع إليه، شفى نفسه أوّلًا وقال له: "مغفورة لك خطاياك". ألغى سبب المرض، ثمّ شفى "العوارض"، وهي شلل الجسد، من أجل عدم إيمان الكتبة.
تحلّى الرّجال الّذين أحضروا المخلّع بالإيمان والرّجاء، أمّا المخلّع نفسه، فيبدو أنّه غرق في اليأس لسببين رئيسين: مرض الجسد، ومرض النّفس. يظهر أنّه فقد شجاعته، وحاربته الخطيئة. شعر أنّ الخطيئة مرتبطة بشلل الجسد، ورأى أنّه عاجز عن مواجهة توبيخات الضّمير من جرّاء ذكرى خطاياه. لذلك، حينما رأى المسيح المأساة الّتي عاشها تحت حجاب مرضه الجسديّ، قال له: "ثق يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك". أعطاه مغفرة الخطايا، وفي الوقت نفسه قال له أن يتشجّع. كلمة المسيح الوجيزة هذه تدلّنا على الدّرب المستقيم في مرحلة حرجة من حياتنا الرّوحيّة.
من أهمّ المشاكل الّتي ترهق نفس الإنسان تأنيب الضّمير. فالخطيئة أظلمت صورة الله في الإنسان، دون أن تمحوها. الذّهن الغارق في الأهواء يقاوم، فيما الضّمير يؤنّب. تاليًا، لا تنفكّ "شريعة الذّهن" تصطدم بـ"شريعة الجسد" الّتي تحاربنا بالشّهوات الجسديّة. توبيخات الضّمير هي دعوات مستمرّة إلى التّوبة، كما أنّها فعل النّعمة الّتي نلناها بالميرون، وهي تنشأ من معرفة الله ومن المعرفة الواضحة للخطيئة. لقد أعطينا بنعمة الميرون موهبة المعرفة الرّوحيّة الّتي يحملها أعضاء الكنيسة الأحياء كلّهم. يقول الرّسول يوحنّا الإنجيليّ: "أمّا أنتم فلكم مسحة من القدّوس وتعلمون كلّ شيء" (1يو 2: 20). فإنّ معرفة الله ترهف إحساسنا بحركات الخطيئة في داخلنا. لذلك ترتبط معرفة الله الحقيقيّة بتكوين فكرة متواضعة عن أنفسنا، ومن يعرف الله حقيقةً، يعرف حالته الخاطئة بعمق.
إنّ الّذين لا يعانون من توبيخات الضّمير هم الّذين لا يصونون نعمة المعموديّة المقدّسة بحياة لائقة. الرّوح القدس الّذي نأخذه بمسحة الميرون يحيي الذّهن ويؤدّبه بمساعدة النّاموس المكتوب فيصبح قادرًا على التّمييز بين الحقيقة والضّلال. هكذا، يدرك الإنسان متى يرضي عمله الله، ومتى يعاكس مشيئته.
إذًا، تأنيب الضّمير من مواهب ختم الرّوح القدس الّتي أخذناها في سرّ الميرون. توبيخ الضّمير هو الطّريقة الّتي يستخدمها الله لكي يوقظنا من الغفوة الرّوحيّة، ويغيّر الدّرب الخاطئة الّتي اتّخذناها. لكن، عندما لا يقودنا توبيخ الضّمير إلى التّوبة، يخلق لنا مشاكل كثيرة. من هنا تبرز الحاجة إلى مرشد مناسب يستطيع أن يحوّل ألم تأنيب الضّمير إلى ألم التّوبة. لهذا، يصدّه البعض محاولين نسيانه، مختارين أنماط حياة مليئةً بالضّجيج الخارجيّ. آخرون يحاولون إزالته، محوّلين أهواءهم إلى مظهر الفلسفة أو حتّى إلى التّكلّم باللّاهوت، مقنعين أنفسهم بأنّ غير الطّبيعيّ طبيعيّ، والمخالف للنّاموس شرعيّ. آخرون يضعفون إزاء هذا التّأنيب فيغرقون في اليأس. بحسب القدّيس نيقوديموس الآثوسيّ، ليس كلّ فكر يوبّخنا هو من الله. كثيرًا ما يزرع فينا الشّيطان مثل هذه الأفكار المباركة ظاهريًّا، بهدف إقلاقنا وجعلنا نفقد رجاءنا. يستغلّ ثقتنا بأنفسنا، فيما الأفكار الآتية من الله سلاميّة، ومع ألم تأنيب الضّمير تحملنا على الرّجاء برحمة الله وصلاحه. إنّ شرط مغفرة الخطايا هو الثّقة برحمة الله والثّقة بصلاحه، واليوم، من خلال المخلّع، يوجّه المسيح لكلّ منّا دعوته القائلة: "ثق يا بنيّ"، إذ إنّ خطايانا ليست أقوى من رحمته.
يا أحبّة، عيّدنا منذ أيّام للنّبيّ العظيم إيلياس التّسبيتيّ الغيور. أنبياء العهد القديم كانوا هم صوت ضمير الشّعب، إذ لم تكن المعموديّة والميرون بعد. إذا قرأنا سيرة النّبيّ إيلياس، الموجودة في سفر الملوك، نفهم كيف كان صوت الضّمير بالنّسبة إلى الملكة إيزابيل الّتي اقتادت زوجها وشعبها إلى عبادة بعل، وقد حاولت إسكات النّبيّ عبر ملاحقته وقتله، عوض أن تسمع كلام الله الّذي ينقله إليها. ألا نعيش الأمر نفسه في أيّامنا؟ إذ بدلًا من سماع صوت الرّبّ ووصاياه، يصمّ الشّعب والمسؤولون الآذان، لاهين عن كلّ ما يجرّد الإنسان من إنسانيّته وضميره، بغية جني الأموال أو الوصول إلى مركز أو غاية. يعبدون وثن الأنا، عبر إسقاط صورة الله الّتي خلقوا عليها، ويرتدون ألبسة الخطيئة، فقط من أجل الشّهرة والمال والسّلطة. عبادة البعل، في العهد القديم، كانت قائمةً على الزّنى والسّكر والخلاعة وهذا ما حذّر منه الأنبياء، ومنهم النّبيّ العظيم إيلياس، لأنّ تلك الأفعال تشوّه صورة الله في الإنسان.
أمّا في بلدنا، فعبادة وثن السّلطة والمال والمناصب والكراسي قد أبعدت رحمة الله عن الشّعب، لأنّه، كما أنّ خطيئة الملكة إيزابيل جلبت الدّينونة على كلّ الشّعب، كذلك خطايا مسؤولينا أوصلتنا إلى جهنّم وما بعدها. أفعالهم، القائمة على الأنانيّة، والمحاصصة، والمسايرة، والنّكايات وتصفية الحسابات، إضافةً إلى التّباطؤ المريب في تحقيقات تفجير بيروت، وفي تشكيل حكومة قد تفعل شيئًا إنقاذيًّا رغم عمرها الّذي سيكون قصيرًا، زرعت اليأس في النفوس. الأمل يبقى في حفظ الدّستور، وفي إتمام الاستحقاق الأهمّ في وقته، من دون تعطيل أو رضوخ لمصالح الدّاخل والخارج. الإصلاح يحتاج رجالًا على شاكلة النّبيّ إيلياس، يواجهون الخطأ ويحطّمون الأصنام، ولا يطأطئون الرّأس أو يطمرونه كالنّعامة عند كلّ خطر أو عند كلّ استحقاق أو ضرورة إنقاذ.
أمّا ما حصل في الأيّام الماضية فيدعو إلى التّساؤل والرّيبة: توقيف أسقف أعزل إلّا من بعض المساعدات الإنسانيّة لمواطنين أفقرتهم دولتهم، فيما المهرّبون ومستنزفو مال الشّعب وطعامه ودوائه يسرحون ويهربون، ومساءلة موظّف شريف يقوم بواجبه عوض مساءلة ومعاقبة كلّ من يتجاوز القانون والدّستور، ومن يستغلّ نفوذه ومركزه، ومن يتعالى على الدّولة وسلطتها وهيبتها وسيادتها.
هل أصبح الموظّف الّذي يسمع صوت ضميره ويطبّق القانون ويفضح التّجاوزات والسّرقات مدانًا، أمّا من يسطو على الدّولة وقراراتها، ومن يسرق خيراتها ويجني الأرباح من الصّفقات السّرّيّة والعلنيّة فأعماله محمودة؟
نحن مع محاسبة ومعاقبة كلّ مجرم وسارق ومخالف للقانون كائنًا من كان، لكنّ ما جرى مع أخينا المطران غير مقبول وينذر بوجود نهج جديد في التّعامل الأمنيّ والقضائيّ يؤدّي إلى تداعيات خطيرة على مستوى الوطن. وهذا أمر خطير ومرفوض ونأمل عدم تكراره. أمّا إذا كان توقيفه رسالةً إلى الكنيسة من أجل إسكات صوتها، فإنّ الكنيسة لا تخضع للتّرهيب والكيديّة، ولا تخاف إلّا ربّها، ولا تنفّذ إلّا تعاليمه، ولا تسمع إلّا صوت الضّمير والواجب، وواجبها احترام الإنسان ومحبّته، والحفاظ على كرامته والدّفاع عن حرّيّته. هكذا كانت الكنيسة منذ تأسيسها وهكذا ستبقى بنعمة ربّها وسيّدها يسوع المسيح.
إنّ القضاء النّزيه والعادل والبعيد عن السّياسة والمصالح وتصفية الحسابات وحده يبني البلد ويقيم العدالة.
صلاتنا أن ينهض بلدنا المخلّع، مثلما قام مشلول إنجيل اليوم، لكنّ القيامة تحتاج إلى اعتراف بالخطأ، تتبعه مغفرة، ثمّ عمل حثيث، فمن له أذنان للسّمع فليسمع، آمين".