لبنان
03 تموز 2019, 07:52

عوده إلى طلّاب مدارس أبرشيّة بيروت الأرثوذكسيّة: أوصيكم ألّا تتكبّروا أو تنتفخوا، وخصوصًا ألاّ تيأسوا

برعاية متروبوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس المطران الياس عوده وحضوره، أقامت المدارس التّابعة للأبرشيّة مساء الثّلاثاء، في حرم مدرسة البشارة الأرثوذكسيّة- الرّميل، حفل تخريج مئتين وثمانية وعشرين طالبًا في حضور مدراء مدارس الثّلاثة الأقمار، زهرة الإحسان، مار الياس بطينا الثّانويّة، البشارة الأرثوذكسيّة، ثانويّة السّيّدة الأرثوذكسيّة، إضافة إلى مدرستي القدّيس كوارتوس الرّسول للتّنشئة اللّاهوتيّة والقدّيس رومانوس المرنّم للموسيقى الكنسيّة. وحضر الاحتفال إلى جانب أفراد الهيئتين التّعليميّة والإداريّة وأهالي الخرّيجين وعدد كبير من المدعويّين.

 

بدأ الاحتفال بالصّلاة تلاها النّشيد الوطنيّ اللّبناني، ثمّ ألقت السّيّدة نايلا ضعون، مديرة مدرسة الثّلاثة الأقمار، كلمة مدراء المدارس المشاركة، ورحّبت بسيادة المتروبوليت الياس شاكرة إيّاه على رعايته الدّائمة، ومشدِّدةً أنَّ "دورَ التّربية اليومَ هوَ في المُحافَظَةِ على إنسانيّة الإنسان، في المحافظة على شعلة الرّجاء فينا من خلال نقل الخبُرات المعاشة، ومن خلال رَبطِ المسائل والقيم بالحياة وقيمَتِها، من خلال التّدرُّبِ والتّدريبِ على طرح الأسئلة المناسبَة بهدف الإبحار إلى العمق، إلى أبعدَ من المَظاهِر". ثمّ كانت للمطران عوده كلمة قال فيها:

"أيّها الأحبّة،

كلَّ عام أتأمّلُ الأجيالَ المنطلقة إلى الحياة، وكلَّ عام أفتكرُ في ما سوف أقولُه لهم، علَّهم يحملون منه زادًا لتلك الحياة.

عندما أقفُ هنا، أنسى لبرهةٍ أنّني أسقفٌ، وأشعر بأنّي أبٌ يسلِّمُ أبناءَه المشعل، كي يفردوا أجنحتَهم ويطيروا نحو الهدف الّذي جلسوا، لسنواتٍ طوالٍ، على مقاعد الدّراسة، يتهيّأون له.

فيا أبنائي وبناتي الأحبّاء،

يقول رئيس جنوب أفريقيا الأسبق نيلسون مانديلا: "إنّ العِلمَ هو السّلاحُ الأقوى الّذي يمكنكم استخدامُه لتغيير العالَم". نحن نعيش في عالمٍ يتخبَّط في الرّذائل، الّتي يرينا إيّاها الشّيطان شهيّةً، على مثال ما فعَلَ مع آدم وحوّاء عندما صوّرَ لهما أنّ ثمرةَ الشّجرةِ المحرَّمَة "جيّدةٌ للأكلِ، وأنّها بهجةٌ للعيون وشهيّةٌ للنّظر" (تك 3: 6). مِن هذه الرّذائل، شعورُ الإنسانِ أنّ التّنافسَ لذيذٌ، إذ يمنحُه الأملَ بالبقاء كما أنَّ "البقاءَ للأقوى" في شريعة الغاب. لذلك، كَثُرَتْ الحروبُ في عالمِنا: حروبٌ دمويّة، حروبٌ ثقافيّة، حروبٌ إثنيّة، وغيرها من أنواع الحروب الّتي يشنُّها الإنسانُ إثباتًا للذَّات، للأنا.

هنا لا بدَّ من أن نذكُرَ حربًا بشعةً يشنُّها إنسانُ اليوم على نفسِه قبلَ الآخرين، أعني حربَه على الطّبيعة. بيئتُنا اليومَ تُحْتَضَر، لأنَّ التّنافُسَ بينَ البشرِ أصابَها في الصّميم، فاقتُلِعَتِ الأشجارُ وغُرِسَ مكانَها الإسمنتُ الّذي يدرُّ أرباحًا أكثر، وأُنشِئَتِ المعاملُ وتضاعفَتِ السّيّاراتُ وكَثُرَتِ القُمامَةُ وغطَّتِ المُلَوِّثاتُ وجهَ الأرض، وحَلَّتْ مكانَ الغاباتِ والحدائق، فغزا التّصحُّرُ كوكبَنا وارتَفَعَتْ حرارةُ الأرضِ وتغيَّرَت طبيعتُها، فانقرضَتْ نباتاتٌ وأنواعٌ كثيرةٌ منَ الطّيورِ والحيوانات، وكَثُرَتِ الجراثيمُ حتّى اعتلَّتْ صحَّةُ الإنسانِ، وهوَ ما زالَ غيرَ مُبالٍ بما تقترِفُ يداه. والأَدهى أنَّنا في لبنان نجهلُ، أو نتجاهَلُ الوضعَ، بل نُمعِنُ في الإساءةِ إلى البيئةِ بواسطةِ مشاريعَ تنعكِسُ سلبًا عليها وعلى صحَّتِنا، كإِنشاءِ المراملِ والكسَّاراتِ والمطامرِ أو المحارق، حتّى أصبحَ بلدُنا في طليعةِ البلدان من جهةِ نسبةِ التّلوّثِ والإصابةِ بالأمراضِ الخبيثة. ويبشّروننا بإقامةِ محرقةٍ في بيروت، ضاربينَ عرضَ الحائطِ صحّتَكم، صحّةَ أبناء بيروت، أولادِكم. 

يقول لنا ربُّنا على لسان الرّسول بولس: "تنافسوا في المواهب الفضلى، وأنا أُريكم طريقًا أفضل" (1كو 13: 31). ما هي تلك المواهب الفضلى؟ هي كلُّ موهبةٍ لا تسعى إلى إلغاءِ الآخر، أو تشويهِ سمعتِه، أو إنقاصِ قيمتِه، أو تهديدِ حياتِه. هي كلُّ موهبةٍ تُكَمِّلُ الآخرَ وترفعُه. هي كلُّ عملِ محبّةٍ نقوم به من أجل الآخر. لذلك نقول إنّ العِلمَ هو سلاحُنا الأقوى، لأنّ الإنسانَ المتعلِّمَ حقًّا، لا تهمُّه مكانةٌ اجتماعيّةٌ ولا مكاسبُ مادّيّة، إنّما يسعى إلى رفعِ مستوى البشريّةِ العلميّ والثّقافيّ والحضاريّ، فيصبحُ العالمُ تذوُّقًا مسبَقًا للفردوس على الأرض.

أبنائي وبناتي الأحبّاء،

"العِلمُ ليس تحضيرًا للحياة، إنّما هو نفسُه الحياة"، هذا ما قاله الفيلسوف الأميركيّ، والمُصلح التّربويّ John Dewey، ونحن نزيد عليه اليوم ما قاله الرّبُّ يسوع: "أنا الطّريقُ والحقُّ والحياة" (يو 14: 6). نعم، العلمُ حياةٌ، لكنَّ الحياةَ من دون المسيح ليست حياةً حقيقيّة. إذا عِشْنا لتحقيقِ أمجادٍ شخصيّة، يصبحُ هدفُنا تدميرَ الآخر لكي نصلَ إلى ما نطمحُ إليه. أليس هذا ما يحدثُ في عالمِنا اليوم؟ كلُّ محبٍّ لأناه يسعى جاهدًا إلى شنّ حربٍ شعواءَ ضدَّ الآخرين، ويظنّ أنّه بذلك يحقّقُ نجاحًا، غير أنّه لا يحقّقُ سوى الموت: الموتِ الرّوحيّ والنّفسيّ والجسديّ. فقط إن اقترنتْ أعمالُنا بالمسيح، وإن أعطينا مجدًا للرّبّ من خلال نجاحاتِنا، حينئذٍ تتحقّقُ الحياةُ للجميع، ويصبحُ الجميعُ إخوةً يسعون معًا نحو غدٍ أفضل للبشريّة جمعاء، مهما تفاوتت المستوياتُ الاجتماعيّة، ومهما اختلفت الأعراقُ، والدّيانات، وهذا ما عبّرتْ عنه الأديبةُ الشّهيرة Helen Keller بقولها: "التّسامحُ هو أسمى نتائجِ العلم"، الأمرُ الواضحُ في كتابنا المقدّس القائل: "ليسَ يهوديٌّ ولا يونانيٌّ، ليس عبدٌ ولا حرٌّ، ليس ذكرٌ ولا أُنثى، لأنّكم جميعًا واحدٌ في المسيحِ يسوع" (غل 3: 28). لذلك، لا نخشَ أنّنا إذا ارتبطنا بالمسيح سوف نفشل، فهذه الفكرةُ يبثُّها الشّيطانُ في عقولِنا كي نبتعدَ عن نبعِ الحياة، ويصبحُ هو سيّدًا علينا وعلى أفعالِنا. إلهُنا قال لنا: "ألقِ على الرّبِّ أعمالَكَ فتُثَبَّت أفكارُكَ" (أم 16: 3)، أيّ إذا اتّكلْنا عليه في كلِّ شيء، تترسَّخُ أعمالُنا على صخرٍ لا على رمالٍ متحرّكة.

يا أحبّة، لا يمكنُنا أن نعيشَ كأفرادٍ على هذه الأرض، لأنّ الوحدةَ قاتلة. لا أحدَ يستطيعُ أن ينطوي على ذاتِه ويرتفعُ بمفردِه، إذ في التّبادلِ والتّحاورِ غنًى للجميع. نحن نتعلَّمُ من كلِّ شخصٍ ونعلِّمُ كلَّ شخص. لكنَّ المشكلةَ الكبرى في بلدِنا الحبيب أنَّ الكلَّ يريدون الأخذَ، ولا أحدَ يحبّ العطاء. ينسون ما قاله الرّبُّ أنّ "العطاءَ مغبوطٌ أكثرَ من الأخذ" (أع 20: 35) و«مجّانًا  أخذتم،  مجّانًا  أعطوا»  (متّى 10: 8). لذلك أصبح بلدُنا قالبَ جبنٍ تتناتشُه نفوسٌ لا تريدُ سوى القضم. بلدُنا مُرتَهَنٌ لأفرادٍ اختصاصيّين في بثِّ الطّائفيّةِ والمذهبيّةِ والكراهيّةِ والمصلحيّة، اختصاصيّين في تعبئةِ الخزينةِ الشّخصيّة وإفقارِ الوطنِ والمواطن، وفي تهجيرِ العقولِ وجعلِ البلدانِ الأُخرى تستفيدُ منها، بدلاً من تَبَنّيها هنا، في لبنان، لكي نكبُرَ بها ويكبرَ وطنُنا.

فيما أنتم اليومَ على مفترقِ طريق، أوصيكم ألّا تتكبّروا أو تنتفخوا، وخصوصًا ألاّ تيأسوا ممّا تشاهدون وتسمعون، لأنّكم أنتم مستقبلُنا. إيّاكم أن تضعفوا، بل تذكّروا دومًا قول الرّسول  بولس: "أستطيعُ كلَّ شيءٍ في المسيحِ الذي يُقَوّيني" (في 4: 13).

وفّقكم الرّبُّ في كلّ خطاكم، الّتي نطلبُ إليه أن يجعلَها ثابتةً في أرضِ هذا الوطنِ الحبيب، علَّنا نَشهَدُ قيامةَ لبنانَ الحقيقيّةَ على أيديكم".

بعد توزيع الشّهادات على الخرّيجين، ألقت باسمهم الطّالبة داريا عازار من مدرسة زهرة الإحسان كلمةً باللّغة الفرنسيّة، والطّالبة لين معصراني من مدرسة البشارة الأرثوذكسيّة كلمةً باللّغة الإنكليزيّة، والطّالبة أحلام شعبان من مدرسة مار الياس بطينا الثّانوية كلمةً باللّغة العربيّة، خصّصن فيها الأهل والمربّين بلفتة شكرٍ وتقدير.